ليست الرغبة في التحامل على التيار العوني هي التي أملت هذه القراءة. إنها حق مساءلة من هم في الحكم. صوّت 80% من المسيحيين للوائح التيار العوني في 2005، وكانت النسبة أقل في 2009. تستمر منذ ذينك التاريخين الهجرة كنزف داخلي يبدّد العائلات ويجعلها شتاتاً في أربع أصقاع المعمورة.1. قبل تسعة وعشرين عاماً، خرج الجنرال عون على إملاءات الموفد الأميركي مورفي، الذي جاء لتعيين رئيس للجمهورية يؤبّد وضع الحرب الأهلية القائمة. أطلق خروجه ذاك تعبئة جماهيرية وشبابية جعلت من حلف الجيش والشعب آنذاك حالة «خروج من ديكتاتورية» الميليشيات. كان الإرهاب الفالت من كل عقال قد جعل الناس كتلة فقدت ملكة النطق، وباتت تعبّر بالصراخ فقط في ساحات قصر بعبدا. استفاد اللبنانيون كلّهم من تلك الانتفاضة التي أنهت الحرب.
نغّص عليهم في بداية حقبة ما بعد الحرب، تلكؤ الميليشيات في تسليم سلاحها. بقوا سنتين يراقبونها وهي تتباطأ، ولم يصدقوا أنهم تخلّصوا منها في نهاية المطاف. لم يشعروا بالظلم نتيجة إنهاء تجربة عون بالحسم العسكري. وفّر لهم السلم السوري الأمن.
بقيت مجموعات شبابية، كانت على احتكاك مباشر مع الجنرال عون، على فكرة أن ما حصل غير مقبول. حملت لواء مظلومية جديدة. لم تكن هذه مشاعر الغالبية الساحقة من المسيحيين، الذين تفرّجوا على مدى سنتين على ذهاب 300 ألف منهم إلى هجرة دائمة ونهائية. اكتفت المجموعات الشبابية كبرنامج سياسي ومحرك للتعبئة بشعار من ثلاث كلمات: «حرية، سيادة، استقلال». أغفل القادرون منهم والأكبر سناً أهمية الدراسة والبحث والتنقيب لإعداد مشروع بديل لمستقبل لبنان. غابت القاعدة الفكرية، وغابت المهنية في العمل السياسي، لدى المتنطحين للبناء على إرث عون. جعل ذلك الكتلة البشرية التي راهن هؤلاء عليها، والتي كان تدخّلها وراء إنهاء الحرب في لبنان، غير ذات شأن على مدى عقد ونصف عقد.
2. حين عاد الجنرال عون من فرنسا عام 2005، لم يكن الناس الذين دعموه على بيّنة مما سيفعل. كانوا يسلّفونه ثقة. والأهم من ذلك، كانوا يردّون له الجميل، لأنه واجه الميليشيات وخلّصهم منها، وأجبر الأوصياء الخارجيين على لبنان على الاتفاق على إنهاء الحرب.
قبل «حرب تموز»، وقّع مع «حزب الله» «وثيقة التفاهم». أظهرت الوثيقة أن الجماعات، على افتراض أن لبنان جماعات وجماعات فقط، يمكن أن تتعاون بدل أن تتقاتل. جعلت مواقف الجنرال منه في المعسكر المواجه لذلك الذي ينفّذ أجندة الأميركيين في المنطقة ولبنان.
صانت «وثيقة التفاهم» السلم الأهلي، وضخّت مشاعر إيجابية لدى كل مسيحي تجاه مواطنيه الشيعة والمسلمين بوجه عام. فعل عون نقيض ما فعلته الميليشيات التي تكلّمت باسم المسيحيين، وضخّت «الخوف والكراهية» في أوساطهم على مدى 15 عاماً.
3. التقى الجنرال بعد عودته الناشطين على الأرض مرّات. لم يكن لدى هؤلاء الكثير يعبّرون عنه، خارج شعار الكلمات الثلاث. حاولوا على مدى التسعينيات أن يستعيروا بعض خطاب الميليشيات السابق ويعتمدوه وسيلة للتعبئة. انتهى إلى استبدال هؤلاء بأناس ناجحين من أوساط الأعمال. نشر صحافيون معطيات استخرجت من السجل التجاري، تُظهر سياسيّي التيار، من بين آخرين، كأصحاب أعمال ومقاولين قبل كل شيء.
قيل إنه كلّف مثقفين وأساتذة جامعيين التثقيف السياسي لتياره. لم يحصل تثقيف. صحّ فيهم ما قاله عنهم وضّاح شرارة ومحمد أبو سمرا في كتابهما عن «شيعة عون».
غابت عن التيار أهمية بلورة رؤية متكاملة للإصلاح في لبنان، تتضمّن قراءة جديدة لوضعنا الاقتصادي، وعناصر البديل التنموي المطلوب. بقيت طروحاته مقصّرة بشدة عن تقديم بديل لما هو قائم. لم يقدّم التيار أي تأسيس نظري من أي نوع لما يرغب في عمله. هذه القراءة الجديدة لوضعنا الاقتصادي وللبديل التنموي المطلوب، هي أمر كان يمكن أن يتخصّص التيار فيه ويتابعه على مدى السنوات، ليكتسب أهلية فعلية في هذا المجال. كانت الخيبة من هؤلاء في مستوى الطموحات والآمال الكبيرة التي علّقها الناس عليهم.
تقدّم وزراء التيار بمشاريع تطوير لخدمات الكهرباء والاتصالات، واعتقدوا أن هذا هو كل ما هو مطلوب منهم، وأنه كافٍ. تعرّضوا لعرقلة مشاريعهم. وهي عرقلة كانت ممكنة ومتاحة، لغياب أي ربط لهذه المشاريع بتصوّر تنموي متكامل لديهم. وهو تصوّر لم ينوجد لديهم في أي وقت من الأوقات. وقام الناشطون من التيار أكثر من مرّة بعراضات في الشارع لتسويق الإنتاج الزراعي.
لم يتطرّق ممثلو التيار مرّة إلى الانفتاح الكامل على المستوى التجاري، أي إلغاء أي شكل من الحمائية للقطاعات الإنتاجية، الذي فُرِض على لبنان. لم يقترحوا في أي أمر نقيضاً لإملاءات المؤسسات الدولية. لم يُثر انهيار القطاعات الصناعية واحداً بعد الآخر، منذ عام 2000، لديهم أية ردود فعل ولا اعتبروا أنفسهم معنيين بمناقشة هذا الأمر.
لم يجادلوا في التهميش المفروض على الإدارة العامة، تحت شعار «دولة الحد الأدنى»، ولا في سبل الخروج من هذا التهميش، وإعطاء فعالية لهذه الإدارة. انبروا لافتعال منازعات حول حصة المسيحيين في الإدارة، وحول هذا الموقع أو ذاك، في إدارة شاغرة ومحطّمة ومُفرَغة من الطاقات. لم يفكروا في أن الإدارة العامة بحاجة لأفكار جديدة تُعطي تسويغاً للدور الذي يجب أن يُسنَد إليها في قيادة مشروع التنمية. لم ينتبهوا إلى أنها بحاجة لمشروع يتناول إصلاحها بكافة قطاعاتها، لجهة كيفية الانتساب إليها، وإعادة تعريف دورها لكي تصبح أكثر تدخّلية.
لم يناقشوا في إمكان أن يكون لبنان دولة صناعية وشروط ذلك. أي في كيفية العمل من أجل أن تُشرِّع الدولة سيرورة «تعلّم تكنولوجي»، يكون القطاع الخاص محرّكها، تحت إشراف الإدارة الحكومية. لم يقدم ممثلو التيار في الحكم فكرة واحدة جديدة حول التغيير المطلوب للبنان.
انتقد هؤلاء الممثلون الفساد، وركّزوا عليه كقضية، وأصدروا «الإبراء المستحيل». ارتأى أحدهم كتابته بلغة عاميّة لتقريبه إلى لغة «العامة».
انبرى ممثلو التيار لافتعال منازعات حول حصة المسيحيين في الإدارة


4. أظهر العونيون منذ «مشروع قانون الانتخابات الأرثوذكسي»، أنهم بدأوا يلجأون إلى التعبئة على أساس الهوية الطائفية، لتعويض إفلاسهم البرنامجي والإصلاحي. انكفأوا إلى شعارات «حماية حقوق المسيحيين»، لإيجاد مبرّر لمعاركهم وحضورهم في وسط الساحة السياسية. باتوا يصولون ويجولون تحت هذا الشعار الذي لا يملكون غيره. وهو شعار مفيد من جوانب عدّة، ليس أقلّها أنه يمكّنهم من توزيع ترضيات ومغانم.
كان يصل إلى المواطن العادي، الذي اعتمد على هؤلاء لاجتراح مستقبل جديد للبنان، أنهم يخوضون أسوأ المعارك ويدخلون أسوأ السجالات ويتبنّون الخطاب الأكثر إحباطاً لهم، من أجل ضمان نجاحات انتخابية. شعر الناس بأنهم إذا تحقّقت لهم نجاحات، فلن يعرفوا كيف يستثمرونها من أجل مستقبل أفضل للبنان.
كان يصل إلى المواطن العادي، أنهم غارقون في تناتش فرص الكسب من الموارد العامة، وأنهم يستخدمون انتماءهم المذهبي للتغوّل على هذه الموارد. وقد استحقوا الوصف بأنهم «المحرومون الجدد».
يتحوّل أي مشروع تعيينات في الإدارة العامة لدى هؤلاء إلى مشروع مماحكات تطبق على صدور المسيحيين وتزيد على يأسهم يأساً.
وجد بعض ممثلي هذا التيار خلال الفترة الماضية، أن التصريحات التي تحمل مضموناً سلبياً أو عنصرية أو عدائية تجاه الآخر هي الأكثر لفتاً للانتباه، فصاروا يُكثرون منها. يُطلب من المسيحيين أن يعوّض حضور هذا النوع من المسؤولين قهرهم، وأن يسكِت الهواجس التي تنتابهم بشأن مستقبلهم كجماعة.
5. ما أشبه اليوم بحقبة المتصرفية! استمرّت النخبة السياسية ممثلة بالزعماء التقليديين، ورثة المقاطعجيين، وبالوافدين الجدد إلى النخبة في المناكفات مع السلطنة العثمانية، حول الضرائب والرسوم التافهة التي كانت تُفرَض، وحول أمور أخرى أقلّ أهمية، فيما كان شعبها يذوب من أمامها بالهجرة بوتيرة مذهلة. عبّرت عن قصور وغباء وعدم مسؤولية قلّ نظيرها. وحين جاءت الحرب العالمية الأولى والحصار البرّي والبحري، كانت الأغلبية الساحقة من شباب المتصرفية قد هاجرت، ولم يعد باستطاعة من بقوا أن يواجهوا المجاعة. وهي كادت أن تبيدهم عن آخرهم. تمثّل هذه النخبة نسخة عن النخبة القاصرة أيام المتصرفية التي تركت شعبها يتبدّد بالهجرة، لأن لا فكر لديها ولا مشروع، ولا قدرة على المبادرة في التنمية.
6. تشتد حدّة السؤال الذي يطرحه المسيحيون على وجه الخصوص على أنفسهم، ما العمل؟ ما العمل للتصدي لنزف الهجرة. تجعل الهجرة مستقبل الجماعة هاجساً لكل منهم لا يمكن الخروج من أسره. وقد ورثوا هذا الوطن، ويكتشفون كل يوم كم هو استثنائي وكم هو ثمين بالنسبة إليهم. وكل منهم يعرف أن انهيارهم الديموغرافي وتحوّلهم إلى أقلية صغيرة، سينهي وجودهم بالكامل، لأن عددهم المتناقص سيحولهم إلى نكرة في القضايا التي تتناول الشأن العام، فيزول لديهم ما يربطهم بأرض أجدادهم.
التصدي يكون بخيارات لا أحد يقترحها، ولا التيار في موقع تدارسها وتبيان تفاصيلها. بل إن هذا التيار بات يلعب دور نزع ــ تعبئة في ما يخص الإصلاح. انتظر الناس سنة بعد سنة، وعقداً بعد عقد. يصح الاستنتاج أن مجموعة كهذه لا يمكن الركون إليها في البحث عمّا يؤمّن مستقبل المسيحيين، وأنه لا يجدر التعويل عليها في أمر كهذا.

* أستاذ جامعي