شكلت عاشوراء، على الدوام، حدثاً دينياً وإنسانياً كبيراً تجاوز بأصدائه الزمان والمكان والأشخاص، ليتناول بشكل فاعل ومؤثر مساحات أوسع من الحياة الإنسانية وتطلعاتها إلى الحق والعدل والخير. بل يتجاوز الحدث بطبيعته الملحمية ورسالته الإنتماءات الدينية نفسها إلى المديات الإنسانية الرحبة.
في عاشوراء تحضر حرارة الإيمان والمشاعر الروحية والمعنوية والنفسية، وتتألق الروح الإنسانية في عروج شعوري متسام يعبر عنه الدمع والإنحياز الوجداني إلى جانب من يمثله الإمام الحسين في موقفه وتضحياته. وفي عاشوراء إستنهاض للإرادة الإنسانية والعزيمة أمام التحدي والتهديد للوجود والكرامة، فتُستسهل الصعاب والأخطار وتزهد أمام إغراءات الخضوع والإستسلام.
إذاً، هي فرصة ذات فرادة دينية وإنسانية كبرى. لكن إلى أي حدّ يمكن الإستفادة منها ومن قيمها وثقافتها لتكون رسالة مفتوحة إلى الإنسان المنتمي واللامنتمي على حد سواء، وتخص المنتمي بفيض يعمق قناعاته ويحفز إلتزامه الروحي؟
هذا يتوقف على كيفية تقديم الحدث إن على مستوى الشكل أو المضمون.
في إطلالته الخاصة قبيل بدء مراسم عاشوراء، قدم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله توجيهاته التي يراها ضرورية لإحياء المناسبة، مثلت قراءة نقدية لما هو السائد ورؤية إصلاحية في الخطاب العاشورائي. ولطالما كان هذا الخطاب وما يرافقه من شعائر أو ما أضيف إليها موضع جدل في الأوساط الشيعية، علماء وباحثين وخطباء ومستمعين...
هل نقدم عاشوراء بشكل صحيح؟ وهل ما نقدمه للمتلقي يعكس الثقافة الحسينية والصحيحة أم لا؟
هل نبقي عاشوراء في خزانة الذاكرة التاريخية المفعمة بالحزن أم نخرج بها إلى الحاضر ونتمثلها في قضايانا؟ وهذا حكماً يوجد ربطاً بين المناسبة وعناوين هامة معاشة كالعدالة والمقاومة وثقافة القيم وغيرها...
والإصلاح لا يعني بالضرورة تجاوز كل ما هو موجود، بل هو إضافة في الشكل والمضمون تنقل الإحياء العاشورائي إلى مستويات لائقة بقداسة المناسبة ورسالتها.

الإصلاح لا يعني تجاوز كل ما هو موجود، بل هو إضافة في الشكل والمضمون تنقل الإحياء العاشورائي إلى مستويات لائقة بقداسة المناسبة

على مستوى شكل الإحياء: يرى السيد نصر الله أن المجالس التقليدية هي الشكل الأمثل للإحياء الذي أثبت تأثيره على مدى التاريخ ويجب الحفاظ عليه وتعزيزه أفقياً من خلال إنتشاره في القرى والبلدات والأحياء وربطه مكانياً بالمساجد والحسينيات لتعزيز حضورها بين الناس. وفي الوقت نفسه يتعين الإرتقاء الحضاري في شكليات هذه المجالس لتصل إلى مستوى قداسة الحدث، إن على مستوى الترتيب أو التقنيات أو السكينة والأجواء الجاذبة للحضور، والتأكيد على النظام والإستفادة من الوقت المحدد، لتخرج المجالس عن الفوضوية التي تعتري بعضها. فالمجلس العاشورائي يشكل محور الإحياء شكلاً، لكنه لا يلغي الأشكال الأخرى التي هي روافد المناسبة كالأعمال الفنية وغيرها.
وعلى مستوى لغة الخطاب، لا سيما الرثاء ورغم التأثير الكبير للهجة العراقية السائدة فيه والتي إعتاد الجمهور سماعها ، يرى السيد نصرا لله ضرورة التركيز على القصائد الفصيحة واللهجة الواضحة لتكون مفهومة للناس. كما أن وجود المجالس في بيئة متنوعة دينياً وثقافياً كالمجتمع اللبناني يقتضي إحترام الآخر وإحترام التنوع في طبيعة الخطاب.
أما على مستوى المضمون:
أولاً، ينبغي أن نعتبر عاشوراء فرصة ثقافية ومعرفية وأن ينعكس ذلك في الخطاب الذي يركز على المضمون الديني ذي الصلة بالملحمة الحسينية، والذي يتناول مواضيع مهمة وعملية تؤثر في القناعات والسلوك. فبعض الخطباء ينحو مناحي نظرية وتخصصية لا تمثل أولوية للجمهور وينحصر أثرها في المجال العلمي المجرد. فمثلاً ما نعرفه أن أصحاب وأنصار الحسين كانوا قلة ينقصون أو يزيدون قليلاً عن المئة، فالبحث حول عدد الأنصار في المجالس العامة لن يكون مهماً. في حين أن البحث في أسباب تخاذل المسلمين عن نصرة الإمام وما ترتب عليه من نتائج سيكون مهماً ومفيداً.
ثانياً، الحاجة إلى البحث والتحقيق العلمي في النهضة الحسينية لأنه الطريق إلى تصحيح بعض الأحداث المشهورة التي لا أساس تاريخياً لها، مع الحفاظ على الوحدة المجتمعية ومن دون إثارة الخلافات من خلال مهاجمة تلك المشهورات. وأمثلة ذلك كثيرة كقصة عرس القاسم بن الحسن في كربلاء والتي هي من تأليف بعض خطباء المنبر ولا أثر لها في التواريخ المعتبرة.
ثالثاً، رفض المبالغات والتي هي صور شعرية لا تحتاج إليها البطولة والتضحية المشهودة في كربلاء، بل إن هذه المبالغات تسيء إلى السيرة وتوجِد شكاً في مُجمَل ما يروى فيها.
رابعاً، الإنتباه إلى طبيعة المواضيع العقائدية المطروحة في الخطاب فلا تكون معقدة ومشكلة على الفهم لأن ذلك قد يقود إلى إحدى نتيجتين: إما سوء الفهم وإما إنكارها. وكذلك عدم التعرض للقصص غير المفهومة التي يرويها بعض الخطباء والتي قد يعتبرها المستمع أسطورة لا واقع لها.
خامساً، الأمانة العلمية في النقل تقضي الحفاظ على النص وتمييزه عن الإضافات الشخصية التي تصدر عن بعض الخطباء بعنوان «لسان الحال» أو «كأني به»، لأن الإكثار منها تؤدي مع الوقت إلى نسبتها إلى الإمام في أذهان الناس. وكذلك مما قد يتداخل مع النص ما ينسب إلى الأمام من أقوال وأشعار لعله إستشهد بها وهي لبعض الشعراء العرب.
سادساً، ضرورة أن يكون الخطاب منسجماً ومترابطاً وخالياً من التناقضات التي منشؤها الدس ولو عن حسن نية إن كان يصح أن يكون الدس كذلك! ومن أمثلته أن السيدة زينب أوصاها الإمام الحسين أن لا تخمش وجهاً ولا تشق عليه جيباً، ثم يزعمون أنها نطحت جبينها بالمحمل حتى سال على وجهها الدم، علماً أن لا أساس لهذه الواقعة.
سابعاً، ربط الواقعة التاريخية بوعيها بالحاضر وعدم حبسها في خزانة التاريخ فلا يكون الخطاب روائياً بقدر ما يرقى إلى التمثل القيمي والعملي بالحاضر المعاش. فنحن أمام منهجين في فهم عاشوراء، الأول موغل في التاريخ حتى عزلها عن الحاضر والمستقبل معتبراً ربطها بالقضايا المعاصرة تسييساً وتحزيباً لها وهو بهذه الذريعة يحرم الأمة الإستفادة منها. والثاني (ويدعو إليه السيد نصرالله) وهو الربط الواقعي لعاشوراء والإستفادة منها في قضايا الأمة وفي طليعتها المشروع المقاوم.
هذه ملامح أساسية للرؤية الإصلاحية للسيد نصرالله في الخطاب العاشورائي .
* أستاذ الفلسفة والمنطق في الجامعة اللبنانية