رداً على إعلان واشنطن اعترافها بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، أعلن الاتحاد الأوروبي رفضه لأي تعديل أحادي الجانب على الوضع القائم في المدينة. وأعادت المفوضة العليا للشؤون الخارجية والأمنية في الاتحاد، فيديريكا موغيريني، أثناء زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لمقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل، التذكير بموقف الاتحاد المؤيد لحل الدولتين والقدس عاصمة لدولتين، وقالت: «إننا نعتقد أن من مصلحة إسرائيل - ولا سيما مصالحها الأمنية - إيجاد حل شامل ودائم للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني.
لذلك، سيكثّف الاتحاد الأوروبي العمل... من أجل إعادة إطلاق عملية السلام، بالرغم مما يبدو أنها لحظات عسيرة».
ورغم أن هذا الموقف يأتي في سياق الثوابت التي تتبعها السياسة الأوروبية التي أدانت على الدوام عملية الاستيطان وتعتبرها عقبة في وجه «السلام»، فإن هذه التصريحات الرسمية ليس لها أي أثر عملي بسبب غياب الإرادة لدى الاتحاد في وقف هذا الاستيطان بنحو يناقض المبادئ التي يعلنها الأوروبيون. رغم أن منطق المصالح المفهومة جيداً لأوروبا والبصيرة السياسية، في سياق يشهد تحولات دولية، يفرض على الاتحاد أن يعيد التوازن إلى علاقاته مع العالم العربي وأن يستخدم بشكل ملموس كل وسائل الضغط السياسي والمالي من أجل فرض العقوبات على إسرائيل. في نظر الكثير من المراقبين إن موقف الاتحاد الأوروبي هو تعبير عن الاستسلام السياسي الذي يمكن تفسيره من خلال الإرث البنيوي الثقيل ومن خلال الروابط الأيديولوجية القوية التي أُقيمَت مع إسرائيل.
من الصحيح أن إسرائيل، تاريخياً، ومنذ إنشائها، عبارة عن مشروع استعماري ورأس جسر للغرب في الشرق الأوسط. في هذا السياق كتب تيودور هرتزل في كتابه دولة اليهود (الصادر في فبراير 1896): «سوف نشكل سوراً لأوروبا في وجه آسيا، سوف نكون المدافعين عن الثقافة والحضارة ضد المتوحشين». وطوال القرن العشرين جرت عملية إعادة تركيب وتكوين للذاكرة التاريخية بشكل مكثف بحيث جرت عملية خلط بين اليهود وأوروبا وأن هويتهم واحدة. تطلّبت هذه العملية الأيديولوجية إعادة بحث في الجذور التاريخية لأوروبا وإعادة اختراع حضارة يهودية - مسيحية سحيقة، رغم أن ــ كما أشار إلى ذلك المؤرخ اللبناني جورج قرم في كتابه «من أجل قراءة دنيوية للصراعات»، الصادر سنة 2012 عن «دار لاديكوفيرت» ــ المسيحية الغربية قد نشأت تاريخياً في تناقض مع اليهودية. ويشير في هذا السياق إلى أن عملية الأدلجة قد استمدت غذاءها من الأفكار البروتستانتية ومن الميراث الهيغلي في الفكر الفلسفي في أوروبا «التي تقود إلى اعتبار إنشاء دولة إسرائيل على أنه استكمال عادل للتاريخ». وفي كتابه المهم «العشق الأوروبي الجديد للسامية ومعسكر السلام في إسرائيل»، (الصادر سنة 2007 عن دار لافابريك) يبيّن الروائي الإسرائيلي إسحاق لاهور أيضاً أنه في إطار التصور حول الاستقطاب العميق بين الغرب والشرق، فإن إسرائيل هي التجسيد لقيم الحضارة الغربية في مواجهة الشرق العربي. إن هذا التصور الثقافي مندمج في بنية ونمط تنظيم المجتمع الإسرائيلي نفسه المنقسم بين يهود أوروبيين ويهود عرب، وهؤلاء اليهود العرب هم ضحية للعنصرية المقوننة ويعانون من قمع ثقافي حقيقي، كما بيّنت ذلك الأستاذة الجامعية الإسرائيلية إيللا شوحاط في كتابها «الصهيونية من وجهة نظر الضحايا اليهود»، إذ كتبت: «كان محو عروبة اليهود السفارديم - المزراحيين أمراً حاسماً من المنظور الصهيوني، لأن الطابع الشرق أوسطي للسفارديم سوف يطرح الأسئلة حول معاني وحدود المشروع القومي الأورو-إسرائيلي نفسه».
ولكن خارج هذه الاعتبارات التاريخية التي تضيء على طبيعة العلاقة الاستعمارية التاريخية والأيديولوجية التي ربطت ووحدت أوروبا مع إسرائيل، هنالك عوامل أخرى دخلت ولعبت دوراً في المعاملة الاستثنائية التي تحظى بها تل أبيب قد ساهمت في إقصاء الدور السياسي للاتحاد الأوروبي من منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة الماضية. إن الوضعية المميزة التي تتمتع بها إسرائيل في الاتحاد الأوروبي والعلاقات بينهما التي تستمر في التعمق بالرغم من بعض الخلافات السياسية حول بعض الملفات، يعود قبل أي شيء إلى الرؤية المشتركة للمصالح التي تجمع بين الطرفين والرؤية الاستراتيجية المشتركة التي جعلت الأوروبيين يتجهون صوب «النموذج» الإسرائيلي في مكافحة الإرهاب في سياق سياستهم حول «الأمن الشامل».
سنة 2017، يبقى الواقع المعاين أبلغ تعبير: لا يزال الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأول لإسرائيل قبل الولايات المتحدة. إذا كان تاريخ العلاقات يعود إلى 1975، فإن اتفاق الشراكة بينهما الموقع عام 1995، والذي يتضمن إنجاز خطة العمل المشتركة، قد أرسى جذوراً قوية لإسرائيل في الاتحاد الأوروبي. بالرغم من أنه منذ إعلان البندقية الصادر عن مجلس أوروبا في شهر يونيو/ حزيران 1980 والذي أثار قضية الضرورة التاريخية لقيام دولة فلسطينية مستقلة، قامت إسرائيل من دون توقف بإدانة ما تسميه موقف الاتحاد «المؤيد للفلسطينيين» و«الشروط» المزعومة التي يضعها والتي تربط تطور العلاقات بموافقة إسرائيل على «حل الدولتين»، ولكن عملياً لم يكن هنالك أي ارتباط بين تعميق الشراكة وبين التقدم في «عملية السلام».
ما عدا بعض التصريحات حول المبادئ، بقي الاتحاد الأوروبي حذراً من ممارسة أدنى ضغط على الدولة الإسرائيلية بالرغم من الإمكانات المهمة التي يتمتع بها، وخاصة على الصعيد المالي. وهكذا كان الأمر في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2008، عشية عملية «الرصاص المصهور»، حيث قام الاتحاد الأوروبي، بفضل العمل النشيط الذي قام به برنار كوشنير، برفع مستوى العلاقات مع تل أبيب وإعطاء سياستها المثيرة للحروب صكاً على بياض.
لقد أثار العدوان الإسرائيلي على غزة بعض الاستنكارات الأخلاقية من دون أية نتائج عملية. ولم يمنع إعلان تجميد مسار تعميق الشراكة سنة 2009 من الاستمرار في التعاون الوثيق، سواء أكان ذلك على الصعيد الاقتصادي والتجاري أم على المستوى السياسي والاستراتيجي. وقد أدان تقرير نشرته في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2012 عشر جمعيات بعنوان «السلام بثمن بخس: كيف يدعم الاتحاد الأوروبي المستوطنات الإسرائيلية» (قام الصحفي الفرنسي المختص بشؤون الشرق الأوسط آلان غريش بتحليل هذا التقرير) الانفصال بين الخطاب المعلن والممارسة العملية التي توفر للحكومة الإسرائيلية سبل الإفلات من العقاب. وأخيراً، في مقال نشر في شهر أغسطس/ آب 2017، كشف الصحافي الأميركي من أصل فلسطيني علي أبو نعمة عن المبالغ الكبيرة (عدة ملايين يورو) التي أنفقها الاتحاد الأوروبي لتمويل «البحث» عن شركة تعمل مع إسرائيل للالتفاف على الحظر الدولي على الأسلحة التي تستخدم الذخيرة الحية. «اختارت إسرائيل شركة ايلبيت سيستيمز بالتحديد لكي تزودها بذخائر مدفعية حديثة، ذلك أن أي شركة صانعة أوروبية ستعارض استخدام إسرائيل لهذا النوع من الذخيرة» حسبما كشف الصحفي.
في الواقع، إن الخلافات السياسية الأورو-إسرائيلية، وخاصة تلك التي تتعلق بإلصاق البطاقات على المنتجات القادمة من المستوطنات والتي لا تشكل سوى ما نسبته 1% من إجمالي التبادلات التجارية بين أوروبا وإسرائيل بحسب ما يقول الاتحاد الأوروبي نفسه، لم تؤثر قطّ بمتانة العلاقات الاقتصادية، والتبادل العلمي والثقافي.
إن هذه العلاقات الاستثنائية ترتبط أيضاً برؤية مشتركة حول المصالح الاستراتيجية والتهديدات، وهو الأمر الذي أثبته تعاضد الجانبين في موضوع البرنامج الصاروخي الإيراني. فالبرغم من الإشارات حول سياسة أوروبية أكثر انفتاحاً تجاه إيران بعد توقيع الاتفاق حول البرنامج النووي (والفرص المهمة التي تتيحها السوق الإيرانية للمستثمرين الأوروبيين)، تزايدت انتقادات المسؤولين الأوروبيين في الأشهر الأخيرة حول برنامج طهران لتطوير الصواريخ البالستية، ورفضت إيران أيّ تدخل أوروبي في شؤونها الداخلية.
من جهة أخرى، تجدر الإشارة إلى أن تقوية العلاقة الاستراتيجية بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي الذي أُعلن أثناء انعقاد الدورة الثامنة لمجلس الشراكة الأورو-إسرائيلية في شهر يونيو 2008، قد بلغت مرحلة لا نظير لها في مجال «مكافحة الإرهاب». دفعت التفجيرات التي حصلت في بروكسل الأوروبيين إلى السعي نحو تبني النظام الأمني المعمول به في مطار بن غوريون في تل أبيب حيث يخضع «المشتبه فيهم» لعملية تحليل نفسي سلوكي بشكل منهجي. كذلك أدى الهجوم الذي حدث في مدينة نيس إلى جدال واسع عبر وسائل الإعلام في فرنسا حول النموذج الإسرائيلي في «مكافحة الإرهاب» الذي ظهر أنه فعال في تجنب وقوع التهديدات. هذا «النموذج» الإسرائيلي الذي يسحر العديد من المسؤولين الأوروبيين، هو ما يسمى «مصفوفة التحكم» التي قام جيف هالبر بتحليلها سنة 2000. الغاية من هذه المصفوفة هي تحييد الخصم عبر التحكم بكل نقاط الوصول وجرى تصميمها على ثلاثة مستويات. المستوى الأول يتحقق من خلال الضبط العسكري على نقاط التفتيش، وصولاً إلى زنازين السجون مترافقاً مع القمع العنيف الممنهج. في المستوى الثاني يجري الاعتماد على السياسيين لفرض الأمر الواقع من خلال مصادرة الأراضي بنحو مكثف وإقامة المستوطنات. هذه السياسة لا تقتصر فقط على الموظفين، بل تقوم على حشد المدنيين، بمن فيهم طلاب الجامعات، إن جميع مكونات المجتمع الإسرائيلي تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في استراتيجية احتلال واستيطان فلسطين. المستوى الثالث، أخيراً، يقود إلى عملية إضفاء طابع المؤسسات على نظام الأبارتهايد من خلال ترسانة من التشريعات التي تكرس ممارسة الحقوق «للوطنيين» الوحيدين، أي اليهود، وتجعل من المواطنين الآخرين مواطنين من الدرجة الثانية. أي إن نظام الاحتلال الاستيطاني والفصل العنصري هذا، المرتبط بأشد الممارسات البالية التي سادت في الإمبراطوريات الاستعمارية والذي تفضل مصفوفة الأمن أولاً أجوبته على نتائج التدمير المنهجي لشروط حياة الفلسطينيين، هو الذي يجسّد النموذج للعديد من الدول الأوروبية التي تلجأ بنحو متزايد إلى الشركات الأمنية الإسرائيلية التي أضحت من أكثر الشركات الرابحة في العالم.