«إنّه يجعل جورج دبليو بوش يبدو أمامه، بالمقارنة، كفلاديمير نابوكوف»ماتْ طيبي متحدّثاً عن مستوى الخطابة لدى دونالد ترامب (مجلّة رولنغ ستون)

بحسب المصادر الإعلامية في الغرب، فإنّ بيان ادارة ترامب الأخير ضدّ ايران، والذي تضمّن رفض التجديد للإتفاق النووي ودفع القرار الى الكونغرس، كان نسخةً «مخفّفة» عن خطابٍ أعنف بكثير كان الرئيس الأميركي ينوي توجيهه، تقول «الغارديان» البريطانية إنّه يتضمّن الانسحاب مباشرة من الاتّفاق النووي ونبرة عدائية هجوميّة، وتهديداً بالحرب والموت والأهوال على طريقة الخطاب الأميركي تجاه كوريا.

وساطة «الجنرالات الثلاثة» في بلاط ترامب، تزعم الصحيفة البريطانية، هي ما منع «كارثة دبلوماسيّة» أكبر من التحقّق؛ مع العلم بأنّ أكثر الدّول الفاعلة في العالم، من بريطانيا الى روسيا، أدانت قرار ترامب بالانسحاب ــــ أحادياً ــــ من التزامٍ أممي، ولغته التهديدية والتصعيديّة (اسرائيل ومسؤولون عرب خليجيون، فقط، أثنوا على «استراتيجية ترامب» الجديدة، وإن كانوا سيسعدون أكثر لو أنّه اعتمد النسخة «الأصلية» ــــ لأنّهم، كما في أكثر من مقامٍ سابق، لا يفقهون نتائج ما يتمنّون).

الدّاخل والخارج

ما زال الوقت مبكراً للحديث عن «عقيدةٍ» خاصّةٍ بترامب، ولكنّها تتجلّى الى الآن، على ما يبدو، في غياب أي مفهومٍ متّسقٍ يكون ناظماً لاستثمار القوة الأميركية في العالم. مفاهيم «أميركا أوّلاً» والحمائية الاقتصادية تتراجع مع انسحاب ترامب من المواجهة التجارية مع الصّين وخروج ستيف بانون من البيت الأبيض (وهو «القومي الاقتصادي» الذي كان يعتبر المواجهة مع كوريا أو ايران تفصيلاً أمام التحدّي الصيني). ريكس تيلرسون ــــ كما يقول تحقيقٌ عنه في مجلّة «نيويوركر» ــــ هو وزير الخارجية الوحيد في العقود الماضية الذي لم يفتتح عهده بخطابٍ يشرح فيه رؤيته الى العالم. كما أنّ انسحاب اميركا من العديد من المنظّمات والمعاهدات الدوليّة (من اتفاقية المناخ الى الـ«يونيسكو») يضعف دورها في صياغة النظام العالمي وقواعده، وهو ما كان من أهمّ ركائز قوّتها في الحقبة المعاصرة.
داخليّاً، ما زال الديمقراطيّون يحلمون بأن يتمكنوا من عكس نتائج ما جرى أواخر العام الماضي، وأن يُخرجوا ترامب من الرئاسة عبر القوانين بعد أن فشلوا بهزيمته في الانتخابات. هذا الأمل، وفكرة «المؤامرة الروسية» التي ستُكشف وتُسقط ترامب على طريقة ريتشارد نيكسون، هو محض سراب. تجري حالياً، بتزامنٍ، أكثر من خمسة تحقيقات رسمية مختلفة في موضوع علاقة ترامب بالرّوس، ولو كان هناك من دليلٍ جدّيّ، لعرفنا به منذ زمن. يكتب مات طيبي عن طريقين يمكن سلوكهما، بالقانون، لإبطال رئاسة ترامب: الأوّل هو اجراء العزل (impeachment) والّذي يصعب أن يمرّ من غير دليلٍ واضح على تورّط ترامب في أعمال جرميّة خطيرة، والكونغرس أصلاً يغلب عليه الجمهوريون، ومن المستحيل أن يحشد الديمقراطيون فيه أغلبية الثلثين. على الهامش: حين تدرس القانون الدستوري، تفهم أن هناك مشتركات بين السلطة التنفيذية في بريطانيا وأميركا، سببها نسخ الأميركيين للعديد من القواعد البريطانية، مع استبدال سلطات الملك حينها بالرئيس، وكان قانون العزل أحد هذه «الموروثات». في الأساس، في بريطانيا، كان قانون العزل يستخدم تماماً كما يقول القانونيون الأميركيون اليوم أنه لا يجب أن يُستخدم: كأداة سياسيّة. كان القانون من الوسائل القليلة في يد البرلمان لخلع الملك وإعدامه (بمجرّد أن تقرّر أغلبية الثلثين بأنّ العاهل قد ارتكب جرماً ما). فكان القانون، والتلويح به، أداةً فاعلة في وجه الملك حين ينجح في معاداة أغلبية القوى السياسية في البرلمان، أو يقترح قانوناً ترفضه الأكثرية الساحقة: «إعدل عن مسارك، والّا فأنّنا سنستخدم القانون وندينك بتهمةٍ واهية ونعزلك ونقطع رأسك».
الوسيلة الثانية هي، بحسب طيبي، «التعديل 25» الذي تقول إحدى فقراته بعزل الرئيس حين يفقد كفاءته العقليّة. للحقّ، هناك تيّارٌ عريضٌ بين الديمقراطيين وأتباعهم في الإعلام يروّجون، منذ بداية عهد ترامب، أن الرّجل ببساطة مجنونٌ رسمياً. قام الكثيرون بمقارنة مقابلات ترامب في الثمانينيات بمقابلاته الأخيرة، وكيف أنّه كان هادئاُ وأصبح انفعالياً، وكان واضحاً سلساً فأصبح كلامه مشتّتاً (على ذمّة مات طيبي، لو أنّك حوّلت خطاباته الأخيرة الى نصوصٍ وحاولت قراءتها فلن تفهم شيئاً)، وأنّ هذه كلّها عوارض تراجعٍ عقليّ وأمراض شيخوخة تحكم بأنّ ترامب لا يصلح لتسنّم منصب الرئاسة. كما يوضح طيبي، المشكلة هي أنّ تطبيق هذه المادّة أصعب من تطبيق قانون العزل. على ما يبدو، لا يكفي أن تكون مصاباً بعارضٍ نفسيّ حتّى تعتبر غير صالحٍ للرئاسة (فأكثر النّاس لديها عوارض نفسية)، أو حتّى أن تكون عبارةً عن مزيجٍ خطير من العقد والانحرافات التي تجعلك تتصرّف بشكلٍ غير عقلانيّ، أو أن تكون خرفاً تخسر عقلك بالتدريج. المعيار القانوني هو، فقط، في أن تُقعدك هذه المسائل عن مهامك الرئاسيّة، وطالما انّك قادرٌ على القيام بها، فهي لا تنطبق. بمعنى آخر: الدّستور لا يمنعك عن الجّنون، طالما أنّك قادرٌ على ممارسته.

خوفٌ وكراهية في لاس فيغاس

كان لديّ زميلٌ هو اليوم أكاديمي اميركي اسمه جورج كيتشاريللو ــــ ماهر (اقتبست في الماضي من كتاباته عن فنزويلا، التي هي موضوع اختصاصه)، منذ حصل على التثبيت في الجامعة وهو يحاول أن يختبر المدى الذي يمكنك أن تأخذ اليه لعبة «حرية الرأي» في أميركا، وكم هي «مطلقة» فعلاً؛ فيتسبّب كل شهرين أو ثلاثة بعاصفةٍ إعلامية يمينيّة تستهدفه، و«فوكس نيوز» وأتباعها يطالبون الجامعة بطرده (قال مرّة على «تويتر» إنّ قتل المستوطنين البيض في هايتي كان أمراً جيّداً، وعبّر عن قرفه من الأميركيين الذين يهدون مقاعدهم على الطائرات الى جنود الجيش، وشجّع على «لكم الفاشيين» في اميركا، من بين أقوال أخرى). هذه المرّة، اضطرّت الجامعة الى ايقافه عن التعليم ــــ متعلّلة بـ«أمن الطلاب» ــــ بعد أن قال، مباشرةً اثر مجزرة لاس فيغاس، إنّ السّبب في المقتلة ليست قوانين السلاح السهلة (كما يقول الليبراليون)، وإنّ سحب تراخيص السلاح لن يمنعها، بل إن المذنب الحقيقي هو «البطركية الذكوريّة البيضاء»، التي ربطها كيتشاريللو ــــ ماهر بترامب وجمهوره.
في الحقيقة، هذه الحجّة ليست خالية من الوجاهة، أو «استفزازية» كما تبدو للوهلة الأولى. من ناحية، هناك «معضلة إحصائية» حقيقيّة، ففي حين يرتكب السّود في أميركا نسبةً كبيرةً من جرائم القتل «العاديّة» ــــ أي تلك المرتبطة بالسّطو أو تنافس العصابات - فإنّ كلّ جرائم القتل الجماعي الشبيهة بلاس فيغاس، وكلّ القاتلين المتسلسلين تقريباً، هم أميركيون ذكورٌ بيض. في دفاعه عن نفسه، يقتبس كيتشاريللو ــــ ماهر نظريّة لعالم جريمةٍ اسمه مايك كينغ (لها مقابلٌ في أدبيّات مختلفة) تربط هذه الجرائم بما يسمّيه «البياض المُهان». الفكرة، هنا، هي أنّ الذّكر الأبيض يكبر ويتربّى في جوٍّ يشعره بالتفوّق الطبيعي على غيره وأنّه «يستحقّ» أن يهيمن على النّساء والملوّنين من حوله، وأن حصوله على حياةٍ هانئة وسهلة ليس امتيازاً، بل حقٌّ طبيعيّ له. الذي يحصل لنسبةٍ من الرّجال البيض، تقول النظريّة، هو أنّهم حين يخيبون في الحياة، أو تتركهم زوجاتهم، أو يخسرون في القمار، فهم لا ينكفئون الى الخيبة والهزيمة كما نفعل جميعاً، بل يشعرون بالغضب والهيجان، وأنّهم ضحيّة نظامٍ ظالم يسلبهم مكانهم المستحقّ. هذا الغضب هو ما ينفجر، دورياً، في احتفالات انتحارٍ وموت، تعكس حقداً جارفاً على المجتمع باسره. بالمعنى السياسي كان دونالد ترامب، يحاجج كيتشاريللو ــــ ماهر، هو المرشّح الّذي أعطى هذا الشّعور صوتاً، فأوصله الى سدّة الرئاسة.
ليس من الصّعب أن نصنع مقارنة بين هذا المفهوم في السياق الداخلي وبين نظرة المؤسسة الأميركية الحاكمة الى العالم. بوش وأوباما وهيلاري كانوا، على الأقلّ، يعرفون أنّهم يستغلّون العالم ويهيمنون عليه، ويتوعدون من ينوي كسر عصا الطّاعة بالويل، للحفاظ على هذا النّظام. دونالد ترامب، من جهةٍ أخرى، يؤمن بصدقٍ أنّ أميركا ضحيّةٌ مظلومة وأنّ العالم يستغلّها ــــ الحلفاء قبل الأعداء. مشاكل اميركا الاقتصادية سببها الصينيّون، البطالة والجريمة يجلبها المكسيكيون، والعرب والمسلمون هم من يعكّر أمن البلاد وصفوها. بل إنّ مجرّد قيام رئيس دولةٍ صغيرة، ككوريا، بالحديث الى الأميركيّين كندّ يراه ترامب اعتداءً وإهانة. خطابه في السياسة الدّولية هو، تماماً، خطاب «الأبيض المقهور». عودةً الى موضوع ايران، فإنّ التّصعيد الأميركي لن يغيّر شيئاً جذريّاً في موازين القوى القائمة، وإن كان سيكرّس مساراً على حساب احتمالاتٍ أخرى: ليس الأمر وكأنّ أميركا لا تلاحق ايران وحلفاءها حيثما تقدر، أو كأنّ رفع العقوبات الأميركية قد حصل فعلاً حتّى يكون لإرجاعها كبير أثر (أكثر البنوك الغربية، الى اليوم، تخشى التعامل مع ايران، وقد تأكّدت شكوكها بعد قرار ترامب). بل إنّ البلد الذي تمكّن من الاستمرار، لسنوات، في ظلّ حائط عقوباتٍ دوليّ يضمّ كلّ القوى الكبرى، لن يعيش أزمةً مع اجراءاتٍ أميركية أحاديّة، لا يسايرها أحدٌ في الغرب أو الشّرق. أمّا باقي شعوب المنطقة، والتي تستهدفها «الاستراتيجية» ايضاً، فهي إن كانت قد أثبتت من أمرٍ في السنوات الماضية، فهو أنّها قادرةٌ بالكامل على حماية نفسها (وبعضها البعض).
ما يظلّ هو أنّ النكوص الأميركي عن الاتّفاقية سوف يحسم جدلاً داخلياً طويلاً في طهران حول مستقبل وامكانات العلاقة مع واشنطن (إن لم يكن هذا الجدل قد حسم بالفعل)، ويرجّح أطرافاً عسكريّة على حساب التصالحيين، وهذا قد يكون أهمّ مفاعيل «استراتيجية ترامب» تجاه ايران ولم يتمّ التطرّق اليه بما يستحقّ في الإعلام. في الآن ذاته، فإنّ منهج ترامب، سواء كان مصدره جموحٌ أو جنونٌ أو فوقيّة، قد لا يكون كفؤاً وفعّالاً في السياسة الدّولية وقد يكون ــــ بالفعل ــــ من علامات «انحدار الامبراطوريّة»، ولكن ذلك كلّه لا يجعله أقلّ خطورةً أو تهديداً.