من حسنات انسحاب النظام السوري من لبنان أنه كشفَ النظام السياسي على حقيقته هزيلاً سقيماً وغير قابل للاستمرار. لم تعد حجّة التذرّع بالنظام السوري تسري في تفسير سوء النظام اللبناني، وإن كان هناك من يروّج لفكرة أن المخابرات السوريّة (أو الإيرانيّة) هي التي تتحكّم بالمصير اللبناني وتخلق أزماته. لقد حظيَ اتفاق الطائف برعاية سعوديّة ــ سوريّة ــ أميركيّة أوكلت إلى النظام السوري ضبط إيقاع العلاقة بين مختلف الرئاسات والوزارات والزعامات.
وضبط الإيقاع هذا لم يكن ناجحاً دوماً، إذ إن الصراعات بين الزعماء لم تكن نادرة، بل كانت الصراعاتُ بين أجنحة النظام السوري تنعكس صراعاتٍ بين زعماء لبنان أو العكس. لم يكن ممكناً قياس حياكة الطائف بوجود المُسيطِر السوري لأن قدرة الأطراف المحليّة على إدارة السياسة كانت محدودة بدرجات متفاوتة، ولأن النظام السوري كان يستطيع أن يفرض تسويات من خارج الدستور والقانون، لو أرادَ. لا، بل إن زعماء لبنان في تلك الفترة، خصوصاً رفيق الحريري، كانوا يستنجدون بالنظام السوري وأجهزة مخابراته لتقوية مواقعهم ولتعديل الكفّة لمصلحتهم على حساب زعامات وقيادات منافسة.
نحن نستطيع اليوم بعد أكثر من عشر سنوات على انسحاب النظام السوري من لبنان أن نحكمَ على إخراج الطائف. إن الأزمة التي استجدّت بين نبيه برّي وجبران باسيل هي من إفرازات الطائف، ومن عوارض فشله في إصلاح نظام الحكم في لبنان. إن سياق الطائف كان مغايراً للسياق الحالي للحياة السياسيّة في لبنان وللنظام الإقليمي العربي. تغيُر السياق يُغيّر نمط نظام الحكم في لبنان. لقد توصّل نوّاب لبنان (البعيدين جداً آنذاك عن المزاج الشعبي العام) إلى اتفاق على أساس أن الانشطار الأساسي بين اللبنانيّين هو طائفي لا مذهبي أو طبقي. لم يحاول النوّاب العمل على التعاطي مع الأسباب الطبقيّة لاندلاع الصراع الأهلي في لبنان عام ١٩٧٥، واكتفوا بعناوين عامّة للإصلاح خصوصاً أن الحركة الوطنيّة اللبنانيّة كانت منقرضة لأسباب أكثرها ذاتية، فيما كانت القيادات النافذة في بيروت الشرقيّة في حالة صراع عنيف. واختصر نوّاب لبنان (بمباركة سوريّة وسعوديّة) المواضيع في هويّة لبنان و«المشاركة» الإسلاميّة في الحكم وفي العلاقة اللبنانيّة ــ السوريّة. لكن السياق الحالي يخلو من راعٍ ومُدبِّر صارم قادر على فرض الإرادة متى شاء. أي إن زعماء لبنان متروكون ليحلّوا مشكلاتهم بأنفسهم. لكن النظام الديموقراطي العادي يُفترض (نظريّاً) أن يكون قادراً ذاتيّاً على خلق وسائل تعبير ومؤسّسات تشريعيّة لها سلطة الفصل بين السلطات والزعامات. لكن هذا ليس لبنان.
لقد وصل جبران باسيل إلى السلطة بصحبة ما يُسمَّى «الزعيم الماروني القوي». هذا المصطلح يعود إلى حقبة شارل حلو (١٩٦٤ ــ ١٩٧٠). لم يكن للحلو قاعدة شعبيّة يعتمد عليها، وكان هو الحلّ الوسط بعد أن رفض فؤاد شهاب رغبات فريقه للتجديد. فكان الحلو يعتمد بداية على المكتب الثاني (صاحب الولاء الأوّل لفؤاد شهاب) لكنّ الثقة بينه وبين «المكتب الثاني» تخلخلت، فاعتمد في المرحلة الثانية من عهده (خصوصاً بعد عام ١٩٦٧) على الحلف الثلاثي الذي اكتسح انتخابات ١٩٦٨ (بتأييد من الغرب وقسم من «المكتب الثاني» الذي عادى المقاومة الفلسطينيّة أكثر ممّا عادى خصوم فؤاد شهاب). فرنجيّة مثّلَ الزعيم الماروني القوي لكنه أيضاً قرّر بعد فشل الجيش في ضرب المقاومة في ربيع ١٩٧٣ أن يستعين بـ«الكتائب» و«الأحرار» بالإضافة إلى الجيش لفرض ليس فقط إرادة النظام ضد المقاومة بل لِقمع المعارضة اللبنانيّة الداخليّة أيضاً (الإسلاميّة واليساريّة على حدّ سواء). والزعيم «الماروني القوي» كان سلطاناً في نظام ما قبل الطائف. صحيح أنه كان يحتاج إلى رئيس وزراء مسلم سنّي، لكن لم يكن في يد رئيس الوزراء أساليب أو وسائل المواجهة. كان رئيس الجمهوريّة يستبدل رئيس الوزراء ذا القاعدة الشعبيّة (مثل عبد الله اليافي أو صائب سلام أو رشيد كرامي أو سليم الحصّ في عهد سركيس) برئيس حكومة «طرطور»، أي الأداة الطيّعة بيد الرئيس (مثل سامي الصلح في عهد كميل شمعون أو شفيق الوزّان في عهد إلياس سركيس وأمين الجميّل). سركيس كان أيضاً رئيساً ضعيفاً مفتقراً القاعدة الشعبيّة، فاعتمد على النظام السوري حتى ١٩٧٨ ثم سلّم مقدّرات الحكم لبشير الجميّل بعد ذلك.
جبران باسيل يريد أن يغيّر موقع الرئاسة اللبنانيّة ويعيده إلى زمن ما قبل الطائف. لكن يحول دون ذلك معوقات عدّة باتَ أدرى بها. ميشال عون لا يفتقر إلى الزعامة الشعبيّة، لكنها لا تنتقل عن طريق المصاهرة. يحاول باسيل أن يعوّض عبر استثارة طائفيّة للجمهور، والاستثارة الطائفيّة هي الملاذ الضروري لفاقد الشعبيّة في لبنان. لكن باسيل اكتشف (ربّما بسبب طموحه الرئاسي أو من أجل تحقيق منجزات للعهد) أن موقع الرئاسة وحده لا يقرّر، كما قد يكون اكتشف أن إمكانيّة التمتّع بتحالف ماروني ــ شيعي وماروني ــ سنّي في آن هي مِن المُحال.
باسيل تحمّس لسنوات لفكرة تأجيج العصب الانتخابي في المغتربات، لعلّ ذلك يضفي على زعامته إضافة طائفيّة لما يحمله هذا العامل من دغدغة للطموحات الطائفيّة لمَن يرغب في عكس مسار التغيير الديموغرافي التاريخي لمصلحة المسلمين (في منطق النظام الطائفي). زعماء الطائفيّة المارونيّة أدركوا «الخطر الديموغرافي المسلم» (بنفس عنصريّة الخوف الإسرائيلي ممّا يسمّونه هناك القنبلة الديموغرافيّة الفلسطينيّة)، وتعاملوا معه بوسائل عدّة، منها فرض نظام الأرجحيّة المارونيّة بالقوّة المسلّحة (بدأ ذلك في حرب ١٩٥٨ قبل أن تنشأ ذريعة «محاربة التوطين الفلسطيني»، كأن تهجير الشيعة من بيروت الشرقيّة وتهجير السنّة من حي بيضون في الأشرفيّة كانا أيضاً بدافع محاربة التوطين). سخا النظام اللبناني في تجنيس المسيحيّين من الفلسطينيّين (لقد اعترض «التيّار الوطني الحر» أخيراً على تجنيس فلسطينيّين وطالب بحرمانهم الحق الاقتراعي، وهو كان بذلك يعني أن المسلمين من المُجنسّين الفلسطينيّين يجب أن يُحرموا الاقتراع، لا المجنسّين الفلسطينيّين المسيحيّين).

السياق الحالي يخلو من راعٍ ومُدبِّر صارم قادر على فرض الإرادة، وزعماء لبنان متروكون ليحلّوا مشكلاتهم بأنفسهم


لكن باسيل وقع في مأزق؛ عوّل كثيراً على اقتراع المغتربين معتمداً على الخيال اللبناني الطائفي في المبالغة في أرقام المغتربين حول العالم، وفي اهتماماتهم بانتخابات تجري على بعد آلاف الأميال من مساكنهم. وتسجيل المغتربين كان هزيلاً جداً رغم الاستجداء وتمديد المهل. أدرك باسيل أن إمكانيّة إحداث تغيير ديموغرافي طائفي باقتراع المغتربين لن يتحقّق. لهذا، استعان بوسائل أخرى منها اجترار واضح لمشروع بشير الجميّل بكل قبائحه الطائفيّة والعنصريّة والسياسيّة الخارجيّة. لكن هذا المشروع يصطدم بواقع سياسي وطائفي مختلف تماماً لما كان الوضع عليه آنذاك. وإسرائيل لا تستطيع، حتى لو أرادت، أن تقتحم لبنان وتحتلّه متى تشاء لرفع شأن مَن يتحالف معها؛ هناك في لبنان مَن يخيفها ويردعها ويحدّ قدرتها على ترجيح الكفّات كما في الماضي. لكن جبران باسيل ماضٍ في مشروع يستعير الكثير من مضامين وشعارات بشير الجميّل. ليست مصادفة أن القضاء تحرّك في أوّل عهد عون كي يستدعي المناضل حبيب الشرتوني للتحقيق، أو أن وزير الخارجيّة حضر تكريماً لبشير الجميّل، الذي نعلم اليوم الكثير عن علاقاته الذيليّة بإسرائيل وعن كراهيّاته الطائفيّة البغيضة. واختار باسيل مرور أيّام على خطابه أمام الجامعة العربيّة كي يناقض كل ما جاء فيه ويصرّح (لـ«الميادين») بعدم وجود أيديولوجيّة عداء ضد العدوّ عند تيّاره، وأن لدولة الاحتلال الحقَّ في الوجود بأمان وأن لا مشكلة في وجودها. لا، بل زاد على ذلك بأن لام حزب الله على عدم بناء الدولة في لبنان كأن الحزب منعه من إيصال الكهرباء إلى المنازل، أو تحسين شبكات الهاتف أو محاكمة فساد الحريريّة.
ترافق موقف باسيل (باللغة العاميّة وخلافاً للخطاب المقروء بالفصحى في الجامعة العربيّة) مع مواقف له داخل مجلس الوزراء في الدفاع المستميت عن عرض فيلم «ذا بوست» وحذّر من «جرصة» أمام الغرب لو مُنع الفيلم. ومقدّمة نشرة أخبار محطة التيّار ذهبت بعيداً في التنديد بالمنع رافعة شعارات برّاقة عن الحريّات. والأحاديث في بعض المحطّات أخذت طابعاً طائفيّاً كالعادة في تصنيفات عن ثقافات متعدّدة بين اللبنانيّين وأن «المجتمع المسيحي» لا يقبل المنع (كما أن لغة الاستعلاء الطائفي ضد جمهور «أمل» لم تغبْ). لكن، لماذا لا تُقابل قوائم المنع الدينيّة والاجتماعيّة التي تصدر عن «المركز الكاثوليكي للإعلام» ــ الاسم وحده يجب أن يثير الاعتراض ــ بالتنديد والاعتراض والإصرار على الحريّات؟ هناك ضخ لثقافة التطبيع والسلم مع العدوّ وقد ساهم فيها جبران باسيل. وباسيل حاول أيضاً أن يعيد طرح الكانتونات عبر «القانون الأرثوذكسي» لكن ذلك لم يسرِ، وأسهب في الحديث عن الهويّة المشرقيّة المتميّزة عن الهويّة العربيّة؛ أي عدنا إلى ما قبل الطائف.
لكن باسيل يصطدم في طموحاته المزدوجة، أي تعزيز موقع رئيس الجمهوريّة وبناء زعامة خاصّة به خارج المصاهرة، بحقيقة لبنان. باسيل (وكل الطبقة السياسيّة) يصر على المناصفة مع ازدياد عدد المسلمين في البلد، ما يتناقض مع جوهر الديموقراطيّة. إن المناصفة تعني أن هناك (بناء على المناطق والطوائف) مَن له أوزان في أصواته تفوق أوزان أصوات غيره من المواطنين لأنه ينتمي إلى طائفة تخشى زعاماتها على تناقص عددها (لأسباب عدة منها تشجيع من دول الغرب التي تتبع كلّها سياسات هجرة صارخة في طائفيّتها: ما قاله دونالد ترمب عن تفضيل مهاجرين مسيحيّين من الشرق الأوسط لا يختلف البتّة عن سياسات الهجرة الأميركيّة على مدى عقود طويلة). إن التغيير المُستمرّ في التركيبة الديموغرافيّة للبنان، التي لا يرى النظام السياسي إلّا الطوائف فيها، يعني أن هناك مواطنين يفقدون المزيد من قوتهم الاقتراعيّة فيما تزداد القدرة الاقتراعية لمواطنين آخرين بناء على الطائفة. هذا يجب أن يكون متوافقاً مع الوعد الدستوري بالمساواة. والذين يرفضون الكوتا النسائيّة يتمسّكون بقوّة بالمناصفة، وهي أعلى مراحل الكوتا، لأنها تأخذها للنصف.
أما نبيه برّي، فصراعه مع باسيل هو على السلطة في بلد لم تتوضّح الفروق والميّزات لأصحاب الرئاسات. إن الطائف نبع من زمن لم يكن فيه صراع مذهبي بين السنّة والشيعة، وكان لبنان ما قبل الحرب يختصر المطالب الإسلاميّة بـ«المشاركة» التي عنت مشاركة رئيس الحكومة لرئيس الجمهوريّة للسلطة التنفيذيّة. لكن الهزيمة العسكريّة التي لحقت بالفريق الإسرائيلي الذي كان صاحب العناوين الطائفيّة في رسم شخصيّة النظام أدّت إلى زوال الدور المؤثّر لرئيس الجمهوريّة. وميشال عون الذي أطلق حركته تحت عناوين إصلاحيّة بعد أن تسلّم سلطة أمين الجميّل في المقلب الآخر من بيروت عاد وتوجّه بخطاب طائفي لجمهوره أثناء وبعد انعقاد الطائف عندما حذّر من الخسارة التي ستلحق بموقع رئيس الجمهوريّة. المشاركة عزّزت موقع رئيس الحكومة الذي أثبتَ، من عهد رفيق الحريري خصوصاً، أن السلطة التنفيذيّة لا تتخذ القرارات «مجتمعةً»، وإنما يختصر رئيس الحكومة السلطة التنفيذيّة كما فعل فؤاد السنيورة عندما خرج الوزراء الشيعة من الحكومة. ولو خرج غيرهم، لكان السنيورة سيستمرّ في اتخاذ القرارات والحكم لأنه اعتمد في ذلك على دعم دول الغرب ودول الخليج، التي أصبحت بعد خروج الجيش السوري من لبنان السلطة الراعية للسلطة المؤثّرة في لبنان.

تبيّن كم أن شخصيّة
رئيس الحكومة لا تؤثّر
في الموقع إذ بدا سعد الحريري ضعيفاً ولا دورَ له في حلّ الأزمة

الطائف، ما دامت حسابات الزعامات الطائفيّة هي بالطوائف ومراكزها، لم يجعل رئاسة المجلس سلطة مؤثّرة، لكن رئيس المجلس لم يعد يحتاج أن يخوض انتخاباته مرّة كل سنة. وكانت السلطة في زمن السيطرة السوريّة بيد رفيق الحريري في معظم سنوات حكمه، وهو لم يصطدم مع إميل لحّود إلا لأن الأخير لم يقبل البيْع على طريقة من سبقه في الرئاسة. وكان شدّ الحبال بين الرؤساء الثلاثة ينتهي لمصلحة الحريري في الغالب إلى أن تغيّر ذلك في عهد بشّار الأسد، حيث خسر الحريري رعاته في المخابرات السوريّة ووزارة الخارجيّة. لكن اغتيال الحريري أفرغ السلطة التنفيذيّة من سلطانها، وأصبح الرؤساء بعده أقل تأثيراً بسبب شخصيّة الحريري واعتماده على عناصره الثلاثة في الحكم: المال والدعم الخارجي (المتنوّع) والتأجيج الطائفي عندما تدعو الحاجة الانتخابيّة. لكن عهد ميشال سليمان أتاح لنبيه برّي البروز كالحاكم الأقوى ليس بفعل صلاحيّات الدستور إنما بفعل الفراغ الذي أحدثه غياب المنافس في شخصيّة رفيق الحريري وبفعل نفوذ برّي العميق في أجهزة الدولة. وجبران باسيل اصطدم ببرّي لأن الأخير كان حاكماً بأمره في عهد ميشال سليمان. وشخصيّة الرئيس (في الرئاسات الثلاث) تؤثّر في موقع الرئاسة في لبنان. وفي الأزمة الأخيرة، تبيّن كم أن شخصيّة رئيس الحكومة لا تؤثّر في الموقع إذ بدا سعد الحريري ضعيفاً وهزيلاً ولا دورَ له في حلّ الأزمة.
لكن المنازلة في الشارع، التي اختارتها «أمل»، هي تعبير أيضاً عن موازين القوى الديموغرافيّة، وعن رفض العودة إلى منطق ما قبل الحرب الذي يريد باسيل اعتناقه. وهي أيضاً مناسبة لبرّي لشدّ العصب الانتخابي الحركي قبل الانتخابات. لكن جمهور الحركة اعترض على الإهانة لزعيمه وليس على تعبير باسيل عن نيات المهادنة والصلح واللاعدائيّة نحو العدوّ الإسرائيلي. تصريح باسيل لم يحرّك متظاهراً واحداً، لا من «أمل» ولا من غيرها، مع أن جمهور «أمل» مستنفرٌ على دوام الساعة. وبيان حزب الله في مؤازرة الحركة كان للتوكيد أن التحالف ضمن الطائفة يعلو على التحالف خارج الطائفة. والحزب لم يصدر بيان ردّ على كلام باسيل عن قبول وجود آمن لإسرائيل، أو عن كلامه في مجلس الوزراء في تأييد عرض «ذا بوست» مخافة إزعاج الغرب. لكن هذه الأزمة ستتكرّر بغياب آليّة عمل للتوازن والتنسيق بين الرئاسات؛ الدستور غامض في هذا الشأن: قسم «هـ» من مقدّمة الدستور يتحدّث عن «فصل وتوازن وتعاون» بين السلطات من دون تحديد كيفيّة تحقيق ذلك. الدساتير عادة تكون أكثر دقّة في تحديد الصلاحيات والسلطات والفصل بينها. لكن دستور لبنان صيغَ بإنشائيّة وتهافت صياغة «إعلان بعبدا». لبنان وفق الدستور فينقي وعربي في آن، والشعب متساوٍ لكن لبعض الطوائف صوت اقتراعي أقوى من آخرين، والنظام مُشكّل على مقاس الطوائف وصراعاتها. ليس في لبنان هيئة أو محكمة يمكن الرجوع إليها للفصل بين السلطات والحكّام. مجلس القضاء الأعلى هو بمنزلة مجلس ملّي لزعماء الطوائف لا يستقلّ فيه العضو عن زعيمه الذي زكّاه.
نزول جمهور «أمل» إلى الشارع، وإلى مواقع التواصل الاجتماعي، بلغة التهديد والسوقيّة الجنسيّة الذكوريّة ــ التي ردَّ عليها جمهور التيّار بالمثل ــ أعادَ المخاوف من الحرب الأهليّة. لكن الحرب الأهليّة في لبنان باتت مستبعدّة ليس فقط لأن الطرف الأقوى لا يريدها، وسيمنعها بالقوّة ــ لو استطاع ــ بل لأن الكفّة باتت مختلّة إلى درجة تصعب فيها منازلة الشوارع من دون حسمها في يوم أو يوميْن. وليس سلاح حزب الله (أي الصواريخ التي لا وظيفة لها إلى التوجّه صوب المحتلّ، ما يعني أن الذي يشكو منها يريد إنقاذ العدوّ منها، وإن صرّح بين فينة وأخرى أن «إسرائيل عدوّ»، بلا كيف) هو الذي أخلَّ بالتوازنات الشارعيّة. هي الاعتداد بالعدد (الطائفي) الذي تعزّز بتوفّر الهجرة لطوائف أكثر من الطائفة المغضوب عليها عربيّاً وعالميّاً. لكن استعراض جمهور «أمل» أثار عصبيّات وشجّع جوقة التنميطات والتعميمات المعهودة للتغريد والتعليق عن «وحشيّة» طائفة وحضاريّة أخرى. المفارقة أنه لم يمارس التوحّش وقطع الأعضاء التناسليّة على الهويّة أكثر من الفريق الذي كان قبل اندلاع الحرب يزهو بحضاريّته ورقيّه وتفوّقه الأوروبي أمام مَن كان يعتبرهم الطوائف والعناصر الدنيا المتخلّفة. وهناك مَن اعترض أن هناك شيعة تجرّؤوا على دخول مناطق يجب أن تبقى في منأى عنهم، كما عبّر عدد من المحاورين والمحاورات في محطة «إل. بي. سي.».
صراع برّي وباسيل هو أيضاً صراع مغانم بين أقطاب السلطة. إن السلطة التي تركّبت بعد الطائف أتاحت لزعماء الطوائف (خصوصاً برّي وجنبلاط والحريري) الاغتنام الهائل من الدولة وخيراتها بالإضافة إلى جعل الدولة مصنع توظيف للمحاسيب والأتباع والمتردّدين. لكن مرسوم «الأقدميّة» يحمل في طيّاته طائفيّة فاقعة تنسجم مع السجلّ الطائفي لباسيل في مواقع «الخدمة العامّة»، وباسيل قد يختلف عن برّي بأنه يبدو للمشاهد السياسي طائفيّاً، على الصعيديْن السياسي والشخصي، فيما يبدو برّي من النوع الواحد (أي السياسي، لا الشخصي). لا، بل إن لهجة باسيل تبدو ذات منحى استعلاء طائفي ألفَه اللبنانيّون من أقطاب الجبهة اللبنانيّة في سنوات الحرب الأهليّة، وإصراره على عدم الاعتذار كان من ضمن تسجيل المواقف الطائفيّة في المواسم الانتخابيّة.
ليس الحلّ للأزمة السياسيّة هو التذاكي الطائفي أو التهديد بالعدد على طريقة طرح رجل الدين الشيعي، محمد مهدي شمس الدين في مشروع «الديموقراطيّة العدديّة» (عادَ وتنصّل منه، أو هكذا قيل لنا). لكن التركيب الطائفي للنظام يصطدم وسيصطدم أكثر بالحقيقة الديموغرافيّة. وتقسيم المواقع والوظائف طائفيّاً، وعلى أساس المناصفة (المُتخيّلة)، يحاكي تركيب نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أو «الأبارتايد» الصهيوني على أرض فلسطين. يكن إلغاء الطائفيّة ــ وليس الطائفيّة السياسيّة وحدها، كأن الطائفيّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة هي محمودة ــ من أساسها، وهذه لن تكون أسوأ مما أنتجته التخريجات المختلفة للعقليّة الطائفيّة (قبل وبعد الطائف). العلمنة التي تقضي على الطائفيّة وتقضي أيضاً على رعاية الدولة لتجّار الدين الذين يربحون لو واظبوا على التجارة ويخسرون لو أهملوها، أو يمكن محو المواقع الطائفيّة بالكامل وإنشاء مجلس رئاسي يستعيض عن رئاسة الجمهوريّة على طريقة المجلس الرئاسي السويسري. الأخير تطوّر ليبتعد عن تطبيق «الكوتا» الصارمة بالنسبة إلى تمثيل المجموعات اللغويّة المتعدّدة. يمكن لهذا المجلس أن يتناوب أعضاؤه المتنوّعون (مناطقيّاً أو طائفيّاً، حتى تنتهي اللوثة) على الرئاسة في ولاية الرئاسة المحدّدة بالدستور. والمداورة تمنع إلصاق مناصب نافذة وأخرى هامشيّة بطوائف دون أخرى. لكن هذا التغيير يتطلّب تغييراً في الطبقة الحاكمة التي تقتات على الطائفيّة وألاعيبها. هذا التغيير بعيد المنال. وهذا يؤكّد أنه لن تقوم قائمة لهذا البلد من دون تغيير جذري يصيب كيانيّته نفسها، ومن دون نسف الأسس الطائفيّة للنظام المُتجدّد، إلى الخلف.
*كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)