إن التطور الإعلامي والتكنولوجي فضلاً عن ثورة الاتصال والتواصل أثّرت بشكل كبير في رؤية الناس للعالم وأصبحت تصوغ الأذواق وترسم التطلّعات وتتلاعب بالرأي العام. إنها تستحضر وهم الصدق والإقناع من خلال تسارع الصور وتتابعها على طريقة الكولاج (القصّ واللصق) وتعطيها بالتالي الأهمية ذاتها وتحجب الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال، فتعامل الأمور الإخبارية والإعلانات بصورة متساوية تقريباً فتترك الانطباع بأنها تتمتع بالأهمية ذاتها.
توجيه الاستهلاك والتلاعب بالرأي العام:

وتأتي الدعاية في سياق الإقناع فهي تدعو إلى تبنّي نمط حياة، فثّمة خطاب مزدوج لها، خطاب ظاهر حول السلعة وخطاب كامن ينقل تصوّراً معيّناً للحياة.
وبذلك يصبح الاستهلاك نابعاً من رغبات اصطناعية لهاثاً وراء آخر الأزياء والألعاب وأدوات التحكم عن بعد والتكنولوجيات والهواتف، لا ضمن مقاييس طبيعية تحدّدها حاجات الناس.
ووراء هذه الدعايات والرؤى الإعلامية فريق كامل من خبراء الدعاية والتحليل النفسي وعلم الإدراك والأنتروبولوجيا لتقديم السلع بشكل يُرسِّخ «صدارة الانطباع» ويجعل من اللغة الإلكترونية ذات قدرة تأثيرية تفعل فعلها بشكل عفوي، وباعتبارنا مشاهدين لصور الإعلانات، لا نفكّر غالباً في الطرائق التي تنشط من خلالها الصور كنصوص أيديولوجية كما أنها تؤثر في صورة الذات الخاصة بنا، وهذا يعني أن المعايير التي تعرضها تمثل جانباً مهماً في النظرة المحدقة المعيارية التي ينظر من خلالها المشاهدون إلى أنفسهم، والنظرة المحدقة المعيارية تعبِّر عن النموذج المعياري المرسوم من خلال السلطة التي يراها فوكو تعبيراً عن القدرة على تحقيق المعيارية للأجساد من أجل الحفاظ على علامات الهيمنة والخضوع.

الكاميرا المحدقِّة والنموذج المعياري

صحيح أن فوكو لم يحلل دور ميديا الاتصال في نقل أشكال الخطاب وعلاقات السلطة وأهمل سلطة الميديا التي أبرزها «بودريار» ولكن النقطة الجوهرية في نموذجه تتمثّل في أن المراقبة الفعالة أو المرئية ليست هي التي تؤثر في السلوك ولكن بنية المراقبة هي التي تنتج السلوك المنصاع للقوانين، فالكاميرات أصبحت جزءاً من حياتنا اليومية في المحال التجارية والمطاعم والأماكن العامة والشوارع وهي تُستخدم كشكل من أشكال ضبط السلوك وهي دليل على الحضور المرئي أو الخفي للنظرة المحدّقة الفاحصة التي نشعر بوجودها دائماً وإن كان وجودها فقط يكفي لإحداث تأثيرها وهذا ما تنبّه له فوكو وقام بتعليله بعمق.
لقد تعاظمت تكنولوجيا الممارسة الانضباطية ــ كما يعبّر فوكو في كتابه المراقبة والمعاقبة ــ واختراعات التكنولوجيا الحديثة بسبب زيادة الحاجة إلى قولبة الإنسان حسب ضرورات الإنتاج الحديث وتسويقه واستهلاكه.

كيفية قولبة السلوك وتحديد الدور حسب النشاط الاستهلاكي

ومن يسيطر على وسائل الإعلام يكون قادراً على قَوْلَبَة سلوك أعداد هائلة من البشر بمختلف الوسائل سواء الموضة أو الإعلان أو الفن أو التكنولوجيا أو حتى الرياضة، وهذه كلها تُمثِّل مفاتيح تمسك بمحدّدات الصورة الاجتماعية التي تُرسم ويسعى الفرد إليها ويتم توظيف رموز الثقافة الشعبية من مشاهير الفنانين والفنانات إلى نجوم الرياضة وحتى الشخصيات الخيالية في قصص الأطفال. ويتم التسويق لهذه الصورة المزيفة للفنان والمرسومة لما يراد له أن يمثله من خلال التكرار الهائل الذي تمارسه وسائل الإعلام فتصبح الصورة المزيفة هي المعيار في تحديد هوية الأفراد داخل المجتمع بغض النظر عن الطبقة أو الخلفية الاجتماعية، وهذا ما تحدّث عنه «بودريار» عن الكيفية التي أصبح من خلالها النشاط الاستهلاكي يلعب الدور الأبرز في تحديد الهوية الفردية.
وأصبحت القوة والسلطة في الفضاء الاجتماعي تتمثّل بوصفها القدرة على الإنفاق الفائق وتبنِّي نمط حياة معين من خلال السلع الاستهلاكية المرتبطة بأسلوب الحياة تلك.
وهنا تدخل منظومة كاملة من المفاهيم والتصورات المرتبطة بالفرد وتحقيق الذات مثل السعادة والجمال والقوة والترفيه والمغامرة وتغيير الواقع والحرية، وأصبح الاستهلاك مرتبطاً بالصورة التخيّلية التي يضيفها امتلاك السلعة على الهوية الفردية وطريقة نظرة الآخرين ضمن الفضاء الاجتماعي المشترك، وأصبح التملك للأشياء هو البديل عن كينونة الإنسان وبعد أن كانت هناك علامات تميّز المجتمعات أصبحت الماركات هي العلامات كما غدت مراكز التسوّق تُمثّل معابد الاستهلاك.
إن مقولة «أنا أفكر إذاً أنا موجود» الديكارتية والتي شكلت أساس ما قامت عليه الفلسفة والحداثة الفكرية في الغرب تمَّ قلبها من قِبل الناقد نايجل واطسون إلى «أنا أتسوّق إذاً أنا موجود» حيث أصبح الوجود ضمن المجتمع ما بعد الحداثي يعني الاستهلاك وأن تكون موجوداً يعني أن تكون مستهلكاً.
ومن هنا يمكن القول إن هذه النظرة المحدّقة التي تحدث عنها فوكو مطبوعة في لاوعي الفرد، والمتابع لوسائل الإعلام وتقنياته وهي ترسم المعايير والحدود والنموذج الذي يضبط السلوك ويصوغ الشخصية حتى تكون شخصية معاصرة أو «على الدُّرجة» وتكون خياراته محكومة بطريقة لا تحيد عن الصورة التي تُبَثّ بشكل دائم ومتسارع.
إن مواكبة العلم والتقنية أمر مهم وضروري شرط أن يتم ضمن حراك داخلي في المجتمع فاعل ومنتج، ينظر إلى الأمور من خلال هويته الثقافية حتى لا نجد أنفسنا بعد فترة خارج حركة الحياة أو مستهلكين كونيين خاضعين للمطارق الدعائية والنماذج المعيارية.
وحبذا لو استطعنا أن نستبطن النظرة المعيارية للأخلاق والقيم الإنسانية والسلوك الإنساني التي تصوغها الديانات السماوية كما نستبطن النظرة المحدّقة المعيارية للسلطة وإعلامها!
فالسلطة والسيطرة أصبحت الآن بيد وسائل الإعلام، وكل ما يقف خلفها من شركات تجارية عملاقة، تتنافس في نحت الأيقونات الدعائية التي تشد المستهلك وتبني وعيه وتصوغه بالشكل الذي تريده له، والذي يخدم حاجات السوق، إنها شركات تمثّل العين المُحدقة لسوق الاستهلاك والوعي الفردي.
* كاتبة وباحثة لبنانية