صوت مجلس النواب العراقي قبل أيام، ومن حيث المبدأ، على مشروع قانون لتعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 المعدل، والذي سنّته الدولة العراقية بعد الثورة الجمهورية في 14 تموز 1958. القانون المذكور خضع لتعديلات عدة مختلفة قبل هذا التعديل، ولكنها لم تصل إلى ما وصلت إليه التعديلات الجزئية السابقة من حيث المساس بجوهره التقدمي والتنويري النسبي.
من جهة أخرى، يمكن اعتبار التعديلات الجديدة شهادة وفاة لمشروع قانون تعديلات آخر كانت الأحزاب الإسلامية الشيعية قد قدمته قبل أكثر من عام وصاغه مرشد حزب الفضيلة الإسلامي الشيخ محمد اليعقوبي ووزير العدل السابق عن هذا الحزب حسن الشمري، وأطلقا عليه اسماً كاشفاً هو «قانون الأحوال الشخصية الجعفري» نسبة إلى المذهب الجعفري الشيعي الإثناعشري. وبموجب هذا المشروع القانوني تقرر السماح بزواج الرجل الذي أكمل 15 عاماً، والمرأة «الفتاة» التي أكملت تسعة أعوام، أمرٌ أثار جدلاً واسعاً ورفضاً قوياً في الأوساط الشعبية في الشارع العراقي حيث أدانته تلك الأوساط ونعتته بقانون «تزويج القاصرات».
مشروع التعديلات الجديد، والذي نشر نصه، جاءت مسودته هذه المرة من «تيار الحكمة» بزعامة عمار الحكيم، وبدعم من رئيس البرلمان د. سليم الجبوري عن الحزب الإسلامي «الفرع العراقي للإخوان المسلمين». مشروع التعديلات، وإنْ كان لا يتطرّق إلى تلك التفاصيل، ومنها تزويج صغيرات السن حرفياً، ولكنَّ المادة الثالثة منه تنص على ما يلي:
«أ. يجوز للمسلمين الخاضعين لأحكام هذا القانون تقديم طلب إلى محكمة الأحوال الشخصية المختصة، لتطبيق الأحكام الشرعية للأحوال الشخصية وفق المذهب الذي يتبعونه. وفي الفقرة «ب» نصّ على «تلتزم المحكمة المختصة بالنسبة للأشخاص الوارد ذكرهم في الفقرة (أ) من هذا البند عند إصدار قراراتها في جميع المسائل التي تناولتها نصوص قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 المعدل وغيرها من المسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية، باتباع ما يصدر عن المجمع العلمي في ديوان الوقف الشيعي، والمجلس العلمي والإفتائي في ديوان الوقف السني، وتبعاً لمذهب الزوج، ويصح أن يكون سبباً للحكم». وفي الفقرة «ج» نصّ على «يلتزم المجلس العلمي في ديوان الوقف الشيعي بإجابة المحكمة عن استيضاحاتها، وفقاً للمشهور من الفقه الشيعي وفتاوى الفقهاء الإعلام، وعند عدم الشهرة يؤخذ برأي (المرجع الديني الأعلى) الذي يرجع إليه في التقليد أكثر الشيعة في العراق من فقهاء النجف الأشرف». وفي الفقرة «د» نص على «يلتزم المجلس العلمي والإفتائي في ديوان الوقف السني بإجابة المحكمة عن استيضاحاتها، وفقاً للمشهور من الفقه السني». أما المادة الخامسة منه فنصّت على «يجوز إبرام عقد الزواج لأتباع المذهبين (الشيعي والسني) كل وفقاً لمذهبه، من قبل من يجيز فقهاء ذلك المذهب ابرامه للعقد بعد التأكد من توافر أركان العقد وشروطه وانتفاء الموانع في الزوجين». وقد اعتبر الرافضون لهذا التعديل أن هاتين المادتين تسلبان حق الدولة العراقية في تنظيم الأحوال الشخصية لمواطنيها، وتعطيانه لفقهاء المذهبين الشيعي والسني بما يقسم المجتمع رسمياً إلى مجتمعات طائفية مختلفة ومتمايزة.
نواب وناشطون عديدون دخلوا في التفاصيل، وسجلوا على التعديلات الجديدة العديد من المآخذ. فالنائبة عن الموصل السيدة فرح السراج سجلت عليه العديد من المؤاخذات. منها مثلا: إن القانون النافذ وضع فترة الحضانة لدى الام للطفل الذكر هي تسع سنوات وبعدها يتم تخيير الطفل بين أبيه أو أمه، أما القانون الحالي فسيجبر المرأة على تسليم طفلها الذكر البالغ عمره سنتين الى الوالد. السراج أضافت (أن الامر يتعلق بزواج القاصرات والاطفال بعمر 12 أو 13) أي العمر ارتفع من تسعة أعوام إلى 12. النائبة نفسها اعتبرت أن الاستمرار بخطوات تشريع هذا القانون يعتبر مخالفا للقوانين الدولية التي تحفظ حقوق الانسان وخاصة صغار السن. متهمة بعض الأطراف السياسية بـ «محاولة تمرير هذا القانون للتناغم من جماهيرهم من المتعصبين دينياً للحصول على أصواتهم من خلال ارسال رسالة بوجوب ادخال الدين بالقانون المدني». بل هي ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك حين قالت «إن تمرير مقترح القانون سيمثل كارثة تحل ب‍العراق وترجعه لأكثر من 100 عام إلى الخلف وستكون نتائجه مشابهة للنتائج التي انتجتها القوانين القسرية التي فرضها داعش الارهابي على مناطقنا التي تحررت».

إن مشروع الدولة
الدينية في العراق
بدأ بعد الغزو الأميركي

أما الناشطة الديموقراطية السيدة ماجدة الجبوري فسجلت على التعديلات المآخذ التالية: «لم يقتصر التمييز في قانون الاحوال الشخصية الجعفري على التمييز ضد المرأة فقط، بل تعداه ليتضمن تمييزاً ضد الرجال والنساء على أساس الدين والطائفة الدينية ومن ذلك مثلاً:
ـ منع غير المسلمين من إرث المسلمين والسماح للمسلمين بأن يرثوا غير المسلمين.
ـ يعد الطفل مسلماً بمجرد إسلام أحد أبويه.
ـ لا يحق لغير المسلم حضانة ابنه المسلم.
ـ منع زواج المسلمات من غير المسلمين.
ـ لا وصية لغير المسلم، فلا يصحّ للمسلم أن يوصي وصية عهدية لغير المسلم».
ـ وحول حجية الشهادة، كتبت السيدة الجبوري أن التعديل قرر «عدم قبول شهادة غير المسلمين مطلقاً، وتقبل «شهادة الذميين» استثناءً، في حالة عدم وجود شهود مسلمين، ولا قيمة لشهادتهم في مواجهة شهادات الشهود المسلمين. وتسقط حجية شهادتهم إذا ما حلف المدعى عليه المسلم لنفيها، أي أن يمين المدعى عليه (منكر الحق) المسلم أقوى من شهادة «الشهود الذميين». أما النساء غير المسلمات فلا تقبل شهادتهن كأصل عام، إلا في بعض المواضع المحدودة جداً». وفي هذه النقاط يتأكد الجوهر الطائفي التمييزي ضد المكوّنات والأديان العراقية ذات العديد السكاني الصغير.
ممن تصدوا أيضاً لهذه التعديلات، النائبة ريزان شيخ دلير، وهي من الاتحاد الوطني الكردستاني. السيدة دلير كانت صريحة في نقدها للتعديلات حيث قالت إنها «إعادة إنتاج لقانون الأحوال الجعفري الذي يشجع على زواج القاصرات» مبينة أن تطبيق هذا القانون سيكون شبيهاً بتصرفات «داعش» مع الفتيات الصغيرات عندما أجبر التنظيمُ الفتيات الصغيرات على الزواج من عناصره خلال سيطرته على الموصل ومناطق أخرى. وأخيراً فالنائب جوزيف صليوا (المحسوب على كوتا المسيحيين في البرلمان) تحدث في مؤتمر صحافي بمقر البرلمان، ووصف محاولة تمرير التعديلات بأنها «محاولة غير شرعية جرت اليوم، تمرير القانون والتصويت عليه رغم وجود اعتراضات كثيرة عليه في داخل المجلس وفي الشارع العراقي».
يمكننا أن نجد الجذر القانوني لكل هذه التعديلات، ومحاولات التعديلات ذات الجوهر الرجعي السلفي في مشروع القانون رقم 137 الذي أصدره «مجلس الحكم» الذي شكله الاحتلال الأميركي سنة 2003. هذا القرار يحمل تاريخ 29 كانون الأول 2003، يومها كان يرأس المجلس بحسب التناوب الراحل عبد العزيز الحكيم، وقد تم تبني القرار الذي نصَّ في مادته الأولى على وجوب تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فيما يخص الزواج والخطوبة وعقد الزواج والأهلية وإثبات الزواج والمحرمات وزواج الكتابيات والحقوق الزوجية من مهر ونفقة وطلاق وتفريق شرعي أو خُلْع والعدة والنسب والرضاعة والحضانة ونفقة الفروع والأصول والأقارب والوصية والإيصاء والوقف والميراث وكافة أحكام المحاكم الشرعية (الأحوال الشخصية) وطبقاً لفرائض مذهبه. وتنص المادة الثانية من هذا القرار على الآتي «إلغاء كل القوانين والقرارات والتعليمات والبيانات وأحكام المواد التي تخالف الفقرة 1 من هذا القرار». وقد ألغى الحاكم الأميركي للعراق بول بريمر لاحقاً هذا القرار، بعد أن أثار ما أثار من ردود أفعال شعبية صاخبة آنذاك. يبدو أن الأحزاب الإسلامية الشيعية والسنية معها هذه المرة، ممثلة برئيس مجلس النواب عن الإخوان المسلمين د. سليم الجبوري، تحاول اليوم إعادة الكرة لإطاحة قانون الأحوال الشخصية الجمهوري المتقدم كثيراً رغم ما ناله من تعديلات من قبل نظام البعث قبل الاحتلال.
وبرغم كل ما قيل من طرف مؤيدي ومعارضي مشروع التعديلات فإن الموضوع لا يخلو من الغموض والتعقيد المقصودين، ربما بقصد تمشية وتمرير هذه التعديلات ذات الجوهر الرجعي.
ثم أن الآراء والملاحظات التي استعرضناها آنفاً حول تحديد سن الزواج بـ12عاماً وما قيل عن تزويج القاصرات وحول الحضانة والوصية وشهادة غير المسلمين والإرث والزواج بين مختلفي الأديان... إلخ، غير موجودة نصاً في مشروع قانون التعديلات. ولكنها موجودة في الفقه الديني الطائفي الشيعي والسني الذي أصبح مرجعية رسمية لهذا المشروع القانوني. ومن الواضح والمنطقي أن الدافع لقول هذه الآراء والتعبير عن هذه المخاوف المشروعة نابعان من المادتين الثالثة والخامسة من التعديلات التي سلبت حق الدولة العراقية في تنظيم حياة مواطنيها ومنحته للفقيه الديني ومؤسساته في الوقفين الشيعي والسني و«المرجع الأعلى» الذي وردت صفته نصا في التعديلات... إلخ.
تبقى المشكلة الأساسية هنا، وليس في أي مكان آخر، فهذه الخطة التي نفذها البرلمانيون الإسلاميون الشيعة والسنة لتمرير هذه التعديلات هي التي يجب الوقوف ضدها وكشفها وليس الغرق في التفاصيل والظنون والنوايا.
وفي السياق، هناك من يعتقد أنه من الصحيح تأييد هذا القانون لأن فيه «ضمان حق القاصرات اللائي كنَّ يتزوجن خارج القانون ويبقين بدون عقد زواج في المحكمة حتى بلوغهن السن القانونية. وكذلك حفاظاً على حقوق أطفالهن الذين يتم تسجيل أعمارهم بالمحكمة يوم أو يومين برغم أن أعمارهم ثلاث وأربع وخمس سنوات».
أعتقد أن هذا الرأي يعكس التعقيدات والغموض الذي أحاط بالموضوع، ولكننا نفهم منه أن سن الزواج في التعديلات بقي هو نفسه 15 عاماً، ولكن هذا يعتبر استثناءً لذوات القابلية البدنية في هذا العمر، بموجب تعديل سنة 1987. وثانياً فالقول بأن هذه التعديلات تحل مشاكل «القاصرات اللائي كنَّ يتزوجن خارج القانون ويبقين بدون عقد زواج في المحكمة حتى بلوغهن السن القانونية» هو أمر تفصيلي لا يجوز أن يعدل القانون الذي يطبق على الجميع بهذه الطريقة لضمان حقوق أقلية متضررة بل يمكن أن تضاف فقرة استثنائية خاصة بهن لتنصفهن مع قطع دابر زواج القاصرات بواسطة القانون العام.
أما التبرير التعديلات بالقول «فإنك إذا لا تستطيع معاقبة من يتزوج من الفتاة القاصر (خصوصاً أنك في وسط مجتمع ديني بالكامل ويرى جواز هذا الفعل شرعاً) فأقل ما يتوجب عليك فعله هو ضمان حق الفتاة قانونيا)...». فقد يفهم منه معالجة حدث غير قانوني وغير مشروع بنص قانوني لأسباب اجتماعية أو نفسية... إلخ، وهذا لا يجوز وإلا تحولت القوانين إلى مسرح لتعديلات استثنائية مستمرة وغير شرعية تهدف لمعالجة مشاكل غير قانونية لا تنتهي. وفي حالات كهذه، ينبغي للدولة أن تقوم بدورها خصوصاً وإن من يتزوجون القاصرات أقلية لا تكاد تذكر، وهي تقوم بذلك بعيداً عن الدولة والقانون. وإذا أردنا دولة عصرية وعادلة فلا يجب السكوت على هذه الممارسات على طريق جعلها عرفاً سائداً ومشروعاً، فهذا ما يهدف إليه التحريميون والتكفيريون من جميع الديانات والطوائف والهدف دائماً هو ضرب مشروع التنوير والدولة المدنية وحقوق الإنسان في العراق.
وأخيراً، فإن مشروع الدولة الدينية في العراق، أو في الأقل ضرب الإنجازات المدنية والتنويرية في القوانين العراقية، لم يبدأ بالأمس القريب، بل بدأ أشهراً قليلة بعد الغزو الأميركي للعراق، وبالضبط في يوم 29 كانون الثاني/ ديسمبر 2003 الذي شهد إقرار مجلس الحكم الذي شكله المحتل كما ذكرنا سلفاً. وها هي «روح» مجلس الحكم الذي نصَّبه الاحتلال الأميركي في عام الغزو تعود اليوم لتحل في جسد تشريعي آخر يدعى «مجلس النواب العراقي»!
* كاتب عراقي