«... ويؤخذ من استقصاء المدن اليونانية في أثناء الفتح الأخميني أنّ أعوان الفرس كانوا امّا أرستقراطيين وأما تجّاراً... ويقدّم لنا ذلك دليلاً مبكراً على أن الاصطدام بين المصالح الطبقية للمستغلين ومصالح الوطن العليا غالباً ما يسفر عن التضحية بالثانية لحساب الأولى. وتكمن في هذه الحقيقة أصول الخيانة القومية، كما يتحدد طبقاً لها مصدر الخيانة، أي الجهة المؤهلة دوماً لتمثيل دور العمالة للأجنبي»«يقول الطبري إن الحسين بن علي لما كان في الطريق إلى كربلاء لقيه شخص يدعى مجمع بن عبد الله العائدي كان قد خرج من الكوفة للالتحاق به. فسأله الحسين عن الوضع هناك فأوجزه مجمع بقوله: «أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم بالمال يستمال به ودّهم وتطلب به نصيحتهم فهم ألب واحد عليك. وأما سائر الناس بعد فإن قلوبهم معك وسيوفهم غداً مشهورة عليك...»
من دراسة هادي العلوي: «الجذور التاريخية للعمالة»، مجلة دراسات عربية، العدد 4، شباط 1980|


لا ترتكز العمالة (كالجرائم «العادية») على الإغراء والإغواء والضعف البشري فحسب، بل هي قبل أي شيء آخر علاقة قوّة؛ بين طرفٍ يرى نفسه فائقاً وآخر يرى نفسه دونيّاً.

لهذا السبب سيكون لأميركا ــ دائماً ــ عملاء في لبنان أكثر مما للبنان عملاء في اميركا، وسيسعى آلاف المتعلّمين العرب الى خدمة المصالح الغربية في بلادهم وتمثيلها، ولن يكون العكس صحيحاً، بغضّ النّظر عن صفات الشعوب وأخلاقياتها ومزاجها. في بحثه عن «الجذور التاريخية للعمالة»، يلخّص الراحل هادي العلوي جوهر العمالة في عنصرين: علاقة الفوقيّة والقوة بين بلد العميل والبلد الذي يشغّله، وتلاقي المصالح أو الاستفادة المتبادلة بين الطرفين؛ ولأنّ النّخب هم أكثر الناس حساسية لعلاقات القوة والمصالح، وأكثر من يحرّكه همّ الطّموح والتّسلّق، وتحويل أزمات شعبه وكوارثه الى «فرصٍ» له، فهم تاريخياً أكثر النّاس استعداداً للعمالة.
يروي العلوي أنّ أوّل من مارس العمالة في تاريخ العرب المدوّن لم يكن «أبا رغال» الشهير، بل النّضيرة بنت الضيزن، ابنة ملك الحضر، المدينة الحصينة التي تقع آثارها اليوم قرب الموصل. حين حاصر الملك الساساني شاهبور الأوّل عاصمة الضّيزن، اتّصلت به النّضيرة سرّاً، وعرضت أن تدلّه على مدخلٍ للمدينة مقابل أن يتزوّجها ويجعلها ملكة. قام شاهبور فعلاً باقتحام الحضر مستعيناً بإرشادات الأميرة، وقتل أمراء المدينة ونبلاءها، باستثناء النّضيرة التي وفى بوعده لها وتزوّجها. ولكن، في يوم الزفاف في القصر الملكي، اكتشف شاهبور مدى العطف والدّلال اللذين حظيت بهما الأميرة من أهلها، قبل أن تخونهم وتودي بهم الى الهلاك، فغضب عليها غضباً شديداً حتّى أمر بإعدامها.
بهذه المقاييس ايضاً، ميّز العلوي بين صنفين من العمالة تاريخيّاً: «عمالة الأسياد»، كحال الملوك الذين يُكرهون على التحوّل الى أتباعٍ لدولٍ أقوى، فيرتضون بالموقع التابع مقابل الحفاظ على عرشهم وامتيازاتهم، و«العميل المحلّي» الذي يعيش في مجتمعٍ ويعمل مع عدوٍّ خارجيّ ضدّه. في الحالة الأولى، يقول العلوي، يوجد عنصر إكراهٍ وإرغامٍ واستسلامٍ لمعادلات القوة؛ وقد يحتفظ الملك التابع ونخبته بمشاعر قوميّة، ويطمحون سرّاً الى انتزاع المزيد من السيادة على حساب «الامبراطورية» أو الانفكاك من طوق التبعيّة لو استطاعوا. ولكن، في النموذج الثاني، فإنّ «العميل المحلّي» يمارس الخيانة بالتراضي الكامل مع مشغّليه ومن دون إكراه، بل هو يتماهى بالكامل مع سيّده ومع مصالحه الشخصيّة. «وتؤدّي الرابطة المطواعة الى تفريغ شخصيّة التابع من نزعة التمرّد والاستقلال»، يقول العلوي، و«ينصهر» العميل كليّاً في شخصيّة السيّد. بمعنى آخر، يأتي «العميل المحلي» مع العقلية التي تؤمن بأن شعبه «متخلّف»، وتسلّم بدونيّة ثقافته وتفوّق أعدائه؛ النّموذج الذي يكرّر دوماً بأنّنا «لا نستحقّ الاستقلال»، ويعتبر أن الوصاية الدولية على شعوبنا هي رحمةٌ لهم (ولو على الرّغم منهم).

«المثقّفون» والعمالة

لا أدري إن كان القول المنسوب للينين والذي انتشر مؤخراً اثر قضية زياد عيتاني، عن قابلية المثقّف للخيانة، هو فعلاً من كلام لينين (وقد يكون صحيحاً، ولكني بحثت عنه ولم أجده، وهو لا يشبه لغة لينين الذي لم يخلط بين العداء للمثقف البرجوازي وبين موقفٍ معادٍ للثقافة والمعرفة ككلّ). غير أنّ هناك قولاً شبيهاً كان يردّده هادي العلوي، وله مغزىً أعمق. كان العلوي يقول ما معناه إنّك لو نظرت في قوائم عملاء المخابرات الأميركية في بلادنا، سيندر أن تجد بينهم فلّاحاً أو خبّازاً يعمل بيديه، بل إنّ جلّهم من «المتعلّمين الغرباويّين». الفارق هنا لا علاقة له بمستوى الثقافة أو الذكاء أو التعلّم، بل بأنّ الخبّاز يملك مهنةً «حقيقيّة»، تربطه بالأرض والمجتمع، وحوله بنيةٌ تقليديّة تزوّده بهويةٍ وموقعٍ وموانع. من الصّعب على انسانٍ كهذا أن تتراصف مصالحه الطبقية مع مصالح عدوٍّ خارجيّ، ولن يكون من السّهل عليه أن يلعب دور الخائن في مجتمعه ومحيطه. أمّا من يعمل في وكالة أجنبيّة، أو يطمح الى راتبٍ ومستوى حياةٍ أوروبيين، ويريد أن يتمايز عن حظوظ وأشغال مواطنيه، فإنّه من السّهل له أن يجد مصالحه في تعارضٍ مع مصالح غالبيّة المجتمع.
بتعابير أخرى، «المثقّف» ليس جيّداً ولا هو سيّئاً بطبيعته، والنظريات التي تؤلّهه وتضعه فوق البشر ليست أفضل من تلك التي تدعو الى كره الثقافة والمثقّفين. المثقّف هو ببساطةٍ «موظّف»، يحتاج الى راتبٍ ومؤسّسة ترعاه حتّى يمارس «وظيفته» ولا يضطرّ لأن يكون خبّازاً أو فلّاحاً أو يعمل بيديه. ولو كانت هناك «دولة وطنية»، تؤطّر هذه الفئة و«تلمّها» وتضبطها، فهي قد يتمّ استثمارها في خير المجتمع، وتكون نخبةً «وطنيّة». ولكن، حين تترك هذه النخب على غاربها، سيسعى كلّ الى ايجاد مموّلٍ وراعٍ؛ عندها يصبح المثقّف «خطيراً»، ونرى مشهداً يشبه ما يحصل اليوم لنخب الدّول العربية «الفقيرة».
في لبنان، توافق الأرقام مقولة هادي العلوي، فمن بين أكثر من مئة شخصٍ اعتقلوا في السنوات الماضية بتهمة التّعامل مع اسرائيل (ولم تتبيّن براءة أكثر من واحدٍ أو اثنين منهم)، تجد نسبةً عاليةً جداً من السياسيّين والناشطين والحزبيين والعاملين في القطاعات «الحديثة» والمنظّمات الدّوليّة، بما يفوق بكثيرٍ نسبتهم في المجتمع. وقد تمّ، مثلاً، اعتقال ثلاثة مشتبه فيهم في الأيّام الأخيرة فقط، منهم اثنان من فئة «النّاشطين» والإعلاميين، والثالث يعمل في منظّمة دوليّة. الأمر لا يتعلّق فقط بكون هذه الفئات «مستهدفة» على نحوٍ خاص. الليبراليّون يميلون لأن ينظروا الى النّاس كذواتٍ مستقلّة، وأنّ كلّ فردٍ هو زهرةٌ فريدة، ولا يمكنك أن تعمّم، فأنت قد تجد المؤمن في جبّ الكفّار وتجد الكافر في حياض الجامع. ولكنّي، على العكس من ذلك، أؤمن بالتّعميم والأحكام الشّموليّة، وأنّك تقدر أن تحكم على الانسان عبر خلفيّته ومصالحه الاجتماعيّة والمؤسسات التي تنشئه والوسط الذي يرتضي بأن يعيش فيه (لا وجود لوطني في مؤسسة عميلة، و ــــ حتى بالمعنى الاجتماعي ــــ الغربة لا يمكن أن تكون حالةً دائمة. حين تجد نفسك بين أناسٍ لا يشبهونك وتشعر بالاغتراب عنهم، فأنت امّا ستتغيّر لكي تتأقلم، أو سترحل).
من هذه الزّاوية، ماذا تتوقّع من وسطٍ (هو الذي خرج منه زياد عيتاني) مكوّن من أناسٍ لا يعملون بأيديهم، يبحثون عن رخاءٍ وشهرةٍ من «الثقافة» و«السياسة»، ولا يملكون تدريباً أو مهاراتٍ حقيقيّة، ولكنّهم يؤمنون في الوقت نفسه بأنّهم يستحقّون حياةً سهلةً ومثيرة و«ابداعية»، تختلف عن تلك التي تعيشها غالبية شعبهم؟ قبل أن تحكم على الإعلاميين كأفرادٍ فكّر قليلاً بالمؤسسات التي أنشأتهم، وتمويلها وأهدافها، وبالثقافة التي اكتسبوها، وفكّر بـ«المثال» المزروع في لاوعيهم: المثال الذي يحسده الجميع سرّاً ويتمنّى لو كان في موقعه، ويعترف بـ«شطارته» وتفوّقه في «اللعبة» وإن انتقده وهاجمه في العلن وتحيّن سقطاته (في حالة لبنان، هذا المثال\الرمز هو مارسيل غانم).

العمالة والجاسوسية

الطّريف، أو المفجع، في هذه القصّة هو أنّه ــــ في لبنان ــــ لا نوع من العمالة سيدخلك السّجن سوى التّخابر الأمني مع العدوّ الاسرائيلي تحديداً. كان في وسع أيٍّ ممّن تمّ اعتقالهم أن يتعاملوا مع مخابرات أيّ بلدٍ في العالم، وأن يلتقوا بمشغّلهم الأميركي اسبوعياً في مقهىً عام لتسليمه التقرير، ولن يقترب منهم أحد. بمعنى ما، من تمّ تجنيدهم اسرائيلياً قد يكونوا من «غير المحظوظين»، الذين لم يتح لهم أن يمارسوا العمالة بشكلٍ «محترمٍ» و«راقٍ»، وأن تعطيهم منظمات غربية موقعاً ودوراً، أو يؤمّن لهم إعلام الخليج رواتب ضخمةً، فهبطوا الى درك التخابر وبيع المعلومة. المهين هنا هو أنّ هذا الاستنتاج الذي خرج به «الوسط» من الحال أعلاه هو أنّ سجن عملاء اسرائيل ــــ التابو الوحيد المتبقّي ــــ كثير وثقيل، وطالما أنّنا لا نحاسب على الباقي فلننسَ الموضوع كليّاً ونرتاح. بل وجد البعض أن اعتقال العيتاني هو الوقت المناسب للدفاع عن التطبيع، والتمييز بينه وبين الجاسوسية، والاستنتاج بأنّه لا ضير في أن نمارس الأولى (أي التخادم بشكلٍ «محترم» مع العدوّ) بينما لا يجب أن ننزلق الى الثانية.
العمالة والجاسوسيّة، بالمعنى القانوني، لا تعنينا كمواطنين، فلا نحن قضاة ولا نحن قادرين على منع هذه الممارسات والتصدّي لها. امّا أن تكون في بلدٍ يحترم نفسه ويلاحق الجواسيس ولديه ثقافة وطنية ذات منعة، أو تكون في بلدٍ تابعٍ ومخترق. نقاشنا عن العمالة هنا، ايضاً، لا علاقة له بالقانون اللبناني؛ القانون يحاسبك ويسجنك، ولكنه لا يحدّد لنا ما هو الخطأ وما هو الصحيح، وهنا يكمن النقاش الحقيقي. «العمالة» التي قصدها هادي العلوي، ونعنيها بكلامنا، ليست الجاسوسيّة ونقل الأخبار بالشيفرة، بل هي ثقافة وأسلوب حياة بين النّخب. نظريّة «لا للتخوين» هي، في عرفي، تلفيقة فكريّة: من يعمل في مؤسسات اميركا السياسية والحكومية هو عميل، من يعمل «على مجتمعه» لصالح الغرب ولبثّ رؤيته هو عميل، ومن يتلقّى مالاً من حكوماتٍ غربيّة للعب دورٍ سياسي أو اعلامي في بلادنا هو عميل، بل هذا هو التعريف «التقني» للعمالة ــــ سواء حاسب عليها القانون أم لم يحاسب. على الهامش: المحزن هنا، لمن يدافع عن العمالة والتطبيع تحت بند «حرّية الرأي» (للتصحيح: لا التطبيع ولا العمالة رأي، بل هي أفعال)، أننا نشهد في لبنان حالياً قصّة «حرّيّة رأي» حقيقيّة، لم يلتفت اليها المشغولون بالتبرير والشكوى من أن جواسيس اسرائيل يعتقلون، وهذا تهديدٌ لـ«الحرية».
هناك شاعرٌ لبنانيّ اعتقل منذ أيّام، واحتجزت حرّيّته، ووضع في السّجن لأنّه قال كلاماً مرسلاُ في حقّ السّيّدة العذراء على «فايسبوك». حسنٌ، هذا الرّجل لم يؤذِ أحداً، ولم يهن إنساناً، والسيدة العذراء رمزٌ دينيّ لكلّ اللبنانيين لا لطائفة معيّنة وهو، في النهاية، كتب أسطراً على صفحته في «فايسبوك» ــ وقد وضع في السّجن بسبب ذلك. زياد دويري لم يدخل السّجن، وحوّله الوسط الى «بطلٍ» ورفعوه على الأكفّ تحت شعار «حرّيّة التعبير»؛ وقضية زياد عيتاني تحوّلت، بشكلٍ ما، الى أمرٍ يهدّد «حريّة التعبير». أمّا الشاعر مصطفى السبيتي، فقد احتُجز وعوقب حقاً بسبب رأيٍ خاصّ، وتشنّ «القوات اللبنانية» (بالحديث عن العمالة لإسرائيل) حملة تحريضٍ شرسة عليه، ولا أحد من مناصري «حرّيّة الرأي» رفع صوتاً للدفاع عنه. هذه حال النّخب التي وصّفها هادي العلوي. هم مستعدّون لخيانة شعبهم بأكمله واحتقاره، ويدافعون عن العميل والمطبّع، ولكنّهم لا يجرؤون على الوقوف في وجه سلطةٍ غربيّة، أو مصدر تمويل، أو زعامةٍ طائفيّة.