لم تكن هذه الفوضى الإقليمية منذ 2011 إلا عارضاً لسقوط النظام الإقليمي لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، ومؤشراً على فراغ القوة داخل المنطقة الناجم عن تراجع الهيمنة الأميركية والانتكاسات المحلية للحكومات المركزية التي راكمت فشلاً مزمناً في الإجابة عن أسئلة الشراكة السياسية والمشاركة الشعبية والاستقلال وبناء اقتصاد اجتماعي يُعزز التنمية والنهوض الوطني وكذلك الهوية الوطنية.
إذاً يمكن اعتبار ما تشهده المنطقة «مرحلةً انتقاليةً» نحو نظام إقليمي جديد ترتسم توازناته وقواعده ولاعبوه بالدم والنار بالمقام الأول. وهذا ما يفسّر الحدة الرهيبة للحرب في سوريا، إذ إن خلاصة الحرب السورية هي المحدد الأبرز في توازنات القوة الإقليمية، وتالياً في شكل النظام الإقليمي الناشئ. كان ظهور تنظيم «داعش» و«النصرة» لاحقاً وتمددهما ناتجاً من عاملي الفراغ والتوظيف، وهما عاملان أُصيبا بتراجع عميق في الأشهر الأخيرة نتيجة لنجاح محور المقاومة بالتحالف مع روسيا في حسم معارك مفصلية مع كلا التنظيمين. وبالتالي يعكس ضمور تنظيم «داعش» ثم التحاق التحالف الأميركي متأخراً بالمعركة، أن توظيف هذه التنظيمات والرهان عليها انتهى إلى حد بعيد إلا بسياق تكتيكي عملاني كما يحصل في الشرق السوري حالياً.
اختبرت أغلب القوى المنخرطة في المواجهة الإقليمية جملةً واسعةً من خياراتها وأدواتها العسكرية، وما بقي من خيارات عسكرية ستكون كلفة استخدامها مرتفعة من دون أن ينعكس ذلك في تغيير عميق للتوازنات الميدانية، فيما تبدو القوى الدولية شديدة الحذر من الانزلاق إلى مواجهة عسكرية واسعة داخل الإقليم. وبناءً عليه، يمكن الاستخلاص أن حقبة ما بعد «داعش» ستكون إلى حد بعيد مرحلة الأسئلة السياسية ليتراجع العنف من كونه خياراً استراتيجياً لتغيير قواعد اللعبة وتوازناتها إلى خيار تكتيكي للمناورة في سياق العمليات السياسية. ولذا إن اندلاع حرب كبيرة في المنطقة لن يكون إلا عرضياً، أي نتيجةً لخلل إسرائيلي في الحسابات، أو انعكاساً لمأزق داخلي خطير تقع فيه رئاسة ترامب، على سبيل المثال.
إن تحديات مرحلة ما بعد «داعش» تنشأ من مصادر عدة، من الظروف البنيوية الناتجة من فوضى السنوات الماضية (تفشي المذهبية، ضعف الحكومة المركزية في العراق وسوريا... إلخ)، ومن تصور المحور الأميركي أن التوازن الإقليمي لا يزال يميل نحو إيران وحلفائها مع بروز فرص إضافية لهم لتطوير نفوذهم الإقليمي، ومن حاجة خصوم محور المقاومة لتطوير أدوات وسياسات جديدة بعد نجاح محور المقاومة في احتواء تحدي الجماعات التكفيرية.
اختبرت الولايات المتحدة في مواجهة محور المقاومة منذ عام 2003 جملة واسعة من الأدوات والبدائل التي عجزت جميعها عن تحقيق نصر حاسم وعكس مسار التحولات، وإن كانت استنزفت قوى المقاومة بدرجات متفاوتة. اختبرت الولايات المتحدة التدخل العسكري المباشر (العراق 2003) وبالوكالة عبر الإسرائيلي (2006) والثورات الملونة (2005 و2009) والعقوبات المشددة (2010) وثم الفوضى وتوظيف الإرهاب (2011 – 2016). في مرحلة ما بعد «داعش» تعاني السياسة الأميركية في المنطقة من جملة نقائص: غياب الاستراتيجية، تراجع القيادة الأميركية، تفكك محورها التقليدي، الانكفاء عن التورط العسكري المباشر، توسع دور منافسيها الدوليين داخل الإقليم، وعجز حلفائها عن المبادرة الاستراتيجية. هذه النقائص هي مؤشرات حقبة «شرق أوسط ما بعد أميركا».
يتبدى عجز حلفاء واشنطن عن المبادرة الاستراتيجية في وضعية كل من «إسرائيل» والسعودية على وجه التحديد. ففي مقابل تعزيز تل أبيب لردعها الدفاعي تقرّ بأنها عاجزة عن القيام بعمليات عسكرية هجومية قادرة على خلق وقائع جديدة في محيطها الحيوي، بل ليس مضموناً أن تكون قادرة على منع أعدائها من مراكمة عناصر القوة ولو بالعمليات الهجومية التكتيكية. يذكر التقدير الاستراتيجي السنوي لإسرائيل 2016-2017 الصادر عن معهد أبحاث الأمن القومي أن «إسرائيل» تعاني من «توتر بين الرغبة بتمديد فترات التهدئة الأمنية وضرورة المبادرة إلى نشاط لرسم واقع مغاير، أكثر أمناً، ومنع تعاظم قدرة العدو بما قد يجعل إسرائيل تدفع ثمناً باهظاً في المستقبل». وفي حالة حزب الله، يرجع هذا التوتر إلى نجاح الحرب في خلق «ترابط قوي بين مدى الضرر الذي يمكن أن يلحق بحزب الله والثمن الذي يمكن أن تدفعه إسرائيل مقابل هذا الضرر» بحسب ما يقول كل من جيدعون ساعار ورون تيرا من المعهد ذاته (تموز 2017).
وعليه بالمجمل تكون سياسة «الاحتواء» هي الخيار الاستراتيجي المتوافر للمحور الأميركي، وهي سياسة سيكون قوامها سياسياً وليس عسكرياً إلا بأضيق الحدود. ينظر الأميركيون إلى محور المقاومة إلى أنه مركب من نواة (إيران) وحليف ايجابي (سوريا) وسلبي (العراق) وأذرع (حزب الله – أنصار الله – الحشد الشعبي – المقاومة الفلسطينية). ستتشكل سياسة الاحتواء الأميركية من عمليات مركبة ومتداخلة من العزل ونزع الشرعية والتحييد وتجفيف الموارد. الهدف القصير الأمد لمحاولة احتواء محور المقاومة يتمثل في منع مكونات هذا المحور من تسييل منجزاتها الميدانية داخل البنى والمؤسسات السياسية للدول المعنية بما يمنحها نفوذاً وتأثيراً مستداماً، ويأتي طرح عنوان «نزع الشرعية» عن حزب الله بالتحديد في هذا السياق.
يعود الخطاب الأميركي في ما يخص إيران وحزب الله إلى ما قبل 2011، وهذا مردّه قناعة أميركية أن كلا اللاعبين أجتاز تحدي الفوضى وداعش. في ما يخص حزب الله، أخرج الأميركيون من أدراجهم حملة كانت وصلت إلى ذروتها عام 2011 بخصوص تصنيف الحزب «منظمة إجرامية». ومما تضمنته الحملة مقال في «هآرتس» (تموز 2010) ورسالة «لفت نظر» من عضو الكونغرس سو ميريك (حزيران 2010) وشهادات منفصلة في الكونغرس لأيان بيمان وروجر نوريجا ودراسة لخوسيه كارديناس في أميركان انتربرايز، وكتاب لماثيو ليفيت، كلها في عام 2011. وفي ما يعني إيران، أيضاً عادت الحملة الأميركية لتستهدف دور إيران الإقليمي كدولة مستقلة تقف في مواجهة الهيمنة والاحتلال، ما يؤكد الرأي الإيراني أن قضية الملف النووي لم تكن أكثر من ذريعة لخلق مناخ دولي – إقليمي لعزل إيران ومشروعها. وفي هذا السياق نشرت أحدى الصحف الخليجية محرضةً مقالاً بعنوان «الحرس الثوري أهم لطهران من الاتفاق النووي».
إلا أن هذه الجهود لا يمكن أن تتجاوز الوقائع الصلبة التي تكرست في الإقليم والتي دفعت أحد الباحثين الأميركيين للمحاججة، في مؤتمر لمعهد «بروكينغز» عُقد أخيراً في الولايات المتحدة، في أن المنطقة دخلت بشكل واضح مرحلة «ما بعد أميركا». وتُشير عبارة «شرق أوسط ما بعد أميركا» إلى الدور القيادي لأميركا وليس وجودها، بمعنى أن الولايات المتحدة ستحافظ على موقع متقدم في السياسة الإقليمية، إلا أنها صارت ملزمةً بالتقييد والإقرار بأدوار ومصالح قوى أخرى وبخطوطها الحمر. وهذا هو تعريف هزيمة الولايات المتحدة، إذ لم تعد واشنطن تستفرد بالجلوس إلى «الطاولة الإقليمية»، بل أصبحت تتشارك «الطاولة» مع روسيا وإيران، ولم تعد تنوب عن حلفائها، بل هم حضروا أيضاً (تحديداً تركيا، والسعودية بدرجة أقل) ليساوموا ويتفاهموا بدرجات مختلفة مع منافسي واشنطن على الطاولة. ربما توقع بعض الأميركيين أن يحصل ذلك كله يوماً ما في سياق قناعتهم بمبدأ توازن القوى، إلا أنه على الأرجح لم يرد في بال أكثرهم تشاؤماً أن يكون «حزب الله» من جملة الحاضرين إلى تلك «الطاولة».
إذاً تتشكل اللحظة الإقليمية على ما «بعدين»، بعد «داعش» وبعد أميركا، وهي لحظة لن تكون واشنطن أو حلفاؤها قادرين على توجيه ضربة «قاصمة» ذات تأثير استراتيجي، ولذا سيكون التركيز الأميركي على توجيه جملة من اللكمات المتلاحقة التكتيكية لإرهاق الخصم وإضعاف عزيمته قبل استكشاف فرصة استراتيجية جديدة كتلك التي لاحت في سوريا والعراق بعد عام 2011.
* كاتب لبناني