«قال الجنرال للفتاة الصغيرة: غداً ستعرفين معنى الخوف. قالت الفتاة: ولكن كيف سأعرفه؟ فأجابها الجنرال: ستعرفينه حينما ترينه، لأنّه سريع، عنيفٌ، لا يترك لكِ مجالاً للتفكير. سألت الفتاة بتردّد: طيب إن عرفته كيف سأواجهه؟ أومأ الجنرال برأسه: بأن تبقي مخلصةً لمبادئك، لما تؤمنين به، لما تشعرين بأنه الحق والصواب».
من الأساطير الآسيوية القديمة

انتصر محور المقاومة عسكرياً؛ ذلك أمرٌ لا لبس فيه. في اللحظة عينها، كان هناك رجالٌ يركضون في كل مكان في أحد مراكز الدراسات الاستراتيجية في إحدى العواصم الغربية الكبرى. حمل هؤلاء الباحثون معهم خططاً جديدة لمواجهة ما حدث، يتملّكهم الرعب، يسكنهم خوف الدنيا من أنَّ الجراد قادم، والمغول باتوا على الأبواب. بدا أنَّ النهاية قد باتت وشيكة حتى الحلم بالسيطرة على الشرق صار أبعد وأبعد. نقطة. لم يحدث ذلك البتة، ولن يحدث، على الأقل في المنظور القريب والمرئي. لن يهرع أحدٌ لتغيير خططه، لن تغيّر الإمبرياليات ودول الاحتلال الكبرى (سواء عسكرياً أو ثقافياً) أياً من خططها تجاهنا: هي أصلاً تنتصر، لماذا تحتاج لتغيير هذه الخطط؟

الخطوة الأولى: أونلاين

اكتشف «العرب» مواقع التواصل الاجتماعي قبل أعوامٍ قليلةٍ خلت (عام 2008 تقريباً). يومها شعروا بأنّهم امتلكوا العالم. وسيلةٌ يستطيع أيٌ كان قول ما يريده، في أي لحظةٍ كانت، مهما كان سخف ما يقوله. الأجمل من كل هذا والأحلى: أن هناك «معجبين» بكلامه هذا، مهما كان نوعه أو غرابته. هنا في لحظةٍ ما خلق مفهوم «المؤثّر» (Influencer). وبحسب مقالةٍ نشرها موقع influencermarketinghub.com فإنَّ أنواع «المؤثرين» على مواقع التواصل تنقسم إلى أربعة: المشاهير، الأكاديميون، خبراء الاقتصاد/الصناعة/ قادة رأي/كتّاب المدوّنات (Bloggers)، وأخيراً المؤثرون الهامشيون (Micro Influencers). هنا وقعت الواقعة: ماذا نفعل؟ نحن ـ كعرب - أصلاً ليس لدينا بنية اجتماعية مفهومة، بالتالي كيف يمكن الوصول إلى هؤلاء «المؤثرين» إذا لم يكن هناك «بيئة حاضنة» لتخليقهم؟ بدايةً: نحن ليس لدينا مشاهير، بما تعنيه الكلمة بالنسبة إلى الغرب، فالعلاقة مع المشاهير في البلاد العربية تختلف عن مثيلتها في الغرب، إذ ليس هناك عبادة للنجم، ومرحلة التأثر أو التشبّه به لا تتخطّى مرحلة المراهقة العمرية. الأمر نفسه ينسحب على الأكاديميين وخبراء الاقتصاد والصناعة، إذ لا «خبراء» في هذه المجالات يمكن الحديث عنهم «عربياً»، وإذا ما حدث لا يهتم الجمهور لما يقولونه البتة. الأمر ذاته يتكرّر مع كتاب «المدونات» (Blog) إذ بعد ظهور ثقافة التدوين في تسعينيات إلى أول الألفية انتهى دورها مع تصاعد دور مواقع التواصل الاجتماعي، فانقرضت بشكلٍ كلي ـ هي وكتّابها - على الرغم من أنَّ بعضها ممول ومدعوم (كمدونات «الجزيرة» و«هافنغتون بوست بالعربية»). يشرح المدوّن حسين يونس في مقالةٍ له على موقع «هافنغتون بوست» بالعربية أن الأسباب التي تجعل المدونات العربية (الممولة والكبيرة، كمدونات «الجزيرة» مثلاً) تفشل هو «تفضيلها» للأسماء الكبيرة والمشهورة فضلاً عن عدم إتاحتها للفرص للكتاب الناشئين. بقي إذاً «قادة الرأي وصنّاعه» و«المؤثرون الهامشيون». لم يعرف الجمهور العربي الفئة الأولى البتة قبل مرحلة مواقع التواصل، إذ يغيب الشباب العاديون/ اليوميون/ الفقراء- عن أي «رأي» من أي نوع (خارج مواقع التواصل الاجتماعي)؛ فيما لم يمتلك المجتمع ذاته أي «مؤثرين هامشيين» لأن الهامش إلى حدٍ كبير «محرّم» (Taboo) بالتالي لن يكون هناك شخص يتحدّث معك «بصراحة» في «الجنس» (بتفصيلاته كما يحدث في الغرب)، إلا إذا اعتبرنا هؤلاء المؤثرين الهامشيين ممن يتحدثون بالطبخ وصناعات «التريكو»، هنا يصبح جمهورهم محدوداً ويفقدون بالتالي ميزة «التأثير».
نجحت مواقع التواصل في ما حلمت به الأنظمة القمعية منذ بداية الخليقة


شيئاً فشيئاً، بدأ نوعٌ من المؤثرين بالظهور: اكتشف البعض أهمّية شراء «اللايكات/ المعجبين/ المتابعين». إنها فكرة إغراء أن تتابع شخصاً يتابعه «الآلاف»، أن تعرف ماذا يقوله، مهما كان سخيفاً، مهما كان وضيعاً. بدا أن نوعية المؤثرين هؤلاء تناسب الجو المراد تخليقه تماماً: سخفاء، وضيعون، والأكثر من هذا لا يحملون أي بنية ثقافية من أي نوع. فلنفسّر أكثر: يتحدّث غالبية هؤلاء إما بلغةٍ سوقية أو بمنطقٍ جلف مع استعمال الشتائم بطريقةٍ «شوارعية» دون أي اهتمامٍ أو مراعاة لأي شيءٍ من أي نوع. يتحدثون في أمورٍ «مهمّة» نسبياً (كالأزمات الكثيرة في بلادنا: السير، الطبابة، الكهرباء وقس على ذلك) لكن بطريقةٍ سطحية ودون وعيٍ في كثير من الأحيان، لا لطبيعة المشكلة الحقيقية ولا لأسباب حدوثها. يتناولون قضايا مصيرية بالكثير من الاندفاع ودون وعيٍ في كثير من الأحيان: كالدعوة إلى النزول إلى الشارع لمواجهة أمر ما مثالاً وجر الناس إلى مواجهةٍ مع «السلطة» (أي سلطة) دون النزول شخصياً، أو على الأقل دون تحمّل مسؤولية ذلك أو حتى استيعاب ما تعنيه خطوة كهذه. يمتلكون القدرة على «الإهانة» وتوجيه «الشتائم» لمعارضيهم بسرعةٍ بالغة ضمن منطق ليس هناك أي «حدود»، هنا نحن «Untouchables»، أو «كليّو القدرة»؛ وهذا الأمر أثبتت مراراً أنه غير حقيقي (سواء لتعرض هؤلاء للملاحقة القانونية، أو حتى التعرض للإيذاء الجسدي على الأرض). رغم هذا كلّه نجح هؤلاء في تكوين «طبقةٍ» حقيقية من المؤثرين العرب الذين بات حتى الإعلام الكلاسيكي محتاجاً لظهورهم ودعمهم له: إذ يحكي أحد «المؤثرين» أنه فوجئ ـ قبل سنواتٍ مع بداية شهرته - أنَّ كثيراً من مشاهير بلاده يرسلون له رسائل «تشجيع» و«محبة» و«طلب الدعم» فضلاً عن روابط إلكترونية لحلقاتهم أو برامجهم لنشرها أكثر، أو لتوسيع دائرة مشاهديها. كان من الطبيعي أن «يجن» هؤلاء المؤثرون بسرعةٍ بالغة.
هنا، لم يحتج الغرب ومراكزه إلى تخليقٍ لخطرٍ من أي نوع، كانت المجتمعات التي دخلها «التواصل الاجتماعي» تعطيها ما تريده وأكثر. فأن تصبح أهمية المواضيع مرتبطةً بما يحكيه هؤلاء «المؤثرون»: يحصل «تصريحٌ عنصري لمغنيةٍ عادية لم يكن أحدٌ يعرفها من قبل خارج حدود منطقتها الضيقة» على الأهمية الكبرى في وقت تغرق المنطقة بأكملها في صراعٍ عسكري/ ثقافي لم يحدث مثيله من قبل. انصرف المغردون/ اللائكون وبكل قوّتهم للتعقيب والتعليق على «تصريح» المغنية في الوقت الذي كانت واحدة من أقدم المدن العربية (دمشق) تتعرض للقصف من قبل حركاتٍ تكفيرية. هنا كان تشتيت الوعي وتجهيله يعمل بكل قوّته. لم تكن مراكز الدراسات ومشغلوها لتحصّل نجاحاً أكبر من هذا: فأن تلتفت لألوان جواربك وتأخذ بتأمّلها في الوقت الذي يحترق أفراد عائلتك أمامك، يعني أنّك إما مخبولٌ/ مجنون أو أنك تكرههم بكل ما أوتيت من قوّة. بدا الجمهور العربي في تلك اللحظة خارج كل هذا، خارج هذين التصنيفين حتى: بدا أن لعبة الأنظمة في دفعه بعيداً عن «السياسة» قد نجحت حتى ولو لم يكن لها يدٌ في ذلك البتة. أصبح العربي خارج كل حسابٍ وأي حساب، لا تعنيه القضايا الحساسة والمصيرية إلا بمقدار كونها موضةً مرحلية «Trend» أو وسماً «Hashtag»؛ وبخلاف ذلك تصبح نسياً منسياً. الأكثر جمالاً أنه حتى «الموضة» باتت سريعة التغيّر لدرجة أنه مجرد تغيّبك افتراضياً لساعات قد يجعلك «خارج السرب/ القطيع». نجحت مواقع التواصل في ما حلمت به الأنظمة القمعية منذ بداية الخليقة: خلق قطيعٍ مثالي افتراضي، يهزّ ذيله، ورأسه ويثغو منتظراً السكين للذبح.
(ملاحظة: قبل أكثر من 4 أعوامٍ كتبت هذا المقال لأعود لكتابة الجزء الثاني منه لأن السبب الذي دفعني للكتابة في المرّة الأولى لا يزال هو عينه)
* كاتب فلسطيني