قيل وسيقال كلام كثير بشأن الاتفاق الدولي حول الملف النووي الإيراني. أبرز ما ينبغي ملاحظته الآن أن الطرفين الأساسيين في الاتفاق، أي واشنطن وطهران، منهمكان، بالدرجة نفسها، في تسويقه داخل كل من الولايات المتحدة الأميركية وإيران لضمان المصادقة عليه من قِبَل الكونغرس الأميركي ومجلس الشورى الإيراني. في الواقع، يعمل الطرفان في مرحلة التسويق، كما في مرحلة التمهيد، ومن ثمَّ التفاوض والتوقيع، بقدرٍ عالٍ من التركيز والمثابرة. يعملان، أيضاً، بقدرٍ لا يُستهان به من التناغم أو التنسيق، حتى حين يعبران عن تناقضاتهما بشأن هذه المسألة أو تلك، أو حين يكرر قادتهما (على المستوى الأول) استمرار التباين في سياستهما حيال القضايا والنزاعات الأخرى، وخصوصاً منها الملتهبة في منطقة الشرق الأوسط... وفي هذا السياق، يمكن القول أيضاً، إن الاتفاق الذي وُقِّع من قبل إيران ومجموعة 5 + 1، ومن ثم أقرَّ في مجلس الأمن بالإجماع، يبقى رغم ذلك، اتفاقاً إيرانياً – أميركياً، بالأساس وبالنتائج، قبل أي أمر آخر.
لقد جسَّد الاتفاق حاجة ومصلحة قادة البلدين، ومن يمثلان من كتل ومصالح، إلى إحداث انعطافه نوعية في علاقتهما بعد أن اختبرا فرص تقاطع أو تعاون جزئي، ولكن بالغ الأهمية لكليهما، في كل من أفغانستان والعراق. نعم يعود «الفضل»، في تنامي مناخ التعاون والمضي في السعي إلى المزيد منه، إلى النتائج المجزية التي حصدها كل من الطرفين في العراق وأفغانستان (وعلى صعيد المنطقة عموماً). حصل ذلك رغم استمرار وجود غبار كثيف في سماء علاقات البلدين: غبار لم يكن مفتعلاً بل كان قائماً في صلب جدلية العلاقة بينهما نفسها حيث التقاطع والتقارب، التعاون والتباين، التوتر والانفراج... وحيث دارت وتدور، في السر وفي العلن، الاتصالات والمفاوضات والمساومات، وتطبخ، بالتالي، التسويات والاتفاقيات والحلول. يعود «الفضل» في ذلك أيضاً إلى براغماتية تقليدية مبادرة طبعت دائماً سياسة الإدارات الأميركية، وإلى مثابرة وحضور إيرانيين لم يعوزهما، أيضاً، إدراك المستجدات، والتجاوب مع ضغط الضرورات، وامتلاك القدرة على الانحناء أمام الأعاصير تجنباً للخسائر والإنكسارات.
تحتاج واشنطن الآن لأن
تمارس دور الحَكَم المقبول
لا الاكتفاء بدور الحاكم

ينبغي أيضاً التذكير بأن مسار التقاطع الأميركي ــ الإيراني قد بدأ قبل عهد الرئيس باراك أوباما الذي مضى به، راهناً، إلى المدى الأبعد، عبر توقيع اتفاق فيينا في الرابع عشر من الشهر الجاري. إنه بدأ، بشكل واضح وملموس ومؤثر، في عهد جورج بوش الابن، أي في ذروة الغطرسة والعدوانية الأميركية، وفي ظل استراتيجية الغزو والحروب الاستباقية واستخدام القوة العسكرية بشكل منفرد عندما تقرر الإدارة ذلك: تعزيزاً لهيمنة الولايات المتحدة على القرار الدولي بشكل أحادي من دون حسيب أو منازع. والمفارقة اللافتة أن الطرفين قد اختبرا، بنجاح، فرص التقاطع والتعاون في ظل الاندفاعة «البوشية» الخائبة، وفي ظل الانكفاء «الأوبامي» المحسوب. وكذلك اختبرا فرص التعاون والتقاطع في ظل سياسة مرحلة بناء الدفاعات الإيرانية، كما في ظل سياسة طهران حين تحولت إلى الهجوم والذهاب إلى أقصى الأماكن والاحتمالات: في البر والبحر والجو!
إن اختراق العلاقات بين واشنطن وطهران لولايتين مكررتين (16 سنة) لرئيسين أولهما «جمهوري» وثانيهما «ديمقراطي»، يؤكد أن خيار الصلة والتقاطع إنما تمليه مصالح كبيرة، هنا وهناك، لا مجرد صدف أو أمزجة أو رغبات. بالأمس كان خطر حركة «طالبان» و«قاعدة» أسامة بن لادن في أفغانستان. وبالأمس أيضاً كانت مصلحة مشتركة في التخلص من حكم الرئيس صدام حسين في العراق. واليوم تتقاطع مصالح الطرفين الأميركي والإيراني على احتواء التطرف وبعض أسبابه ومصادره (وخصوصاً منه التكفيري المدعوم من بعض دول الخليج وكذلك تطرف العدو الصهيوني حيال ولو بعض حقوق الشعب الفلسطيني). وتتقاطع هذه المصالح على تطبيع، يحتاجه الطرفان، بعد صراع ضار بلغت فيها العقوبات الأميركية والغربية ضد إيران مداها الأقصى (ولّدت أزمة اقتصادية تعاظمت بازدياد كلفة الانخراط الخارجي الإيراني في أزمات المنطقة). كما بلغ البرنامج النووي حافة القدرة على استخدامه لأغراض عسكرية ما يهدد بالإخلال بتوازن رعته دائماً واشنطن ولا تريد إدارة الرئيس أوباما أن تواجهه بقوة الحرب والدمار غير مضمونة النتائج، وإنما بالاحتواء والتأجيل والرهان على تغيير نوعي في الداخل الإيراني، وفي دور طهران الإقليمي ارتباطاً بذلك.
والمسألة قبل هذا وبعده لا تحتمل، أساساً، أي تبسيط أو اجتزاء. لوحة التحولات الدولية الناجمة عن تبدل التوازنات والتنافس الضاري تستدعي الآن خطوات «استباقية» في السياسة بعد أن كانت، قبل دزينة سنوات، في الحقل العسكري. نشوء كتل دولية وقارية أمر يقلق واشنطن قبل سواها. المنافسة الاقتصادية من قبل الصين تؤرق واشنطن بقدر ما يضاعف من مخاوفها أيضاً سعي الاتحاد الروسي، بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين للعب دور دولي معزز بقدرات عسكرية روسية متنامية ومنافسة من دون حدود. التعاون الروسي ـ الصيني، بدوره، هو الآخر، مصدر قلق غير مسبوق لواشنطن على مستوى العالم وليس على مستوى المنطقة فحسب.
في مجرى ذلك تتغير وتتبدل الأدوار أيضاً وفقاً للحاجات والمصالح والتوازنات. الولايات المتحدة تبحث عن حلفاء أقوياء تعزز، من خلال العلاقة معهم، أوراقها التنافسية في الحقول كافة: الاقتصادية والأمنية والسياسية. هي، لهذا الغرض، تحاول إعادة النظر في بعض سياستها وأولوياتها ما أثار مخاوف وردود فعل غاضبة خصوصاً في كل من الكيان الصهيوني والمملكة العربية السعودية. لم تعد للنفط الخليجي كل أهميته السابقة بعد اكتشاف النفط الصخري الأميركي. لم تعد، أيضاً، لدولة العدو الإسرائيلي الوظيفة السابقة نفسها بعد تفتيت المنطقة بفعل انقسامات داخلية وبسبب تنامي الإرهاب التكفيري إلى درجة بات معها يهدد العالم بأسره. تحتاج واشنطن الآن لأن تمارس دور الحَكَم المقبول في كل المنطقة لا الاكتفاء بدور الحاكم لبعضها فقط. هذا يستدعي، بين أمور أخرى، إيجاد تسوية للموضوع الفلسطيني على حساب موجة التطرف التي تجتاح المستويين السياسي والشعبي في دولة الاغتصاب والعنصرية إسرائيل.
يمكن القول، وفق مجريات تطور الأحداث في طهران والمواقف في واشنطن، إن الأخيرة لا تخفي رهانها على أن تتحول عملية التفاوض، ومن ثم الإصرار على تتويج ذلك التفاوض الماراتوني بتوقيع اتفاق فيينا، إلى دينامية تغيير ستتوالى فصولها في الداخل الإيراني وإن بشكل بطيء وتدريجي. يمكن القول أيضاً، إن إيران كرست من خلال الاتفاق دورها الإقليمي وحتى الدولي: لاعباً وشريكاً ومحاصصاً من موقع حيويتها وتماسكها وتعاظم قوتها وعلاقاتها وتمكنها من استقطاب وتعبئة كتلة شعبية وسياسية واسعة ومنتشرة تشاركها الانتماء المذهبي نفسه...
قلنا إن وراء الاتفاق الأميركي ــ الإيراني مصالح أساسية كبرى لحكام كل من الولايات المتحدة وإيران. ثمة، الآن، إصرار على تمريره لا يعادله إلا الإصرار على توقيعه. لذلك سيمر ذلك الاتفاق، على الأرجح، في الكونغرس الأميركي ومجلس الشورى الإيراني (رغم كل العقبات والصعوبات الفعلية والمفتعلة). أما المعارضون للاتفاق، لأسباب سياسية انتخابية (في الداخل)، ولأسباب فئوية في كل من إسرائيل وبعض الخليج، فلن يستطيعوا الكثير إزاء ما يمثله الاتفاق من وعود وما يفتحه من آفاق وما يتمتع به من زخم وتأييد.
الصهاينة يبالغون في عنصريتهم وأطماعهم، وحلفاء واشنطن، من العرب، في عجزهم وذاتيتهم (أنظمة تدافع عن نفسها لا عن مصالح شعوبها). أما العرب، كشعوب وكدور ومصالح، فغائبون أو مغيَّبون حتى إشعار آخر وأخطر!
* كاتب وسياسي لبناني