لقد تطرق سماحة السيد نصرالله في خطابه العاشورائي هذه السنة إلى ضرورة التمييز بين اليهودية والصهيونية فتطابقت نظرته وموقف أنطون سعادة الذي تناول هذا الموضوع منذ ثمانية عقود، والذي رأى أن مواجهة الصهيونية لا تكون بمحاربة الدين اليهودي بل بمعرفة جذور الصهيونية المرتبطة بالاستعمار الغربي لمنطقة المشرق العربي.
وكنت قد أثرت موضوع التمييز بين اليهودية والصهيونية في فكر أنطون سعادة في محاضرة ألقيتها عام 2000 ونشرتها فيما بعد كملحق في كتابي «أنطون سعادة والديمقراطية في سورية الطبيعية». والسبب لاختياري هذا الموضوع بالذات هو تقديم الإثباتات لتمييز سعادة ما بين الدين اليهودي والمشروع الصهيوني الاستيطاني، خاصة وأنّ بعض الحِزبيين، وغير الحزبيين، قد اختلط عليهم الأمر وأعطوا انطباعاً مغلوطاً حول موقف سعادة من هذا الموضوع، نتج عنه أن بعض الباحثين والصحفيين اعتقد أن ما يقوله البعض هو نفسه رأي سعادة كما لمح الصديق والصحافي فيصل عبد الساتر في مقابلة له الأسبوع الماضي على قناة «الاو. تي. في.»، وهذا خطأ فادح لأنه ينسف كل مقومات الفكر القومي الذي بنى عليه سعادة رؤيته.

منذ بدايات كتاباته أكد أنطون سعادة أن القضية الفلسطينية ليست مسألة يهود يريدون الإقامة في فلسطين، بل هي مسألة «انترنسيونية» متعلقة بمطامع المستعمر الغربي في الاستيطان في المشرق العربي خاصة بعد اكتشاف آبار البترول في الجزيرة العربية والعراق من قبل البريطانيين. فموضوع فلسطين يتعدى هجرة اليهود الغربيين ويختص في جزء كبير منه بسياسات الدول التي ساندت وسلحت هذه الهجرة لأغراضها ومصالحها.
عدا عن استعمار المشرق العربي، برزت أيضاً عوامل داخلية ضمن بريطانيا سرّعت من حركة الاستيطان. فإبّان الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، احتاجت بريطانيا للمال كي تسيطر على تركة الرجل المريض (أي العثمانيين)، فطلبت المعونة من رأسماليين صهيونيين وعلى رأسهم عائلتا روتشيلد وساسون. فعائلة روتشيلد تمسك بأهم مصارف أوروبا وعائلة ساسون امبراطورية قامت على تجارة الافيون في الصين وكانت تخصص قسماً من الأرباح تعطيه لبريطانيا التي دعمت هذه التجارة ومنعت الصين من معاقبة تجار الأفيون. ووصل الأمر ببريطانيا أن أعلنت الحرب على الصين لإرغامها على السماح بزراعتها، فعرفت بـ«بحروب الأفيون» (راجع جريدة «هآرتس»، 7 تشرين الثاني 2012، وكذلك الموسوعة اليهودية بدءاً من عام 1905). في المقابل، قدمت بريطانيا «وعد بلفور».
أما خلال الحرب العالمية الثانية، وحين لاحت خسارة بريطانيا طلبت من الصهيونيين في أميركا أن يحفزوا تدخّل الولايات المتحدة في الحرب وهذا ما حصل، فكافأت بريطانيا الصهيونيين بتركهم يستولون على فلسطين.
ولقد تنبّه سعادة إلى الدور الذي لعبه عنصر المال في ترتيبات سايكس - بيكو (1916)، ووعد بلفور (1917) وهما مترابطان، فلولا سايكس - بيكو وتقسيم سوراقيا، أي منطقة الهلال الخصيب، لما أمكن للصهاينة أن يأخذوا فلسطين. واليوم الوضع هو نفسه: على الكيان الصهيوني أن يقسّم كي يسيطر. (راجع أنطون سعادة، الأعمال الكاملة، جزء 7: 357).
نستنتج من ذلك أن سعادة كان يرى قضية فلسطين من منظار الاستعمار الغربي وأهدافه البعيدة المدى في المنطقة. لم يقل سعادة أن المسألة الفلسطينية هي مسألة يهود. قال إن المسألة الفلسطينية هي مسألة «انترنسيونية» من الطراز الأول.
وبالتالي، اعتبر سعادة أن المواجهة يجب أن تكون قومية و«القومية لا تتأسس على الدين» كما قال في «محاضراته العشر» (المحاضرة السابعة، صفحة 118). القضية الفلسطينية ليست قضية دينية، وبالتالي الجهاد الديني لا يقود إلا إلى مزيد من الخسارة ذلك أن الصهيونية ليست ديناً، بل هي مشروع قومي استعماري تحميه وتؤازره دول قوية لها مطامع ومصالح في الشرق الأوسط، وفي سوريا الطبيعية.
ولقد كان سعادة محقاً في هذا التحليل، فنحن نرى اليوم صهيونيين مسيحيين أشدّ صهيونية من الكثير من اليهود! وتعد الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة حوالى الأربعين مليون نسمة. موقف سعادة هذا موقف أساسي لأنه ينبع من الركائز الأساسية لفكره. ففكر سعادة لا يستطيع أن يكون فكراً دينياً وفكراً علمانياً في آن واحد. ويكرر سعادة موقفه القومي في كتاباته كافة، فيقول «المسألة الفلسطينية ليست مسألة إسلام ويهود، بل مسألة قومية من الطراز الأول» (الأعمال الكاملة، جزء 15: 145).

اليهودية كدين

خلال إقامته في المغترب كتب سعادة كتاباً أسميتُهُ «المسيحية والإسلام والقومية»، وأسماه جورج عبد المسيح (ترأس الحزب السوري القومي الاجتماعي) «الإسلام في رسالتيه المحمدية والمسيحية». إن هذا الكتاب لا يتناول المسيحية والإسلام فقط، بل يتناول الديانات الثلاثة: المسيحية والإسلام واليهودية. ولقد اعتبر سعادة أن اليهودية دين كالمسيحية والإسلام، ولم يتخذ من خلال كتابه أي موقف ضد الديانة اليهودية.
يقارن سعادة ما بين هذه الديانات مبيّناً اعتراف الإسلام بالديانتين اللتين سبقتاه، أي المسيحية واليهودية. ويرى سعادة تقارباً ما بين الشريعة الإسلامية والشريعة اليهودية:
«وجدنا من مقابلة أحكام القرآن وحدوده، على أحكام التوراة وحدودها، أن نصوص الشريعتين الموسوية والمحمدية واحدة، مع فوارق شكلية قليلة، لا تغيّر شيئاً من وحدة الأساس. فالله أوحى إلى محمد، في القرآن، الشريعة نفسها التي أوحاها إلى موسى وجميع النبيين الذين تقدّموا محمداً، كما هو مثبت في القرآن» (الأعمال الكاملة، ج 5: 99).
كذلك الأمر بالنسبة للمسيحية واليهودية حيث التقارب يكمن «في المسيحية واليهودية على السواء، فرض عمل الخير وتجنّب الشر، وخلود النفس، والثواب والعقاب. ولكن المسيحية واليهودية اختلفتا في الخير العام، فجعله اليهود مقتصراً على بني إسرائيل، وأطلقته المسيحية ليشمل جميع الأمم» (الأعمال الكاملة، ج 5 :166).
يخلص سعادة إلى القول في كتابه «المسيحية والإسلام والقومية»: «يصح كل الصحة القول أن أغراض الدين الأساسية أو الجوهرية التي دعا إليها الإسلام تتم بواسطة الإسلام والمسيحية معاً، والى حد ما اليهودية أيضاً» (الأعمال الكاملة، ج 5: 176).
أما على أرض الواقع فهو يرى أنه «لا يوجد لبناني يريد أن يعترض على شؤون اليهود المليّة، وأحوال معتقداتهم الخاصة. فإذا كان اليهود يريدون حقيقة غرضاً ملياً بحتاً، فلا وجه لإيجاد صباغ قومي لهذا الغرض» (الأعمال الكاملة، ج 2: 211، عام 1937).
ولقد استبق انطون سعادة شلومو ساند وكتابه الشهير: «اختراع الشعب اليهودي» الذي صدر في 2009، إذ يقول في كتابه «نشوء الأمم»: «أن اليهود ليسوا أمة، وهم ليسوا سلالة مطلقاً، إنهم كنيس وثقافة. ولا يمكننا أن نسمي اليهود أمة، أكثر مما يمكننا أن نسمي المسلمين أمة، والمسيحيين أمة» (الأعمال الكاملة، ج 3: 138). ولقد جارى العديد من اليهود وبعضهم رجال دين وسياسيون هذا الموقف: «يوجد فريق من اليهود الراقين، يفهم العلل وأسبابها ويعرف عقم دعوة الصهيونيين ويحاربها من أجل اليهود، كما من أجل الإنسانية جمعاء» (الأعمال الكاملة، ج 1: 175).

التمييز على أساس الدين أو العرق

رفض سعادة كل أنواع التمييز بين مواطني سوريا الطبيعية على أساس الدين أو العرق: «قاومت الحركة السورية الرامية إلى توحيد صفوف الأمة السورية، جميع السياسات الدينية في الشؤون السورية القومية عملاً بمبدأها الإصلاحي الأول القائل بفصل الدين عن الدولة وتأسيس هذه على حقوق أفراد الأمة وواجباتهم بصرف النظر عن مذاهبهم الدينية التي يجب أن تبقى من شؤون الفرد الخصوصية»
(الأعمال الكاملة، ج 6:8).
ويكرر سعادة هذا المبدأ الجوهري لإيمانه التام بالدولة العلمانية، إذ يقول: «لا يمكننا ونحن نبغي الصحيح أن ننظر إلى الدين بمنظار سياسي، ولا إلى السياسة بمنظار ديني» (الأعمال الكاملة، ج 11: 65)، كذلك يرفض سعادة مبدأ كره الأجانب على أساس عرقي «ليس في حركتنا مبادئ كره للأجنبي، ولا المبدأ المعروف في العالم بالشوفينزم» (الأعمال الكاملة، ج 2: 11). فمن الغباء التكلم أننا نحب هذه الدولة أو نكره تلك الدولة، المبدأ القومي لا يدور حول الكره أو المحبة، إنما يقوم على مصالح الأمم. لقد وضع سعادة مبادئه للدفاع عن سوريا الطبيعية التي كانت تحاول قوى عديدة السيطرة عليها. ولذلك لم يخصص موقفه بفلسطين فقط، بل عَمّمه ليتناول سوريا في جميع أجزائها:
«إننا الآن أمام الأفعى ذات المئة رأس، لأن الأخطار التي تهدد كياننا وعمراننا من الشمال والجنوب والغرب والشرق كثيرة وعظيمة» (الأعمال الكاملة، ج 1: 400، عام 1933).
وكما يرفض سعادة أن تقوم العنصرية في بلاده، كذلك ينكرها على غيره: «لولا التشبث بالعنصرية الفارغة، لما كنا نسمع اليوم بحركة يهودية صهيونية» (الأعمال الكاملة، ج 1: 173). يطالب سعادة بالانسجام ما بين العناصر كافة التي تسكن سوريا الطبيعية، ويحارب الصهيونية لأنها تريد أن تحول الدين اليهودي إلى قومية هدفها القضاء على السكان الأصليين: «كل هجرة ترمي إلى خلق أمة إلى جانب الأمة السورية، هي خطر يجب محاربته. إننا ضد الهجرات التي تنافي الاندماج في جسم الأمة» (الأعمال الكاملة، ج 2: 22، عام 1936).
حين يحارب سعادة عدم الاندماج، يعني ذلك أنه يحارب كل التيارات العنصرية. فكيف يستطيع أن يحارب العنصرية، وأن يكون هو نفسه عنصرياً كما يريد البعض أن يؤكد؟
هنا يردد هذا البعض الجملة التالية: «فليس لنا من عدو يقاتلنا في ديننا وحقنا ووطننا غير اليهود».
لقد رأيت مناشير وكتباً تبستر هذه الجملة، فتصبح عند بعضهم «ليس لنا من عدو إلا اليهود». إن وضع هذه الجملة بهذا الشكل يعني قلب ما قصده سعادة تماماً. فهو لم يقل ليس لنا من عدو إلا اليهود، بل قال إنّ اليهود هم الذين يحاربوننا في ديننا وحقنا، أي أنهم هم العنصريون، وليس نحن؛ وهم الطغاة وليس نحن؛ وهم المعتدون، ونحن ندافع عن أنفسنا. وليس أدل من ذلك قوله: «إذا أمعنا النظر في القضية العنصرية، اتضح لنا أن مزج القضايا العنصرية بالقضايا القومية هادم لقومياتها. إن المبدأ القومي الشعبي هو المبدأ الأساسي الضروري لحياة الأمم» (الدأعمال الكاملة: جزء 1، 381).
يشدّد سعادة على هذا الموقف في كتاباته كلها، نراه يقول في السنة ما قبل الأخيرة من حياته، أي عام 1948: «لا نريد تحرير فلسطين من اليهود لمجرد تحريرها من اليهود، فقد تتحرر من اليهود وتبقى للإنكليز، أو تبقى لجماعة أخرى. نحن نريد تحرير فلسطين لأنها جزء منا. وعندما نهتم بمصير فلسطين لا نهتم بنقطة واحدة، وهي مجرد اليهود، وليأخذها القرود بعد اليهود»! نحن نقول إنه يجب أن يخرج المعتدون من أرضنا لتبقى أرضُنا لنا» (الأعمال الكاملة، ج 8: 132، المحاضرة العاشرة).
أنطون سعادة ليس في معرض محاربة أديان، وليس في وارد لبس الثوب العنصري ومحاربة أعراق بشرية. هو يحارب ببساطة كل عدو يريد أن يأخذ جزءاً من سوريا الطبيعية. كتب قائلاً: «لكن جريدة سورية الجديدة [التي كان يصدرها في البرازيل سوريون قوميون] بقيت في شذوذها، وصارت تهتم بنشر صور الجيوش الألمانية وقوادها، وزعيمي ألمانيا وإيطاليا، أكثر من اهتمامها بنشر صور الحركة السورية القومية الاجتماعية. وظهر اهتمام الجريدة بمحاربة اليهود في العالم وإظهار عيوب السياسة الأميركانية والسياسة البريطانية، وقلة اكتراثها بالمواضيع السورية البحتة، وسياسة الحركة السورية القومية الاجتماعية التي تقول بمحاربة الصهيونية ومطامع اليهود في سورية، ولا يهمها بعد ذلك أن تحارب من أجل مصالح الحركة الألمانية الاشتراكية القومية، أو من أجل مصلحة الحركة الإيطالية الفاشيستية» (الأعمال الكاملة، ج 7: 128-129).
* أستاذة جامعية