متغيرات وتحولات مختلفة تترك آثارها على الأوضاع السياسية والميدانية في سوريا والإقليم. وأسباب ذلك ما يجري من تقلبات على مواقف غير دولة، إقليمية وعربية وأوروبية، وبشكل خاص واشنطن.
ما يعني أننا نقف على عتبة مرحلة مختلفة تتطلب إعادة تقييم المواقف السياسية، والاشتغال على صياغة رؤية سياسية تُعبِّر عن مصالح السوريين الحقيقية وتلحظ المعطيات والمتغيرات الراهنة، وأيضاً احتمالات التحولات المستقبلية. ومن الضروري أن يتقاطع ذلك مع التمسك بقضايا المواطنة والحريات الأساسية، السياسية؛ والفردية المتعلقة بحرية الانتماء والتفكير والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية وكرامة المواطن وإنسانيته. وذلك إلى جانب الاشتغال على تمكين المناخ الديموقراطي بشقيه السياسي والاجتماعي. والتمسك بالقضايا المذكورة لا يتحدد فقط على قاعدة مواجهة آليات اشتغال نظام الحكم، السياسية والاقتصادية. بل أيضاً على قاعدة أنّها من الحقوق الطبيعية للإنسان ومن القضايا البارزة لشرعة حقوق الإنسان. ومعلومٌ أن عدم الالتزام بالقضايا المذكورة، شكَّل مدخلاً لتدمير العمران وتحويل الإنسان السوري إلى موضوع للقتل والتهجير إلى أربع جهات العالم.
فـ«التسابق» الدولي والإقليمي إلى إسقاط الرئيس بشار الأسد قد توقف. ومقدمات ذلك؛ الإقرار ببقائه في المرحلة الانتقالية، إضافة إلى ضمان حقه في الترشح لولاية جديدة. ثانياً؛ إيقاف التمويل والدعم السياسي والمالي والعسكري واللوجستي للفصائل المسلحة «المعتدلة»، وتوجيهها للتوقف عن محاربة الجيش السوري، ودفعها لمقاتلة فصائل إسلامية متطرفة بعضها مدرج على قوائم الإرهاب. وهذا يخالف مواقف قيادات «ثورية» تَعتَبر بعضاً من تلك الفصائل (المتطرفة) قوى ثورية.
ولا تقف تداعيات تقلّبات المواقف الدولية والإقليمية بخصوص الحكم والصراع عند القضايا المذكورة، لكنها تطال المعارضات المندرجة ضمن منصات «الرياض وموسكو والقاهرة». ويعود ذلك في أحد مستوياته إلى ارتباط المواقف السياسية الدولية بالأوضاع الميدانية. ويمكن أن يُشكل ذلك مقدمة لسحب الغطاء السياسي عن تلك المعارضات في حال «أصرّت على مخالفة» الميول الدولية.

تدخل القوى الدولية والإقليمية سباقات
على النفوذ والثروة والمصالح السياسية
ونشير إلى أن التغيرات الطارئة على مواقف الرياض السياسية، واستمرار ارتهانها لواشنطن، وتسليم الأخيرة زمام المسألة السورية لموسكو، يمكنه أن يكون مدخلاً للضغط على غير دولة؛ مثل قطر وإيران، بغية تحييدها أو إخراجها من ساحة الفاعلية السياسية والعسكرية. وجميعها يحمل دلالات سياسية تستوجب التدقيق كونها تنعكس على مآلات الأوضاع السياسية في سوريا والإقليم.
وبالنظر إلى أوضاع المعارضة السياسية ــ وتحديداً المنصات الثلاث، فإنَّ المناخ الجديد يضطرها لاعتماد آليات اشتغال مختلفة. ومن الممكن أن تكون اللحظة الراهنة مدخلاً لإعادة هيكلتها، ووضعها في إطار سياسي «مستحدث» يُعبِّر عن الميول والمناخات الدولية والإقليمية الجديدة. فيما ستواجه «الأطراف الرافضة» للتحولات الراهنة، خيارات سياسية متباينة. وسيبقى الموقف من: «نظام الأسد، الانتقال السياسي، حكومة كاملة الصلاحية، الفصائل المسلحة وبشكل خاص الفصائل الجهادية الإسلامية» خاضعاً للتفاوض والمساومة.
هذا في وقت يبقى فيه ارتقاء المعارضة لناصية العمل الوطني المشترك، والتوافق على قواسم استراتيجية مشتركة وآليات عمل واحدة، مرتبطاً بتجاوز العوامل المسببة للتنابذ والتناقض. وما يجري من محاولات لتوحيد صفوف المعارضة، أو إعادة تأطيرها بما ينسجم مع التحولات الراهنة يصطدم بأوضاع المعارضات المتهالكة. إضافة إلى كونها تتنافى مع جوهر فكرة المعارضة القائمة على التنوع والاختلاف الناجمة عن تعدد المشارب الفكرية والسياسية. ويبدو أنه يتم توظيف العوامل المذكورة لفرض توافقات دولية وإقليمية تتجاهل أحياناً كثيرة مواقف المعارضة من النظام، ودائماً مصالح السوريين. وجميعها يُفاقم من الدور الوظيفي للمعارضة، ويحدُّ من فاعلية السوريين واستقلاليتهم. ومعلومٌ أن الأوضاع المذكورة وغيرها كانت من أسباب تحويل السوريين إلى موضوع للعنف.
وإذا كانت المعارضات السياسية وأيضاً المسلحة تتسابق للمحافظة على بعض المكاسب. فإن القوى الدولية والإقليمية تدخل سباقات أخرى هدفها تقاسم مناطق النفوذ والثروة، وتثبيت مصالحها السياسية. ويتجلى ذلك في سياق الصراع على تحديد «طبيعة الحكم وشكل النظام السياسي وتركيبته». أما السلطة بتركيبتها الراهنة، فإنها تصارع بكامل طاقتها وكافة الأشكال والأدوات للمحافظة على بقائها. وسيكون لذلك آثار على مستقبل تركيبة نظام الحكم، والجغرافية السياسية وأدوات السيطرة.
نُشير أخيراً إلى أن من أسباب أوضاع السوريين الراهنة؛ هي طبيعة السلطة وتركيبة نظام الحكم وبنيته. وثانياً؛ تهالك أوضاع المعارضة وارتهانها لمصادر التمويل، والتصاق بعضها بفصائل إسلامية متطرفة، إضافة لقضايا الفساد والمتاجرة بقضايا السوريين. وثالثاً؛ تحوّل القضية السورية لموضوع صراع دولي وإقليمي، وهو ما أفقدها البعد الوطني والديمقراطي، وأخرج المعارضة والسوريين والسلطة من حقل الفاعلية المستقلة. ودلالات ذلك، هي استحالة حسم الحرب لصالح أي من الأطراف المتصارعة.
والسوريون وفق معطيات الصراع وأوضاعه، مازالوا ضحية أزمات وتناقضات المعارضة والسلطة، والتدخلات الخارجية الإقليمية والدولية. هذا في وقت تشير فيه المعطيات الميدانية والسياسية إلى استمرار اعتماد النظام على دعم الدول الحليفة، والاستفادة من المتغيرات الدولية ومن أوضاع معارضات مأزومة تُشكِّل في معظمها نُسخاً لا تقل سوءاً عن سلطوية النظام. فيما يشكل الوضع الكردي مدخلاً مختلفاً للصراع على النفوذ والأوضاع الجيو سياسية.
ونظراً لأهمية مشاركة السوريين المدنية والسياسية في بناء مستقبل سوريا الموحدة. فإنه ينبغي الاشتغال على استنهاض عوامل قوتهم وقواهم الكامنة، وتوفير المناخات الملائمة لإطلاق العنان لكامل الطاقات البشرية الإبداعية المعرفية والإنتاجية.
* كاتب وباحث سوري