وقع حزب الله في فخّ سيصعب الفكاك منه. لقد أصبح الحزبُ، الذي انطلق حزباً سريّاً ملتزماً بمشروع طرد العدوّ الإسرائيلي من لبنان (بالإضافة إلى مشروعه الأوّلي في إقامة جمهوريّة إسلاميّة)، منخرطاً وبقوّة في النظام اللبناني ذي القشرة الديموقراطيّة. والانخراط في النظام الديموقراطي اللبناني المشوّه المعالم يُلزِم صاحبه بالالتزام بشروط وضوابط يضعها الراعي الإقليمي والدولي للنظام، بالإضافة إلى الزعماء المهيمنين.
والقبول بإخضاع مشروع المقاومة للاقتراع الديموقراطي (الشكلي)، أو جعل مشروعيّة المقاومة منبثقة من جملة متحذلقة في البيان الوزاري يمنح كل أعداء المقاومة -المحليّين والعالميّين- الوسائل الفضلى لمحاربة المقاومة. ويعلَّق الحزب أهميّة فائقة على نتيجة الانتخابات هذه، إلى درجة ينمّ عنها فيها قلقٌ من مصير وزنه البرلماني.
لكن ليس كل شيء في حياة الشعوب وفي تاريخ حركات التحرّر خاضعاً للاقتراع ومنطق الأقليّة والأكثريّة. هناك في النظريّات الديموقراطيّة فارق بين «الجمهوريّة» وبين «الديموقراطيّة»، حيث يخضع في الثانية كل شيء إلى منطق الأقليّة والأكثريّة، ويصبح كل شيء عرضة لأهواء الجمهور المتغيّرة. أما في «الجمهوريّة»، التي أرادها الآباء المؤسّسون في أميركا مختلفة عن النظام الديموقراطي النظري، فليس كل شيء يخضع للأكثريّة والأقليّة. لقد حذّر الآباء المؤسّسون من «الديموقراطيّة المفرطة» حيث يصبح كل أمر ومبدأ عرضة لتغيّر أهواء الجمهور الذي كان الآباء المؤسّسون يكنّون لهم الاحتقار (مفهوم الشعب الذي يرد في الأدبيّات المؤسّسة لـ«الجمهوريّة الأميركيّة» يعني حصراً الذكور البيض من أصحاب الأملاك والمزارع). وعليه، هناك في الدستور الأميركي ما لا يقبل التغيير بتغيّر وتوالي الأحزاب في المجالس التشريعيّة. ولهذا، فإن عمليّة تغيير الدستور في أميركا هي عمليّة شاقّة كي لا يستسهل الشعب العمل الديموقراطي ويطيحون، كما في فرنسا التي ينفر النظام الأميركي من ثوريّتها التاريخيّة ومن تقلّب مزاج أهواء شعبها، بأسس النظام.
يعبّر حزب الله من خلال تشديده على ضرورة الاقتراع وعلى أهميّة بعلبك - الهرمل عن قلق من إمكانيّة استخدام أعدائه للانتخابات لضربه أو لمعاقبته بطريقة من الطرق. لكن ماذا كان يتوقّع الحزب؟ هل كان يظنّ أن الانتخابات في لبنان هي بالفعل معركة ديموقراطيّة يُقرّر فيها الفرد اختياره بحريّة كاملة؟ إن الانتخابات، حتى في النظم التي لا يجري فيها تدخّلات خارجيّة جمّة كما في لبنان، هي لعبة لعناصر الطبقة الحاكمة كي تسيطر أو تضلّل وتغيّر أهواء العامّة. يمكن الاعتماد على تجربة الحزب النازي في سنتيْن فقط، من عام ١٩٢٨ حتى عام ١٩٣٠. في عام ١٩٢٨، لم يحزْ الحزب النازي إلّا على ١٢ مقعداً (أي نسبة ٢,٦٪ من أصل المقاعد البالغ عددها ٤٩١ مقعداً). لكن في انتخابات ١٩٣٠ - أي بعد سنتيْن فقط - قفز تمثيل الحزب النازي إلى ١٠٧ مقاعد (أي بنسبة ١٨,٢٥٪ من مجمل المقاعد البالغ عددها ٥٧٧ مقعداً). نستطيع في تحليل التطوّر الدراماتيكي في تمثيل الحزب النازي، الذي دشّن الاستيلاء التدريجي (الدستوري وخارج الدستوري) على السلطة في ألمانيا، أن نأخذ في الحسبان تدهور الوضع الاقتصادي الداخلي بعد الأزمة الاقتصاديّة العالميّة في عام ١٩٢٨ والتي أصابت ألمانيا بسبب ديونها من أميركا. لكن هذا العامل وحده لا يكفي. إن الحملة الانتخابيّة المذهلة التي خطّط لها جوزف غوبلز، والتي أصبحت قدوة مذّاك للحملات الانتخابيّة الأميركيّة، من حيث تسفير المرشّح بالطائرة لحضور عدة مهرجانات انتخابيّة في اليوم الواحد، وفي مناطق متعدّدة من البلاد، ومن حيث نشر الأعلام العملاقة والرموز الوطنيّة في كل عرض انتخابي وربط ترشيح الحزب بمصير البلاد برمّتها كانت عاملاً مُقرِّراً في فوز النازيّين. لقد استطاع الحزب النازي في غضون سنتيْن فقط تحويل الحزب من حزب هامشي لا تأثير له، إلى حزب نافذ في البرلمان. أي إن الانتخابات هي في جانب منها منافسة في التضليل والخداع والتخويف والإغراء.
أما في لبنان، فتتداخل في انتخاباته عوامل محليّة (تسيطر عليها الطبقة الحاكمة المتحالفة مع أصحاب المال والإعلام) مع عوامل خارجيّة. نستطيع التعميم بالقول إن لبنان لم يشهد في تاريخه انتخابات نيابيّة حرّة. إذا كانت الحكومة الأميركيّة قد تدخّلت بقوّة في انتخابات ١٩٥٧ كما اعترف العميل الأميركي السابق، ويلفر إيفلاند في «حبال من الرمال»، فما بالك في انتخابات تواجه فيها شيوعيّون أو حزب الله في ما بعد؟ وحتى الانتخابات الرئاسيّة في عام ١٩٧٠، والتي قالت «النهار» عنها يومها، لتسويغها، أنها «ديموقراطيّة الصوت الواحد»، فقط كانت واحدة من أسوأ الانتخابات (أو «ديموقراطيّة الصوت الفاسد») وقد خاضت أجهزة الاستخبارات الأجنبيّة صراعاً حادّاً فيها، والصوت الواحد الحاسم فيها كان نتيجة تنافس في أسعار النوّاب يومها. والانتخابات النيابيّة في عام ١٩٦٨، كانت انتخابات انتصر فيها حلف شمال الأطلسي والعدوّ الإسرائيلي، وكانا يحضّران لبنان لانتخاب رئيس بعد سنتيْن يأخذ لبنان نحو مواجهة عسكريّة مع المقاومة الفلسطينيّة.
لن يسمح الغرب للعرب بالانتخابات الحرّة أبداً، إلا عندما ننتزعها من براثنه عبر تحقيق استقلال اقتصادي وسياسي ناجز. لن تجري ولم تجرِ قطّ في بلادنا انتخاباتٌ حرّة. حتى في دولة العدوّ، فقد تدخّلت الحكومة الأميركيّة في انتخابات إسرائيل في عام ١٩٩٦، لأن بيل كلينتون كان يريد ضمان فوز حزب العمل ضد منافسيه. لكن تدخّله هناك لا يماثل التدخّل الكبير والواسع والمباشر والفظّ للحكومة الأميركيّة في كل الانتخابات النيابيّة في التاريخ العربي المعاصر. إن المقترِع المُقرِّر في انتخابات تونس الأخيرة في عام ٢٠١٤ كانت دولة الإمارات ودول الغرب التي كانت تريد أن تضمن فوز وكلائها في الدولة الوحيدة التي أفرزت ديموقراطيّة —وإن مشوّهة وهزيلة— بعد انتفاضات ٢٠١١. ودول الغرب هي التي تولّت أمر انتخابات لبنان بعد اغتيال الحريري. (الدعم الأميركي لنايلة معوّض، مثلاً، ولـ«مؤسّساتها» -أو لغيرها عبر الوكالة الأميركيّة للتنمية- ليس سرّاً من الأسرار، وكيف يمكن فصل دعم أميركي لمؤسّسات سياسي ما عن الدعم المباشر لهذا السياسي؟ طبعاً، تسمح أميركا لنفسها في دول العالم ما لا تسمح به على أراضيها إذ إن التمويل الأجنبي لأي مرشّح ممنوعٌ قانوناً هنا).

نستطيع التعميم بالقول إن لبنان لم يشهد في تاريخه انتخابات نيابيّة حرّة


في عام ٢٠٠٥، أصرّت الحكومة الأميركيّة على إجراء انتخابات عاجلة لاستثمار قتل رفيق الحريري، ونخبة ٨ آذار تماشوا مع الرغبة الانتخابيّة الأميركيّة والتي أتت على حسابهم، في ظلّ إنفاق أميركي هائل لمصلحة فريقها. وفي عام ٢٠٠٩، كان التدخّل الأميركي أكبر ومن ضمن تدخّل خليجي أدّى إلى تخطّي الإنفاق الخارجي للانتخابات حدّ المليار دولار (قد يكون الإنفاق الإيراني يومها قد بلغ — حسب خبير انتخابي لبناني — عُشر هذا المبلغ). وفي عام ٢٠٠٩، وفي أفسد انتخابات من نوعها في لبنان، حرّض البطريرك الماروني اللبنانيّين ضد حزب الله جهاراً، فيما لم تسجّل وزارة الداخليّة أو الجمعيّة اللبنانيّة من أجل ديموقراطيّة الانتخابات كل هذه الخروقات الهائلة، ولا الإنفاق السعودي ولا التدخّل الأميركي المباشر (مثل زيارة السفيرة الأميركيّة إلى زحلة من أجل إقناع نقولا فتّوش بالانضمام إلى ١٤ آذار) وإنما تكتفي هذه الجمعيّة بإيراد حادثة عن تلقّي مواطن لمئة دولار في زحلة، أو عدم استخدام ناخب للعازل الانتخابي في شمسطار.
هناك حقوق يعتبرها الدستور الأميركي غير آيلة للتجاوز أو الإسقاط، وفي كل بلد في العالم يُعتبر الدفاع عن النفس وطرد الاحتلال من الحقوق الأساسيّة التي لا يمكن نقضها بالقانون أو الدستور. لكن دخول حزب الله للحلبة السياسيّة وقبوله الساذج بشروط لعبة فرضها عليه أعداؤه —الكثير منهم حلفاء لإسرائيل— يعني أنه قبِل بوضع بديهيّة حق الدفاع عن النفس في متناول النقاش البرلماني العادي. والسجال اللبناني حول قرار الحرب والسلم هو نوع آخر من طمس حق الدفاع عن النفس. هل المقاومة الفرنسيّة أو الجزائريّة انتظرت لتحقيق إجماع قبل شنّ حرب التحرير؟ وهل المقاومة الجزائريّة أو الفرنسيّة انتزعت قرار الحرب والسلم من الحكومة القائمة آنذاك، أم أن المحتلّ هو الذي ينتزع باحتلاله وعدوانه قرار الحرب والسلم؟ والدعم الأميركي للجيش اللبناني يساهم في نزع حق المقاومة عبر الترويج لفكرة ترد في بيانات وتصريحات قائد الجيش الحالي، من أن الجيش جاهز لردّ عدوان وإرهاب إسرائيل «بكل الوسائل»، كما قال جوزيف عون في تصريح آخير له. لكن ما هي هذه الوسائل؟ هل تتضمّن طائرات رشّ المبيدات التي منحتها الحكومة الأميركيّة لسلاح الجوّ اللبناني، أم هي في ناقلات الجند من نوع «برادلي»، والتي سوّقت لها بعض وسائل الإعلام على أنها دبّابات «برادلي» الممنوعة عن لبنان، كما أن كل الأسلحة الفعّالة هي ممنوعة عن لبنان بقرار أميركي ــ إسرائيلي؟ وشامل روكز في تصريحه الانتخابي أكّد أن الجيش هو الذي يدافع عن لبنان بوجه العدوان. لكن لماذا لم يقم الجيش اللبناني بهذا الدور في ٢٠٠٦، عندما تطوّع شبيبة المقاومة لردّ العدوان وطرد المحتلّ وإذلال العدوّ كما لم يُذلّ في تاريخه؟
يقود نعيم قاسم الحملة الانتخابيّة للحزب، وهو لم يحسن إدارة الحملة الانتخابيّة في المرّة الماضية. يبدو قاسم خبيراً بنقض كل مبادئ الحملة الانتخابيّة الناجحة. قبل انتخابات ٢٠٠٩، ارتكب الخطيئة الانتخابيّة الكبرى عندما أكّد أن الحزب وحلفاؤه سيفوزون. الفائز، في عرف الحملات الانتخابيّة، يتظاهر بمظهر الخاسر إلى آخر دقيقة من الاقتراع، كي يُحمِّس قاعدته، كي لا تتراخى معتمدةً على توقّع فوز محتمّ، كما أن توقّع النجاح يُحفِّز الطرف الآخر للاقتراع بقوّة. هذا كما أن تظاهرة ٨ آذار في زهوها بعدد جمهورها والتشكيك في حجم جمهور الطرف الآخر، ولّدت حركة ١٤ آذار. لكن الردود الكثيفة على نعيم قاسم على مواقع التواصل الاجتماعي في كل كلمة يقولها تبدو مثل مهنة باتت رائجة. الهجوم على قاسم وعلى كل مرشّح من حزب الله على مواقع التواصل يوحي بحملة مبيّتة غير بريئة. لم يحظَ مرشحو «أمل» مثلاً بهذا الكم من التعليقات والردود والسخرية. وهناك من سرّب فيديو لقاسم في بعلبك وهو — حسب المروّجين والمروّجات — يقول كلاماً فظيعاً. ماذا قال؟ قال إن الذي يتذمّر من الأوضاع الحالية عليه أن يقترع، وهذه المقولة أسمعها يوميّاً في أميركا، وهي سائدة في عدد من الديموقراطيّات. وهناك مَن سخر من فكرة أن الحكومة الأميركيّة المنشغلة بأزمات عالميّة ستجد متسعاً من الوقت للتصدّي لحزب الله في بعلبك الهرمل. الذي يشكّك في أن الحكومة الأميركيّة ستكون موجودة في كل انتخابات في لبنان، بما فيها الانتخابات البلديّة، لمواجهة حزب الله بالمال والدعاية والإشاعات والمرشّحين، لا يعلم شيئاً عن تاريخ التدخّل الأميركي المعاصر (بعد الحرب العالميّة الثانيّة) في بلادنا.
محقٌّ حزب الله أنه سيواجه حملة عالميّة عاتية في الانتخابات من قبل التحالف الغربي - الإسرائيلي - الخليجي. ومحقٌّ حزب الله أن الغرب ودول الخليج لن تدعه وشأنه وستحاربه بشتّى الطرق، بما فيها الانتخابات وتأييد خصومه ومحاربة قوائمه. لكن لماذا يعوّل الحزب كل هذه الأهميّة على الانتخابات؟ لو أن الحزب كان صارماً منذ ٢٠٠٥ بأن هناك في الديمقراطيّات ما لا يخضع لنقاش أو تصويت أو مساءلة، أي مسألة الدفاع عن الأرض والتصدّي لعدوان إسرائيل في وقت تمنع الحكومة الأميركيّة الجيش اللبناني من اقتناء ما يحتاجه من سلاح نوعي ومؤثّر في الصراع مع العدوّ، لكان قد فوّت الفرصة على أعدائه في النيل منه، انتخابيّاً. وليست المسألة في السلاح فقط: إن تدريب الجيش الأميركي (كما تدريب الجيوش العربيّة التي تتلقّى معونات أميركيّة) مُصمّمٌ فقط للمواجهة الداخليّة وليس لمواجهة الجيوش وخصوصاً جيش العدوّ الإسرائيلي. إن ذريعة محاربة الإرهاب —كأن أميركا وهي ترعى أفظع إرهاب في منطقتنا بعيدة عن الإرهاب— باتت الطريقة التي تتسرّب فيها أميركا بخططها الملائمة لإسرائيل كي تبرز بثوب المُنقِذ. لو أن حزب الله أصرّ بعد التحرير، ومن دون جمل إنشائيّة في البيان الوزاري ومن دون انتظار إجماع لم يأتِ (متى أجمع أهل بلد على مقاومة عدوّ؟ حتماً ليس في لبنان)، على حقّ الشعب المطلق في المقاومة لكان سحب الموضوع من التداول الانتخابي. إن ربط حزب الله لقوائمه الانتخابيّة بالمقاومة أسهم من دون أن يدري الحزب بجلب استفتاء - لا قيمة له - على المقاومة نفسها.

لا يريد الحزب أن يعتبر أن العدل الاجتماعي من أولويّاته فيما هو بموازاة الدفاع عن لبنان

لكن المقاومة وسلاحها باقيتان مهما كانت النتائج. والحزب في خوضه المعترك الانتخابي يظنّ أنه يفعل ذلك لحماية المقاومة. لكن المقاومة لا تُحمى بالتشريع، ولا بالبيانات الوزاريّة. هي تُحمى بسلاحها فقط، وفي رفض ربط الديموقراطيّة بالمقاومة. لو أن لبنان أجرى استفتاء شعبيّاً على المقاومة، لأسهم المال والدعاية الخليجيّة - الغربيّة في ترجيح كفّة الرأي العام ضد المقاومة، في بلد باتت فيه حركة رفض المقاطعة أقوى منها في أيّ بلد عربي. إن تنامي حركة التطبيع مع العدوّ في لبنان، وامتهان عدد هائل من الكتّاب والساسة والإعلاميّين والإعلاميّات في لبنان الردّ التفصيلي على كل كلمة تصدر عن حسن نصرالله، وعن قادة حزب الله، ليس إلّا جزءاً من الحرب الإعلاميّة الدعائيّة (الباهظة الثمن) التي تقودها أميركا بالتحالف مع وكلائها العرب، وبالنيابة عن مصالح العدوّ الإسرائيلي. إن كل كلمة تصدر في الموضوع السوري عن حزب الله تلقى ردوداً كثيفة في الفضاء العربي، فيما لا يردّ أحد من الكتّاب والساسة نفسهم على مواقف حركة «أمل» مثلاً في دعم النظام السوري. أي إنّ مكمن الاعتراض على حزب الله لا يكمن في مواقفه العربيّة ولا في تدخّله العسكري في سوريا بقدر ما هو يكمن في مقاومته وردعه لإسرائيل. منذ إنشاء الكيان هناك فريق لبناني (نافذ ومُسيطر) يؤمن بالاستسلام الكامل والتآمر مع العدوّ، وهذا الفريق يتغيّر عبر الأعوام لكن المهمّة لا تتغيّر. وهل التلاقي بين بعض أطراف في ٨ آذار (سابقاً) و١٤ آذار (حاليّاً) هو صدفة في موضوع التطبيع والتطمين لدولة العدوّ الإسرائيلي، أم أن التحضير للانتخابات يتضمّن إصدار إشارات إلى الخارج العربي والغربي؟ الذي يقارن عناوين الثقافة السياسيّة بين ٢٠٠٥ والآن، والذي يقارن بين تصريحات ساسة في عام ٢٠٠٥ واليوم في موضوع المقاومة يجد تغييراً جذريّاً بالنسبة للمقاومة. لا تتغيّر ثقافة بلد السياسيّة هكذا عفواً. هذا نتيجة عمل مضنٍ ومال وفير وتحريض على مدارس الساعة وبلغات متعدّدة (إن ميزانيّات الدعاية السياسيّة الأميركيّة ضد أعداء إسرائيل تبلغ مئات الملايين من الدولارات). بات ثقافة لبنان الليبراليّة (المزيّفة) تتنطّح لتأييد أي موقف تطبيعي. لم يجرؤ إلا قلّة قليلة جدّاً من الفنّانين والفنّانات والإعلاميّات والإعلاميّين على نقد المخرج اللبناني - الكوني التطبيعي (وهناك مَن كتبَ ثم محا ما كتبَ).
تشدّد قيادة حزب الله على ربط مصير قائمتها الانتخابيّة بمصير المقاومة، وهذا غير صحيح أبداً. المقاومة مستمرّة ولو لم يفز الحزب بنائب واحد. والمقاومة انطلقت عندما كان الحزب سريّاً، يفتقر إلى أي تمثيل اقتراعي. ويستطيع جمهور الحزب أن يقترع من دون أن يكون المُقرّر هو المقاومة. هل يشكك جمهور الحزب بعمق التزام أمثال حنا غريب وشربل نحّاس وغادة اليافي وإبراهيم حلبي وألبير منصور وأسامة سعد بالمقاومة؟ وألا يحق لجمهور المقاومة أن يقيّم نوّاب الحزب بناء على الأداء السياسي والاشتراعي، الذي هو صلب العمل البرلماني، وليس على معيار المقاومة فقط؟ والحزب في أدائه في الوزارة أو في مجلس النوّاب لم يتميّز، بل كان أداؤه محافظاً، مراهناً أن المهمّة الأساسيّة له تكمن في الحفاظ على السلم والاستقرار. وهذا المنحى في سياسة الحزب أضرّ بالمقاومة: لقد ترك الحزب أمر الاقتصاد إلى الحريريّة وأهمل العدل الاجتماعي (بعد أن كان الحزب يتوجّه في بداياته في خطابه إلى المستضعفين في الأرض)، مما سهّل تسليم مقدّرات لبنان للدول الغربيّة، كما أن الإفقار كان نافذة تسرّبت منها مؤامرات الغرب والعدوّ ضد الحزب. وعندما كان الحزب مطمئناً إلى سلاح المقاومة كان أهل الاقتصاد يتآمرون ضد هذا السلاح من وراء ظهره.
لا يريد الحزب أن يعتبر أن العدل الاجتماعي من أولويّاته فيما هو أولويّة بموازاة الدفاع عن لبنان وصدّ عدوان إسرائيل. لكن يمكن للحزب أن يترك لمن يوازي بين المقاومة والعدل الاجتماعي أن يخوض معترك الانتخابات، لأن التصدّي للمشروع الرأسمالي الغربي ودور المصرف المركزي في المشروع المعارض للمقاومة هو مقاومة أيضاً. وفي فترة توقّف الحرب مع العدوّ، فإن الحرب ضد حزب الله وجمهوره تتركّز في الجانب الاقتصادي.
يمكن للحزب أن يقول إن أي برنامج انتخابي، في الجنوب خصوصاً وفي عموم لبنان، يخلو من الإصرار على دور المقاومة لا يعني إلا تعريض لبنان للخطر الصهيوني وتسليم مقدّرات البلد بالكامل إلى العدو، وفتح الأبواب أمام عدوان إسرائيل، كما كان الأمر عليه في سنوات «قوّة لبنان في ضعفه». ويمكن للحزب أن يقول إن لا تنمية ولا تقدّم ولا إصلاح من دون الدفاع عن لبنان وردع العدوان، هذا صحيح. إن أي كلام عن حصريّة السلاح بالجيش لا يعني إلا الاستسلام أمام العدو، وهناك في لبنان أحزاب وتيّارات وحركات تريد أن يستسلم لبنان أمام العدوّ. لكن معيار المقاومة لا يكفي للحكم على نوّاب حزب الله. ماذا لو أن الخيار بين مرشحيْن مدافعيْن عن المقاومة، وكل من عقيدة مختلفة؟ لا يصحّ أن يقول حزب الله إن مرشحه، ولو كان بعيداً عن هموم الناس، والفقراء بصورة خاصّة، يتفوّق على أي مرشّح منافس. إن حنّا غريب أو شربل نحّاس أو أسامة سعد يجمعون بين الدفاع عن المقاومة والدفاع عن مصالح الناس. إن معيار المقاومة هو معيار أساسي وضروري لكنه ليس كافياً بحد ذاته. يمكن الإضافة عليه ولصالح المقاومة. ويمكن لنائب أن يكون مؤيّداً للمقاومة ومهملاً لقضايا الناس والطبقات المسحوقة. هناك معيار المقاومة وهناك معيار العدل الاجتماعي. والحزب، عندما ينسى قضايا العدل الاجتماعي، يسمح لأعدائه بالتسرّب إلى أذهان الناس، بعناوين وشعارات مختلفة، بعضها يتزيّن بـ«المجتمع المدني» (وهو بات رداءً للتستّر في لبنان) وبعضها يتزيّن بمحاربة الفساد. والحزب، لم يعد يستطيع بعد سنوات في الحكم، أن يزعم أنه داخل السلطة وخارجها في آن كي لا تصيبه لوثة الفساد. عليه أن يختار.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)