في يناير، كان الحلم طيعاً، يستجيب بعد مراودات قليلة. تكفي دعوة في «فيس بوك» حتى تحتشد الجماهير بعد ساعات في ميادين الثورة. كان الشعب على حافة الحلم، وكعادته انحاز إلى طليعته بلا حسابات معقدة عن المآلات المنتظرة، لأن «الفكرة النبيلة غالباً لا تحتاج للفهم... بل تحتاج للإحساس»، كما يقول غسان كنفاني.
شكّلت ثورة الخامس والعشرين من يناير، النموذج الأسمى لأجيال مصرية، تفتّح وعيها على تجريف متعمد لميراث الناصرية من العدالة الاجتماعية، وتكريس كامل لما بقي منها من قمع وسلطوية، وبدا نظام مبارك الحاكم وقتها عجوزاً في مواجهة عقول شابة وقلوب جسورة.
احتاج المصريون تذوق مرارة الاختيار الخاطئ للمرة الثانية، لإدراك أن طريق الثورة وعر وشاق، فعقب الاختيار الأول، وكان إخوانياً، لم يطق المصريون صبراً، حتى كان حراكهم العارم لإسقاط ممثل مكتب الإرشاد بقصر الاتحادية، الرئيس الأسبق، محمد مرسي. وما تربت عليه من صعود نجم وزير الدفاع السابق والرئيس الحالي، عبد الفتاح السيسي، إلى سدة الحكم، ما اعتبره الثوريون حينها، وتأكد لاحقاً، هزيمة للثورة، وإعادة انتاح للدولة القديمة.
عول المصريون على السيسي كثيراً في العديد من الملفات، أهمها الملف الاقتصادي المتردي، وساهمت دعاية الناصريين خاصة، في تقديم الجنرال في صورة المنحاز إلى الفقراء وامتداداً لعبد الناصر، فيما تكفل يسار «دولة مبارك» بترويج دعاية مؤيدة للرجل، مفادها مواجهة «الفاشية الدينية» وتكريس مدنية الدولة.
خذل السيسي أنصاره، فلا الرجل اقترب ولو من بعيد من شخصية «ناصر» صاحب الكاريزما الطاغية، ولا امتلك مشروعاً للعدالة، وما قدمه لا يتعدي استجداء رجال الأعمال للتبرع للصندوق المسمى «تحيا مصر»، مع سيل عارم من مشروعات استعراضية لا يشعر المواطن بتأثيرها، فضلاً عن أنه كان يملك صلاحيات إقرار التشريعات قبل انتخاب مجلس النواب، ولم يقر أيّاً من قوانين تدعم حقوق الفقراء. على العكس، الرجل استهل حكمه برفع جزئي للدعم عن المواد البترولية، تقبله المواطنون لما كان يحوزه من شعبية لتصدره مشهد إلقاء بيان عزل مرسي، عندما أقصيت القوى الديمقراطية عن المشهد عمداً لإضفاء صورة عسكرية الطابع، لتكريس مرحلة جديدة بطلها الأوحد بالوجدان الجماهيري «عسكري»، كان حتى الأمس القريب يحمي مبارك من المحاكمة، ويتحالف مع القوى الأكثر رجعية لإجهاض الثورة. تلك الشعبية تآكلت مع مرور الوقت، وتحول السيسي من بطل تحتفل السيدات بعيد ميلاده رقصاً في الشوارع إلى رئيس عاجز عن تلبية طموحات العدالة. وبعد مجيئه رئيساً، تعرض المثقفون والأدباء لمطاردات ومحاكم تفتيش وصلت إلى حد السجن بحق باحث بتهمة ازدراء الدين، في وقت طالب فيه الجنرال، في خطاب رسمي، بتجديد الخطاب الديني، وحوكم روائي بتهمة هزلية («خدش الحياء العام»)، وأقصى العديد من الإعلاميين، لا للسبب سوى الجهر بانتقاد ولو مبطن للسلطة، فيما احتل الشاشات عملاء سابقون للأمن، وصحافيو «مبارك»، وإعلاميون جهلاء مرضي عنهم، وتكفل الإعلام بإنهاك الناس والقفز على مطالبهم عبر مناقشة قضايا تافهة، على شاكلة استضافة «مدعي نبوة» أُسري به إلى السويد!
سياسياً، تخلى السيسي عن حلفائه الديمقراطيين «حتى وإن تمسكوا هم بالوهم الجميل»، وجهازه الأمني عاد كما السابق، وتوحشت وزارة الداخلية بحق النشطاء، وتغولت على حقوق المواطنين، ووصلت الانتهاكات حد القتل داخل أقبية الشرطة، واختفاء قسري لمئات الشباب، وحركة محافظين جديدة شملت تعيين 9 جنرالات من بين 11 محافظاً تعزيزاً لـ«العسكرة»، وبرلمان حصد المتردية والنطيحة والجنرالات جل مقاعده، بدعم مخابراتي كما ورد في شهادة القيادي بحملة السيسي بالانتخابات الرئاسية، حازم عبد العظيم، فضلاً عن شباب منتمين للثورة يقضون زهرة أعمارهم في السجون، في وقت ينعم مبارك وفلوله بالثروة والسلطة. ومؤخراً أحيل 6 صحافيين، بينهم 3 رؤساء تحرير، للمحاكمة، بسبب نشر ملفات فساد متورط فيها أحمد الزند، وزير العدل.
والآن، ونحن على أعتاب الذكرى الخامسة للثورة، ما بين دعوات شبابية لإحياء الثورة المجهضة، واستعادة ذكريات الاحتشاد المليوني في الميادين، من جهة، والاحتفال الرسمي بعيد الشرطة، من جهة أخرى، يدخل المصريون شتاءً يبدو مثيراً، يميزه هلع السلطة، البادي في خطاب السيسي أثناء الاحتفال بذكرى المولد النبوي، أواخر ديسمبر الماضي، عندما قال، إنه «على استعداد للتخلي عن السلطة حال نزول الشعب للتظاهر ضده»، فيما تستعد قوى الأمن للإجهاز على أي حراك بتهمة إخوانيته، ويبقى مصير الثورة مجهولاً لغياب رؤية واضحة تحدد الخطوات المقبلة، في ظل حكم عسكري يتغول كل يوم عن سابقه، وغياب البديل المدني الجاهز، وجماعة دينية خانت الثورة وساهمت برعونة بالغة في المآلات الراهنة، شديدة القتامة.

* روائي وصحافي مصري