«قتلوا الملك... قتلوا الملك... طَخّوا الملك عبد الله...». تعالى الصراخ والهرج في المكان، وتدافع الناس هاربين، في كل اتجاه، وقد اعتراهم الرعب والهلع والذعر. واندفع الجنود الأردنيون وراءهم، داخل المصلّى القِبليّ، شاهرين بنادقهم، وقد ركّبوا فيها الحِراب. وسريعاً ما أخذوا يطلقون النار على كل إنسان يجري فزعاً في قاعة الصلاة. وتساقط عشرات الفلسطينيين مضرّجين بدمائهم، في أقدس بقعة في المسجد الأقصى.
كان جنود «الفوج الهاشمي» المكلّفين بحماية الملك عبد الله، يصطادون فرائسهم لا يميّزون في ذلك بين شيخ أو صبيّ. وأودت المذبحة، في داخل الحرم المقدسي، بحياة عشرين فلسطينياً، وأصاب الجنود برصاصهم المتطاير زهاء مئة من المصلّين الآخرين(¹). ولم تلبث أن قدمت تعزيزات من قوات «الفيلق العربي»، فملأ العساكر باحات المسجد الأقصى. وطوّقوا الجامع القبليّ محتجزين كل من فيه من الناس، داخله. كان حسين الفتى الصغير ما زال جاثياً يرتجف بجانب جثة جدّه الذي تفجرت الدماء من تحت عينه اليمنى، فغطّت وجهه وصدره. وسقطت عمامة الشريف من فوق هامته، وتدلت لفائفها في بركة الدم. وحمل الجنود جثمان سيّدهم، وهرعوا به نحو سيّارة، إلى مستشفى «الهوسبيس»، في البلدة القديمة في القدس. وتداعى الجنود الأردنيون، وقد اجتاحتهم رغبة عارمة في الثأر والانتقام، فاندفعوا بأسلحتهم إلى أسواق القدس العتيقة، وهم يطلقون النار على كل من يعترض سبيلهم. ثم أخذوا يكسّرون واجهات المحال، وينهبون ما في الدكاكين، ويضربون التجار بأعقاب البنادق، وبالقبضات. كانت شتائم الأردنيين لا توفّر أحداً من الناس، غير أنّ المفتي الحاج أمين الحسيني حظي بالنصيب الأوفر من اللعنات. أليس هو عدوّ الملك الأول؟! - بلى. وإذاً فلا بدّ أنّ له يداً في مصرع الملك. وكذلك استيقن الأردنيون، في أنفسهم، من هو خصيمهم.

ظلال الرجل المشؤوم

كان الملك عبد الله الأول لا يُخفي مقته للحاج أمين. وكان يطيب له أن يصفه بـ«المشؤوم»، وبأنه رجل لا يظهر ظلّه في بقعة من بقاع الأرض إلّا وسارعت إليها المصائب، وتتالت عليها الكوارث. ولطالما تهكّم الملك الأردني من غريمه، قائلاً إنّ المفتي «المتعوس» أخذ على عاتقه قيادة ثورة فلسطين سنة 1936، فانفرط عقد الثورة. وبعدها، ظهر في العراق نصيراً لرشيد عالي الكيلاني، ففشلت ثورة الكيلاني. وفرّ إلى طهران، فخُلِع شاه إيران.

اعتُبر عبد الله التل في الأردن خائناً وسقط من عين الشريف عبد الله
واستقبله هتلر، فاندحرت جيوش هتلر. واستجار ذلك الرجل بموسوليني، فشُنِق موسوليني وعلّقت جثته من ساقيه. ورحل إلى الملك فاروق في مصر، فانتشر في مصر يوم وصل إليها أمين الحسيني وباء الكوليرا (²)... ولم يكن الملك عبد الله يعلم أنّ ظلّ المفتي «الكريه» سيظهر له هو أيضاً، على عتبات المسجد الأقصى الذي ذهب إليه ظهر يوم 20 تموز 1951، لأداء صلاة الجمعة. وعندما وجد الجنود الأردنيون، وهم يفتشون جثة القاتل ورقة مطوية في جيبه، فيها فتوى تجيز قتل عبد الله، وتَعِد من يقضي على هذا «الخائن» بدخول الجنة؛ فإنهم استيقنوا في أنفسهم أنّ المفتي إيّاه هو الذي دبّج تلك الفتوى. وصدرت الأوامر الأردنية باعتقال كلّ أتباع أمين الحسيني في القدس، فوراًَ.
كان مصطفى شكري عِشّو، قاتل الملك عبد الله، شاباً فلسطينيّاً فقيراً، يشتغل صانع خياط. ولقد انتمى، منذ صباه، إلى أحد تنظيمات المقاومة التي تُدعى «الجهاد المقدّس». وأبغض مصطفى، مثل غيره من الفلسطينيين المتحمسين، الملكَ عبد الله، واعتبره «خائناً، وعميلاً عتيقاً للبريطانيين، ومتعاوناً مع اليهود يستحق الموت». ولم تكن صِلة عبد الله بالإنكليز خافية على أحد. لكنّ اتصالاته الأخرى مع الصهاينة سرعان ما فاحت روائحها، وانكشفت للملأ. فقد كان بعض السّاسة الإسرائيليين لا يتورّعون عن المجاهرة بما يدور بينهم وبين عبد الله، في لقاءاتهم السرية المتتالية، ولا يبالون بما تسبّبه تصريحاتهم أو تسريباتهم من فضحٍ للرجل. ومثلاً، فقد كشف حاييم وايزمان، رئيس مجلس الدولة المؤقت لإسرائيل، في مؤتمر صحافي عقده في باريس، بعد إعلان وقف إطلاق النار في حزيران 1948، عن فحوى الاتفاق بين عبد الله وغولدا مائير التي استضافها الملك لتتعشى معه، في قصر رغدان، قبل أربعة أيام من الإعلان عن قيام دولة «إسرائيل»، في 15 أيار 1948. وكان من المصادفات المحضة أنّ تلك الضيافة الملكية لغولدا مائير اتفق لها أن تحصل في اليوم ذاته الذي احتلت فيه قوات «البَلماح» الصهيونية مدينة صفد، وهجّرت منها كل أهلها العرب، وبعد سويعات من انسحاب القوات الأردنية التابعة لـ«جيش الإنقاذ» من مواقعها في المدينة الفلسطينية المنكوبة. وفي ذلك الاجتماع بين الملك الأردني وغولدا مائير اتفق الاثنان على أن لا يقاتل جيش أحدهما الآخر، في الميدان، وأن تُقتسم فلسطين، فيحصل اليهود على نصيبهم المقرّر لهم، ويستولي عبد الله على ما يبقى من الوطن السليب، فيضمّه لمملكته. ثم ما لبثت قصص عبد الله والصهاينة أن شاعت، خصوصاً بعدما هرب عبد الله التل، أحد أبرز القادة العسكريين الأردنيين إلى مصر، وفضح فيها المستور(³). ولم يكن التل شخصاً عادياً، بل كان مطلعاً على كثير مما يدبَّر بين الأردنيين والإسرائيليين، بحكم منصبه كحاكم عسكري لمدينة القدس. وكان التل هو الذي قاد المعارك في جبهة القدس، أيام حرب 1948. وهو أيضاً الرجل الذي أمره الملك عبد الله، عبر الهاتف في يوم 11 حزيران 1948 - وكان المقاتلون في خضمّ المعركة - بأن يوقف زحف جنوده في الفوج السادس، على المواقع العبرية في القدس (4). ولقد بدت له تلك الأوامر مفجعة، فالجنود كانوا ينظرون إلى النصر، ويمدّون بأيديهم ليقبضوا عليه.
عافَ التل ما يصنعه ملكه، فرحل إلى القاهرة، وانضمّ إلى المعارضة التي يقودها المفتي أمين الحسيني هناك. وأما في الأردن، فقد اعتُبر عبد الله التل خائناً، وسقط من عين الشريف عبد الله. وبعدما وقعت واقعة اغتيال العاهل الهاشمي، خمّن المحققون الأردنيون في احتمال أن يكون التل - وهو الذي كان حاكم القدس قبل سنتين - ضالعاً في الجريمة التي حصلت في المدينة. وصار هناك، إذن، مشتبهان كبيران. وتمّ اعتقال كل من يمتّ بصلةٍ إلى مفتي القدس. واحتجز أكثر من سبعين فرداً من عائلة الحسيني وأتباعه. وحامت الشبهات فوق رؤوس من كانوا أصدقاء لعبد الله التل في الماضي. ثم ضاقت دائرة التحقيقات، فانحصرت في عشرة أنفار، قُدّموا إلى المحكمة العسكرية. وكان عبد الله التل على رأسهم. ولم تدم المحاكمة سوى تسعة أيام، كالَ فيها ممثل الدفاع عن المتهمين مديحاً للمحكمة العسكرية أكثرَ مما رافع عن منوبيه. وفي نهاية المطاف أصدر رئيس المحكمة الفريق عبد القادر الجندي أحكامه بالإعدام لعبد الله التل (5) الذي اعتبر مدبّر المؤامرة، وعلى صديقه موسى أحمد الأيوبي باعتباره متواطئاً في الجريمة. على أنّ هذين كانا في القاهرة فلم يطلهما الأذى. وأمّا الدكتور موسى الحسيني، وقد اتُهم بأنه صلة الوصل بين المحرّضين في مصر، والمنفذين في القدس، فقد تم إعدامه شنقاً، مع عبد القادر فرحات، والشقيقين عابد وزكريا عُكّة. وبرّأت المحكمة العسكرية أربعة متهمين بينهم اثنان من أقرباء أمين الحسيني.

في انتظار الملك «المجنون»

لم تُهدِّأ سرعة القبض على متهمين، وإجراء محاكمة لهم، وتنفيذ الإعدام بهم، مشاعرَ الغضب عند كثير من أبناء العشائر الأردنية. ولقد اعتبر بعض هؤلاء أنّ قتل المليك جريمة فلسطينية شنعاء لا تمسّ بأذاها أفراد العائلة المالكة وحدهم. وعلى الرغم من أنّ جلّ الفلسطينيين في المملكة الهاشمية أبدوا الحزن والأسى، وأعلنوا الحداد على جلالة الفقيد المعظّم، فإنّ المتعصبين في الضفة الشرقية من البلاد لم يصدّقوا بأنّ جيرانهم مستاؤون فعلاً. ومن سوء الحظ أنّ النزق بلغ ببعض الشبّان في مخيمات اللاجئين مبلغه، فأعلنوا جهاراً احتفالات الشماتة. ولم يتأخر ردّ المتعصبين في المعسكر الثاني، فقُتِل ثلاثة من اللاجئين، وجُرح آخرون في مخيّم قرب فندق فيلادلفيا في عمّان. وخوفاً من ردات فعل أخرى غير منضبطة طُوِّق قصر رغدان بالجنود، ولم يسمح لأفراد الرعية بإلقاء النظرة الأخيرة على راعيهم الراحل. وسُيّجت التلة التي سيدفن فيها الملك بالأسلاك الشائكة. وانتظر الجميع رجوع ولي العهد من جنيف لإجراء مراسم الدفن. وكان الأمير طلال يُداوَى، في سويسرا، من أمراض عقلية ما انفكت تلمّ به، وتدفعه كل مرّة إلى تصرفات مجنونة. وقبل أشهر من مصرع والده، كاد طلال أثناء بعض شكوكه وهلوساته، أن يقتل زوجته زين وابنته الصغيرة بسمة.
وفي داخل العائلة الحاكمة، تفجرت بسرعة الأحقاد بين الضرائر، أرامل الملك الثلاث. ولم تسمح الأميرة مصباح بنت ناصر لمراسم الجنازة الملكيّة أن تتمّ، قبل عودة ابنها طلال وليّ العهد، من غيبته القسرية في سويسرا. ولمّا كانت عودة طلال متعذرة في ذلك الوقت، فقد بقي جثمان الملك ممدوداً، ثلاثة أيام، في قاعة العرش في قصر رغدان. وكان جوّ تموز لاهباً، والجثة أخذت تتحلل، والأرملة يابسة الرأس. ولعلها كانت تخشى إذا لم يعد ابنها من غربته، أن يتولى أخوه غير الشقيق نايف مقاليد الحكم في الأردن. وزاد من هواجسها أنّ نايف عُيّن بالفعل وصيّاً على العرش. ولم يتوقف الجنون على الأميرة مصباح، فشقيقة نايف الأميرة مقبولة صنعت هي الأخرى فضيحة عندما توجهت أمام الملأ نحو رئيس الوزراء سمير الرفاعي، وجعلت تتهمه بأنه هو الذي قتل أباها، وتدعو الجنود إلى أن يقتلوه فوراً. وأمّا ناهدة، المحظية السودانية التي أغرم بها عبد الله، فتزوجها ووهب لها معظم أرزاقه، فقد دارت عليها الدوائر، منذ اللحظة التي مات فيها وليّ نعمتها. ولقد حانت ساعة الانتقام الجماعي منها.
وفي مجلس العموم في لندن، قام ونستون تشرشل، وليّ نعمة عبد الله القديم، بتأبين صديقه العربي على طريقته، فقال: «لقد كنت شخصيّاً مسؤولاً عن تعيينه أميراً لشرق الأردن. ولقد كان رجلاً شديد الحماسة، سعى إلى طرد الفرنسيين من سوريا بقوة السلاح، فأقنعته مع لورانس بعدم اتخاذ هذه الخطوة الشاذة. ولقد أقدم على كل المخاطرات ليرضي الذين تعاون معهم. إنّ العرب فقدوا بطلاً عظيماً، واليهود فقدوا صديقاً مؤهلاً لتذليل المصاعب، ونحن فقدنا حليفاً مخلصاً».

الهوامش:

1- Mary Christina Wilson, King Abdullah, Britain and the Making of Jordan (Cambridge University Press, 1987) p: 209
2- محمد حسنين هيكل، المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية، الكتاب الأول (دار الشروق طبعة 1996) ص: 214
3- بعد انشقاق عبد الله التل ولجوئه إلى مصر، أفشى الرجل أسرار المفاوضات السرية التي كان يجريها الملك عبد الله مع الصهاينة، وسعيه لعقد اتفاق صلح منفرد مع «إسرائيل». ونشرت جريدة «أخبار اليوم» القاهرية ابتداء من يوم 18 آذار 1951، سلسلة من التقارير اعتمدت فيها على المعلومات التي سرّبها الكولونيل التل عن خفايا ما يجري في قصر الملك عبد الله بالشونة، قرب البحر الميت. وأثارت تلك التقارير سخط الفلسطينيين، أيامها. وبعد ذلك نشر عبد الله التل مذكراته في كتاب سمّاه «كارثة فلسطين»، ونشرته «دار الهدى» المصرية، في سنة 1959.
4- Larry Collins & Dominique Lapierre, O Jerusalem! (Club edition,1972) p: 537
5- بعد سنوات عديدة، من إدانة عبد الله التل في قضية اغتيال الملك عبد الله الأول، عاد الملك حسين، وعَفَا عن الرجل الذي اتُهِم بأنه «قاتل جدّه». ولم يكتفِ حسين بالعفو عن التل وإعادته إلى وطنه، بل احتفى به أيضاً، وعيّنه في عدّة مناصب رسميّة رفيعة في وزارات الداخلية، والخارجية، والأوقاف. ثمّ عيّنه الملك عضواً بمجلس الأعيان عام 1971.
* كاتب عربي