في التاسع من الشهر الحالي، مرّت ذكرى فتح جدار برلين، والذي يشار إليه في الأدبيات ذات العلاقة بـ«يوم انهيار جدار برلين»، وبالتوازي الجدار الذي كان يفصل شرق ألمانيا، أي ألمانيا الشرقية عضو حلف وارسو، عن ألمانيا الغربية عضو حلف الناتو. كنت شاهداً على ذلك الحدث، ولا أزال أتذكر كل تفاصيل التطورات التي عصفت بالدولة الشيوعية منذ صعود حانوتي النظام الشيوعي إلى منصب الأمين العام للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، وما تلاه مما يسمى «أيام الكنيسة البروتستنتية» وإجراء الانتخابات البلدية.
«أيام الكنيسة» هذا، كان احتفالاً سنوياً تسمح به السلطات الشيوعية، يجتمع فيه الشباب والشابات من ألمانيا الشرقية، يقيمون لفترة أيام في الخيام، يتبادلون فيه ما يهمهم من القضايا الروحية، لكن بعيداً عن السياسة المباشرة، وهو الأمر الذي حرصت الكنيسة على التقيد به كي لا تستفز القيادة السياسية الشيوعية. مقياس ولاء الشعب للنظام الشيوعي، من منظوري ومن منظور كثيرين، كان مدى انخراط الشبيبة في تلك «الأيام»، حيث إن الالتحاق بها كان طوعياً على نحو كامل. أيام الكنيسة لم تكن تجلب اهتمام الشبيبة الألمان في شرق البلاد البعيدة أصلاً كل البعد عن أي دين أو مذهب، حيث عكس ذلك رضىً عاماً عن الأوضاع السائدة. فالكنيسة كانت ملجأ المنشقين والراغبين في الهجرة إلى الغرب، وكانت تقدم لهم المساعدة والمشورة عبر صلاتها بالدولة. لكن في عامي 1988 و1989، لاحظت تزايداً في إقبال الشبيبة على تلك «الأيام»، ما أوحى، في ظني، الى نمو مشاعر جديدة معادية للنظام السياسي، كان شخص غورباتشوف وسياساته وخطاباته محركها. وليس بالضرورة أن تكون معاداة للنظام الاقتصادي، مع أنه قد يقول قائل إن من غير الممكن فصلهما عن بعض. رأيت في الإقبال المتزايد هذا مؤشراً على توتر الوضع، ضاعف من خطورته سياسة حانوتي النظام الشيوعي، أي غورباتشوف، الذي كان يشجع على التمرد على النظام القديم. القيادة الشيوعية الألمانية الشرقية لم تُرد فهم مدى التزام غورباتشوف بنهجه وعزمه على إقامة نظام «شيوعي؟»، والتحول إلى الرأسمالية بعدما أخفق في «إصلاح» النظام القديم. ثمة أمور سرية كثيرة تحيط بتلك الفترة، رغم أن بعض الخفايا بدأت بالظهور للعيان. لكن من الواضح أن غورباتشوف قرر دفن النظام، بعد بيعه للغرب. أي أن سقوط ألمانيا الشرقية، التي كانت العامل الحاسم في حلف وارسو، بعد الاتحاد السوفياتي، لم يكن أمراً عفوياً ناتجاً من خطأ في الحسابات. الأدبيات السائدة عن تلك المرحلة تحسم بأن جدار برلين انهار نتيجة خطأ غير مقصود وأمر غير مخطط له!
لنعد الآن إلى صبيحة ذلك اليوم، حيث دأبت على اللقاء بالأصدقاء والزملاء الألمان من الأكاديميين، وكانوا جميعاً أعضاء في الحزب الشيوعي، وبعضهم كان من قادة ميليشيا الحزب المسماة الميليشيا العمالية. نتحدث ونتبادل الآراء وما إلى ذلك. الأعصاب كانت متوترة للغاية، والضغط النفسي كان في أعلى منسوب. في ذلك الصباح، أشار إليّ أحد الزملاء الألمان بمشاهدة المؤتمر الصحافي المتلفز لشبفسكي، والذي تبيّن لي أنه انتشر بين كوادر الحزب.
ما تلا ذلك هو الآتي:
في أثناء المؤتمر الصحافي الذي عقده عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الألماني، ورئيس منظمة الحزب في برلين [الشرقية]، غنتر شبفسكي، قام عضو المكتب السياسي إغن كرنز بإمرار وريقة له تقول إنه تقرر السماح للمواطنين الألمان الشرقيين بالتنقل من دون شروط، ما عنى فتح حدود ألمانيا الشرقية، وبوابات جدار برلين والسماح لمن يرغب في التنقل بحرية كاملة. كنت جالساً في منزلي، أشاهد المؤتمر الصحافي عبر القناة الثانية للتلفزيون الألماني الغربي، وسمعت كلمات شبفسكي كما سمعها ملايين من الألمان. وما هي إلا دقائق حتى غص الطريق العام المؤدي إلى بوابة براندبورغ الشهيرة بمئات السيارات المتجهة غرباً. في الوقت نفسه، بدأت قنوات التلفزيون الألماني الغربي بنقل مباشر من بوابات الجدار، حيث تجمع الآلاف من المواطنين لعبور الحدود، بينما وقف رجال الشرطة الألمان حيارى، إذ لم يصلهم أي أمر بالسماح للمواطنين بعبور الحدود. في نهاية المطاف، تنحى رجال الشرطة جانباً وسمحوا للجموع بعبور الجدار، وبقية القصة معروفة.
ما يهمني من هذا كله القول إن الأحداث الكبار لا تندلع صدفة ولا نتيجة خطأ. فتح الجدار، وهو حدث تاريخي ومفصلي ذو بعد عالمي، لم يتم بسبب سوء فهم غنتر شبفسكي. الأمر خطط له الممسكون الحقيقيون بالأمور، أي موسكو. تمسّك وسائل الإعلام والتضليل وسياسيي ألمانيا الغربية بأسطورة أن فتح الجدار كان نتيجة انهيار النظام الألماني الشيوعي مهم لأنه ينفي أن حانوتي النظام الشيوعي كان اللاعب الرئيسي في الأمر، وأنّ قراره حل النظام الشيوعي تم بعقد صفقات عديدة مع سياسيي واشنطن وبون. الغرب يهمه تصوير الأمر على أنه انهيار الشيوعية وليس هزيمتها، أي أنها أثبتت عدم قدرتها على البقاء، وبالتالي عدم وجود بديل للنظام الرأسمالي.