المكاسب التي خسرها مسعود البرزاني دفعةً واحدة بعد الخلاف مع بغداد بشأن مصير الإقليم، تؤكّد عدم إلمامه بالتطوُّرات التي تشهدها المنطقة، وخصوصاً عقب انحسار «داعش» في العراق وسوريا لمصلحة القوى المجابِهة له، وحصول تقاطع في المصالح بينها وبين قوى الإقليم الأخرى التي تضرَّرت بدورها من إجراء الاستفتاء الكردي.
تحالفات على حساب البرزاني

تركيا التي تبحث عن دور أكبر بعد قيادتها لعمليات درع الفرات في سوريا، اتفقت مع إيران والحكومة العراقية على تجاوز النقاط الخلافية بينهم، سواء في سوريا أو في العراق، والتركيز بدلاً منها على توحيد الموقف من حكومة الإقليم عقب إجرائها للاستفتاء. الخطورة التي مثّلها الاستفتاء على المصالح التركية استدعت تفكيك التحالف الاستراتيجي بين مسعود البرزاني وحكومة حزب العدالة والتنمية لمصلحة جبهة تكون الحكومة العراقية جزءاً منها، ولا تكون فيها إيران مجرَّد شريك، بل تصبح في ظلّ تقاطع المصالح حول الموقف من الاستفتاء عقبة أساسية أمام طموحات الكرد، وعلى رأسهم حزب البرزاني لتأسيس دولة مستقلّة على الحدود العراقية التركية الإيرانية السورية. هذا أعطى الحكومة العراقية ضوءاً أخضر لحسم الخلاف عسكرياً، في ظلّ غطاء إقليمي كامل وانشغال دولي بقتال «داعش» على جبهتي العراق وسوريا، فحرَّكت قوّاتها باتجاه كركوك، وأبقت في الوقت نفسه على خطوط سياسية مع قوىً أخرى في الإقليم يمكن الاتفاق معها بعد استعادة المناطق المتنازع عليها من قوات البيشمركة. البرزاني لم يلتقط هذا التحوُّل جيداً، وهو ما أدّى ليس فقط إلى خسارته معظم الأراضي التي استولى عليها بعد سقوط الموصل بيد «داعش»، بل إلى تراجع نفوذه السياسي داخل الإقليم، ولو جزئياً، لمصلحة خصمه التقليدي (الاتحاد الوطني الكردستاني) الذي بدا ضالعاً في قراءة التحوُّلات أكثر بكثير من الأحزاب الأخرى.

المكاسب التي خسرها البرزاني تؤكّد عدم إلمامه بالتطوُّرات التي تشهدها المنطقة


الانعكاسات على الوضع الداخلي

هذا لن يغيّر كثيراً في موازين القوى داخل الإقليم، ولكنه سيضعف على المدى الطويل من هيمنة الحزب الديمقراطي الكردستاني على المشهد السياسي الداخلي، باعتبار أنه فشل في أهمّ اختبار يتعرّض له الإقليم منذ نشوئه عقب حرب الخليج الثانية. الفشل لم يكن في الدعوة إلى الاستفتاء أو في حشد مواطني الإقليم له، بل في اتخاذ قرار لا يأخذ في الاعتبار عواقب الدعوة إلى الانفصال أو حتّى تقرير المصير في ظلّ معارضة معظم قوى الإقليم الفاعلة له. وهو ما يجرِّده بالضرورة من أيّ قيمة تمثيلية أو شعبية، فضلاً عن الفاعلية السياسية المتوخّاة منه، ويضعه بدلاً من ذلك في مصافّ المغامرات غير المحسوبة العواقب. وحين يحصل ذلك فإنّ الحزب الذي اتخذ القرار هو الذي يكون مسؤولاً عن مآلاته السياسية وليس الشعب الذي يحقّ له الإدلاء برأيه في تقرير مصيره بمعزل عن حسابات القوى التي تحكمه. وعملياً فإنّ ذلك يعني في لحظة حصار الإقليم وعزله عن محيطه بسبب حماقة إجراء الاستفتاء تراجع الثقة بقدرة مسعود البرزاني وحزبه على قيادة الأكراد، ولكن من دون أن يكون ثمّة بديل له، لأنّ الأحزاب الأخرى حتى تلك التي قرأت التغيُّرات جيداً وقادت التحوُّل في كركوك لا تملك الصفة التمثيلية ولا الحيثية الكافية لمشاركته الحكم من موقع الندّ. وفي ظلّ وضع كهذا، سيبقى المشهد السياسي الداخلي رهناً بالوضع الإقليمي الجديد وبموقف دول الجوار من الحكومة التي يقودها البرزاني، وما إذا كانت سترضخ للتحوُّلات التي أعقبت استيلاء الحكومة المركزية على كركوك والأراضي المتنازع عليها أو لا.
* كاتب سوري