كان ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية منذ أربعة عشر قرناً بمنزلة ثورة كاملة، ثورة عقائدية بالذات مركزها «التوحيد». ومن التوحيد نبعت فكرة «المساواة» وشيء كثير من العدل. كان ذلك كلّه يمثل انقلاباً كاملاً على منظومة القيم السائدة في معظم مناطق العالم حينئذ في مطلع القرن السابع الميلادي: عالم الشرق والغرب، أي العرب والفرس والروم واللاتين وصولاً إلى الهند والصين.كانت الظروف الاقتصادية والاجتماعية مهيأة كي تؤتي الثورة ثمارها في موطنها وما حولها، فقد كانت منطقة شبه الجزيرة، وبالتحديد الحجاز ومركزها مكة والمدينة، النواة التجارية الفعالة وسط العالم (المتمدن) آنئذ.
كانت الحجاز مركز التجارة بين اليمن والشام، ومن اليمن إلى أفريقيا الشرقية، ثم من الشام إلى إمبراطورية الروم جميعاً وما وراء المتوسط. كان التوسط التجاري هو مفتاح الحركة الدينامية الفاعلية، ومحورها الاجتماعي فئة التجار، وهم ليسوا تجاراً فقط إنما محاربون أيضاً ــ فاتحون، فهي طبقة أو «شبه طبقة»، «التجار ــ الفاتحون» كما عبّر سمير أمين. ومن التجار المحاربين الفاتحين ــ المؤمنين تكونت نواة فعالة اجتماعياً وأيديولوجياً، وتوفرت لها قيادة ممثلة بالنبي محمد (571 ــ 632م)، مفكراً ومقاتلاً وصاحب حسّ ملهم عميق.
توفرت «قاعدة» هي شبه الجزيرة العربية. وكان أن اكتسحت النواة بقيادة وقاعدة العالم من حولها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، فطاولت اليمن ومسّت أطراف الشمال عند الشام في غزوة تبوك، وتهيأت للعراق وفارس وحوض المتوسط. بعد وفاة النبي أدّب خليفته الأول «المتطاولين» ــ المرتدّة، ووأد الفتنة في شبه الدول الوليدة، ثم توسّع الخليفة الثاني «أمير المؤمنين» المنتظر (الفتح) إلى العراق ثم فارس، في معركة القادسية ونهاوند، حيث سعد بن أبي وقاص ورفاقه، وفي الشام كان دور خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح، واتسع القوس إلى مصر مع عمرو بن العاص.
مع فتح الأمصار، كانت عقيدة التوحيد والمساواة وشيء كثير من العدل قادرة على هزّ الأمصار هزاً وصولاً إلى جنوب أوروبا وإسبانيا ــ الأندلس ــ فانتشر الدين ومعه اللغة ومعهما عالم اجتماعي كامل جديد. ثم أخذ (الإسلام)، وهو الكل المعقد المكون من العقيدة والشريعة والفقه والعالم الاجتماعي الجديد، يتحول إلى حضارة انطلاقاً من بذور حضارة. وكان أن احتضن الأمويون والعباسيون الحضارة الجديدة ونشروها إلى أقاصى آسيا (الهند وأطراف الصين) وأطراف أوروبا (إسبانيا وصقلية وشطر من بلاد الفرنجة الأخرى: فرنسا وإيطاليا الحاليتين).
بادرت ضربات خارجية إلى محاولة تدمير الأعصاب المركزية لهذه الحضارة مشرقاً ومغرباً، فكان هجوم الفرنجة ــ تحت راية مزعومة للصليب ــ على ساحل الشام وأرض فلسطين في مطالع الألفية الثانية للميلاد (الحملة الصليبية الأولى 1096 ــ 1099 والثانية في 1145). وانكسرت موجة الهجوم الرئيسية تلك في معركة حطين (1187) بقيادة صلاح الدين الأيوبي. تلت ذلك موجة الهجوم التتاري التي نجحت في اجتياح عاصمة العالم الإسلامي بغداد عام 1258، وانكسرت الموجة الرئيسية الزاحفة إلى الشام في معركة «عين جالوت» بقيادة سيف الدين قطز ثم الظاهر بيبرس عام 1260.
في المغرب، كانت معركة كبرى مماثلة للمشرقية في قوتها القتالية في مواجهة زحف القوط على الأندلس، وإن تأخرت عنها زمنياً، وكان ما كان من جهد عسكري صارم على أيدي المرابطين، بقيادة يوسف ابن تاشفين (1083 ــ 1143)، ثم على أيدي الموحدين خاصة ابن عبد المؤمن (1163 ــ 1184). وكان للمواجهات الكبرى، أمام التحديات الخارجية، أثر كبير في استنفاد قوة المقاومة في الجسد العربي ــ الإسلامي طوال خمسة قرون وأكثر، من القرن الأول للألفية الأولى حتى السادس منه ونيّف، كما كان لها أثرها في تصدر القوى الاجتماعية المعسكرة المشهد العربي والإسلامي كله طوال القرون التالية، لتحل «العساكر» محل الأمراء وحلفائهم من التجار والحرفيين وكبار حائزي الأرض، كمركز لا ينافس للقوة بكل معانيها، القوة المجسدة حربياً واقتصادياً، والقوة غير المجسدة، ثقافة آفلة وتديّناً يرين عليه الجمود، ثم توسط القوة كلها في مجال الحكم، ممثلاً في قاعدة السلطة السياسية النابعة من فوهة البندقية، ومعها ينابيع الثروة من بعد.
هكذا، في نهايات العصور الوسطى الأوروبية (1453) تم فتح القسطنطينية لتُدْبِر دولة «الروم» المسيحية الشرقية، ويحل محلها العثمانيون: ورثة «السلاجقة» الذين حاربوا «الروم» قرناً بعد قرن، ثم ليقوموا على فتح أو إعادة فتح كل ما هو حول هضبة الأناضول، خاصة البلقان وشطراً من شرق أوروبا الحالية، والأقاليم الناطقة بالعربية كلها تقريباً، شرقها وغربها.
تشاء الأقدار أن يتزامن عوْد الصعود الإسلامي ــ نسبياً وبمعنى ما ــ على أيدى الأتراك العثمانيين، ولا سيّما بدخولهم القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، مع تحول نوعيّ هائل في شمال وغرب أوروبا اقتصادياً واجتماعياً ببزوغ نظام اقتصادي اجتماعي جديد هو النظام الرأسمالي الحديث، من قلب الزراعة فالتجارة ومنهما إلى الصناعة ثم المال، وأخيراً: التكنولوجيا.
كانت الدولة التركية العثمانية الناشئة والضاربة في جميع الاتجاهات بالعالم (القديم) حينئذ ذات سطْوة عسكرية ولكن مع تأخر اقتصادي لأسباب شتى، لذلك لم يترجم الصعود العثماني تقدماً اقتصادياً بقدر ما ترجم عسكرياً بالمساعدة في حماية «الثغور» في المنطقة العربية الإسلامية مشرقاً ومغرباً، وهي المركز الوسيط للتجارة العالمية آنئذ، في مواجهة الزحف البرتغالي ــ الإسباني (والهولندي) بعد سقوط الأندلس النهائي (1492)، ثم البريطاني والفرنسي، تحت أعلام الرأسمالية البازغة.
ذاك، إذن، جرح قديم ونازف لم يزل رغم تقلب الدهور، فقد انطبعت الهزيمة الحضارية محفورة في أحجار البناء العمراني وأذهان البشر. إن اعتزاز ذوي الحضارة بحضارتهم تلك، العربية ــ الإسلامية، كان أكثر من المألوف عالمياً إلى حد بعيد، إذا صح التعبير، بالمنظور المقارن، بفعل تداخل (المدنية) والثقافة لدى غالبيتهم، في الحقيقة، بالإرث التاريخي للعقيدة الدينية ــ الإسلامية.
ولما أخذت تنشأ حركة القومية العربية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ثم استوى عودها في أواسط القرن، كان تركيزها في البداية موجهاً ضد الأتراك العثمانيين في منطقة المشرق، ثم صار موجهاً في الأخير ضد العدو الخارجي في عموم الوطن العربي. وبذلك تحولت من محض حركة قومية عامة وثقافية ــ لغوية في مواجهة حملة «التتريك» قبل الحرب العالمية الأولى، إلى حركة سياسية في مواجهة السيطرة الاستعمارية الغربية والمشروع الصهيوني في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

عودٌ على بدء
عودٌ إلى ما قبل ذلك، إذْ كانت المنطقة العربية ــ الإسلامية المركزية، وخاصة قلبها العربي ومحوره «مصر ــ الشام» المملوكية، هي واسطة العالم التجارية، حتى اكتشاف رأس الرجاء الصالح في مطلع القرن السادس عشر، الذي بعده ران الركود على المركز وأطرافه القريبة في ظل الأتراك العثمانين، الذين توّلوا، بمعنى ما، حماية الأطراف المهددة في «الغرب الإسلامي» بخاصة، أي المغرب العربي الحالي، وشواطئه المديدة، من جانب إسبانيا الجديدة وريثة الحكم الإسلامي في الأندلس وقبلها البرتغال.
تلك، إذن، الموجة الثانية من التوسع الحضاري الإسلامي ونواته العربية، هي الموجة العثمانية، بعد الموجة الأولى الممركزة عربياً في مكة ودمشق وبغداد والقاهرة الفاطمية، مع بقاء آثار الشعلة الأولى قائمة في مراكش وفاس والقيروان، وإن بشكل مختلف.
كان أن تهددت الموجة الثانية ومركزها العربي ــ المصري، ومن حوله شبه الجزيرة خاصة جنوبها (اليمني ــ العماني حالياً) باكتشاف أوروبا البورجوازية الناشئة، انطلاقاً من إسبانيا ــ فاسكو دي جاما ــ للطريق الدائري من رأس الرجاء الصالح. وكانت قد جفت ينابيع التجارة الأوسطية مارة بين الشرق والغرب عبوراً إلى أفريقيا بعد أن هُزِم المماليك من البرتغاليين في موقعة ديو البحرية على شواطئ الهند عام 1502، تزامناً تقريبياً مع سقوط آخر معاقل الحكم الإسلامي في الأندلس. كانت هذه نقطة التحول الكبرى باتجاه هيمنة تركيا العثمانية لدرجة السيطرة على الشام من بين فكي المماليك (1516) وصولاً إلى المركز المصري نفسه (1517).
بعد ذلك، انتقل مركز الحضارة إلى أوروبا بدءاً من إسبانيا ومعها دولة «النمسا ــ المجر» بزعامة آل هبسبورغ التي كانت قد عجمت عود تركيا العثمانية الجديدة فلم تنكسر، بل دقّت أبواب فيينا. واستطاعت أوروبا أن تتقدم بالكشوف الجغرافية ــ بعد الأمريكتين ــ إلى سواحل أفريقيا والهند الشرقية، حيث حملت الطبقة البرجوازية التجارية ثم الصناعية مشعل الحضارة الجديدة وريثة الإسلام.
هكذا إذن، وقف عالم الإسلام تحتضنه تركيا المعسكرة مقابل أوروبا «الاقتصادية» الزاحفة إلى عالم ما وراء البحار، آسيوياً وأفريقياً وكذلك أميركياً. وكان أهل عالم الإسلام هذا، ومعه تركيا الحامية للثغور، ولو نظرياً فقط، قد استمرأ جلّهم اجترار (الإسلام ــ الدين) محولاً إياه إلى عقيدة ينتابها الجمود في أعراض «الدوجما» المعتادة، يتناوشها كل طرف من جانبه، طائفياً ومذهبياً.
أقدمية الجهاز الحكومي في مصر صارت تحول دون تطويع الجهاز وقابليته للإصلاح


ذلك، إذن، هو عصر «الانحطاط» الذي حاول الإبقاء على ما بقي قائماً من الشعلة الحضارية الذاوية، بذبالة شبه منيرة، اعتماداً على الشرح والتفسير على هوامش المتون. ولما اختفى «التجار ــ الفاتحون»، لم يحل محلهم تكوين طبقي مبادر، فقد انتقلت الدينامية الاجتماعية إلى أوروبا البورجوازية، وما عداها في العالم تُبَّع وتوابع. وطوال العصور الحديثة منذ مطلع القرن السادس عشر، ظل عالم الإسلام عسكرياً ــ تركيّاً، مع وجه مملوكي في المشرق، وآخر عسكري وارث للأندلس في المغرب، ومن حوله عالم «مختلف تماماً»، بل معادٍ.
لم يختلف حال العالم الإسلامي ــ ومركزه «الوطن العربي» الحالي العتيد ــ طوال القرون الخمسة الأخيرة تقريباً. خمسمئة عام ران عليها جمود عقائدي، وتجمد اجتماعي، ونقل بالعقل ودونه معاً، وتطلع ناحية الغرب في القرنين الأخيرين بالذات للأخذ دون عطاء.
هذا العالم لم يعد قابلاً للتطور الحضاري الحقيقي بحاله القائم ذاك إلا أن يشهد ثورة جديدة مشابهة في الدلالة العامة لثورة الإسلام المزلزلة منذ أربعة عشر قرناً، ولكنها ليست ثورة على الإسلام ذاته، وإنما ثورة تغتني به وتغنيه. منذ قرنين ونحن نجرّب ــ العرب ــ طريقاً خارج الإسلام ومن داخله غالباً، وفق أفهام بعضها منير وغالبها غير ذلك، فهل آن الآوان لاشتقاق بناء عقائدي واجتماعي جديد؟
لقد حانت الفرصة مع انتشار الاشتراكية في العالم وعندنا خلال القرن العشرين، وجربها بعضنا ولم يكمل لظرف داخلي وخارجي معقد. حانت الفرصة مع القومية العربية أيضاً خاصة بعد ثورة الثالث والعشرين من يوليو ــ تموز 1952 في القاهرة ولم يكتمل البناء القومي ــ الاشتراكي، إذ سرعان ما عاجلته قوى الغرب ومعها الوكيل الجديد ــ الإمبريالية الصغرى ــ الكيان الصهيوني إسرائيل.

مصر... الأمل
أفلا نستطيع، إذن، بناءً على قوى اجتماعية جديدة قوامها المنتجون «الذهنيّون»، في عصر الاقتصاد الرقمي، أن نقيم عالماً جديداً بأيديولوجيا متساوقة معه قائمة على القيم العتيدة: تطور دائب، ومساواة، وعدل... أيديولوجيا لا تنطلق من الماضي وحده، ولكنْ تُصالحه مع المستقبل الآتي، بل تفيد منه ما استطاعت بالتآلف مع المسيحية الشرقية.
هل نستطيع؟ لكن كيف لنا في مصر العربية أن نفعل ذلك وهذا ماضينا البعيد والقريب يجثم فوق الصدور، فضلاً عن ميراث الجمود ذي الطابع الكهنوتي، إن صح التعبير، الممتد بعمق وعَبَق، طوال قرون، تطل أشباح الهزيمة من بين كوّات التاريخ العريق.
وحقاً، إن بعض الشعوب تقع ضحية تاريخها بالذات. هكذا الحال مع الشعب العربي في مصر.
فالوحدة الوطنية التامة أو شبه التامّة النافية للُفرقة والشرذمة غدت منذ عشرات السنين تحول دون إمكانية انبثاق أحزاب سياسية فعالة على عكس الحال مع بلدان المشرق العربي مثلاً ذات الهشاشة البنيوية من الزاوية الجيوبوليتيكية في عصرنا. لكن ذات القوة الفعلية في بنيانها الحزبي فكأن فُرقتها سرّ نجاحها النضالي الشعبي: «سوريا ــ لبنان»، فلسطين، وإلى حد ما العراق والأردن.
ثم أن قِدم أو «أقدمية» الجهاز الحكومي في مصر، ذي الذراع الضاربة في أعماق التاريخ، صارت في ظل الدول الحديثة تحول دون تطويع الجهاز وقابليته للإصلاح بفعل مقاومته للتغيير. فهو واهنٌ ثقيل الخطى عكس الحال مع بلدان أخرى ذات ماضٍ قريب في مجال «بناء الدولة»، فقد أسست جهازاً إدارياً للدول الوليدة من «نقطة الصفر»، فكان لبعضها ما أرادت من استخدام جهاز الحكم بقدر عالٍ نسبياً من المرونة.
مصر معقد الأمل العربي، والأمل فيها معقود على تأسيس حركات سياسية منظمة فعالة ذات بعد تقدمي وعروبي عميق، ثم بناء جهاز للإدارة العامة وإدارة الإنتاج موافق للعصر الجديد تحت رايات التنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية والاستقلالية الوطنية ــ القومية الحقيقية.
* أستاذ في «معهد التخطيط القومي» في القاهرة