في قمة «البريكس» الأخيرة التي انتهت أعمالها في الخامس من الشهر الجاري، بدا واضحاً توجُّه الصين إلى معارضة السياسة الحمائية لإدارة دونالد ترامب. فبالنسبة إلى الدولة التي تُعتبر - بعد الولايات المتحدة - قاطرة النموّ في العالم، العودة عن العولمة التجارية ليست خياراً يمكن التساهل معه، وخصوصاً إذاً ترافق ذلك مع إجراءات تضع عراقيل أمام تدفُّق البضائع والسلع التي يعتمد عليها اقتصادها.
في خطابه أمام رؤساء دول «البريكس» يربط الرئيس الصيني هذه المعارَضة بموقف بلاده المؤيّد بشدّة لحرية التجارة، ويدعو في سياق هذا التأييد إلى جعل الصين الحصن الجديد للعولمة بدلاً من الولايات المتحدة. وهو موقف يلاقى صدىً في دول مثل ألمانيا التي تقود - مثل الصين - اقتصاداً قوياً يعتمد على منافع العولمة في تسهيل تنقُّل الرساميل والسلع، ويتضرّر من أيّ إجراءات تحدّ منها بحجّة حماية الصناعة الداخلية أو الوظائف. في الحالتين ثمّة تراكم يعتمد على اتفاقات التجارة الحرّة التي سهّلت تنقُّل الرساميل بين الأسواق الدولية ورفعت العوائق أمام تدفُّق السلّع التي تصدِّرها هذه الدول، سواءً للأسواق الناشئة أو الصناعية. الاستفادة المشتركة من العولمة هي التي تجمع الدولتين حالياً وهي التي تُفرِّقهما عن الولايات المتحدة بقيادة ترامب، وبذلك تكون هي المحدِّد الفعلي للسياسة -على الأقلّ اقتصادياً - بدلاً من الأحلاف العسكرية.

مُعاقَبة ألمانيا

في الحقبة التي سبقت تبوُّؤ ترامب السلطة لم يكن ثمّة خلافات جدّية بين الولايات المتحدة وألمانيا بشأن التجارة، ولكن بعد مجيء الرجل إلى الإدارة حاملاً معه أولويات مختلفة للاقتصاد والسياسة الخارجية بدأت الأمور بالتغيُّر تدريجياً. في البداية طُرحت مسألة الميزان التجاري بين البلدين، والذي يعتبره ترامب مُختَلاً لمصلحة ألمانيا، ثمّ أُُثيرت قضية انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية الشراكة في التجارة والاستثمار عبر المحيط الأطلسي التي تعوِّل عليها ألمانيا كثيراً لفتح الأسواق الأميركية أمام البضائع الأوروبية، قبل أن يستقرّ الأمر بالرئيس الأميركي على الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ التي تُعتبر برلين شريكاً أساسياً فيها.

الطموح الصيني
لقيادة العولمة سيحدث تغييراً في بنيتها
في كلّ هذه الحالات تبدو ملامح الاعتراض الأميركي على سياسة ألمانيا الاقتصادية واضحة للغاية، وهي لا تعبّر فقط عن معارَضة للعولمة التي تقودها ألمانيا في أوروبا، بل تُعيق أيضاً إحداث التراكم المرجوّ منها، عبر جملة من الأدوات التي يتيحها اعتماد الحمائية الاقتصادية، ومنها مثلاً: فرض رسوم جمركية على بضائعها التي تدخل إلى السوق الأميركية، عرقلة اتفاقات التجارة التي تتيح لها الوصول إلى هذه السوق بمزايا تنافسية أكثر، تحديد حصص معيّنة للإنتاج الألماني الذي يصل إلى الولايات المتحدة بحجّة حماية الصناعات الأميركية... الخ. هذا سيقود مع الوقت إلى فضّ الشراكة التجارية بين البلدين، وسيؤثِّر حتّى على التحالف السياسي والعسكري بينهما في إطار حلف شمال الأطلسي، ولكن التأثير الأكبر سيكون على التركّز الشديد للثروة الذي أفضت إليه العولمة بنسختها الغربية ــ الأميركية.

«عولمة الصين»

التحدّي الذي تقوده الصين يعتمد - كما يقول رئيسها في قمة البريكس - على مجابهة السياسات الحمائية لإدارة ترامب. لكن الصين ليست وحدها في ذلك، فثمّة دول كثيرة بدأت تتضرّر من السياسات الأميركية الجديدة في تقييد التجارة، ولا بدّ أنها ستكون معنية بالتشبيك مع الصين، إن لم يكن لمواجهة أميركا تجارياً، فعلى الأقلّ لإيجاد شركاء بدلاً منها يمكن الاستفادة من خبراتهم المتراكمة في التبادل التجاري والوصول إلى الأسواق الدولية. وهنا يبرز حضور المكسيك في قمّة «البريكس» الأخيرة بصفة مراقب كدليل على توجُّه الدول التي انسحبت الولايات المتحدة من الشراكة التجارية معها إلى اعتماد شركاء اقتصاديين جدد، في مسعىً منها لتقليل الاعتماد على أميركا اقتصادياً بعدما تغيرت توجُّهاتها مع إدارة ترامب. في هذه الحالة ستستفيد الصين من انضمام «أعضاء» جُدُد للتكتُّل الاقتصادي والتجاري الذي تقوده بالشراكة مع روسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وخصوصاً أنّ هؤلاء كانوا محسوبين تاريخياً إن من الناحية الاقتصادية أو السياسية على الولايات المتحدة. واستقطابُهم الآن إلى منظمة «البريكس» بصفة مراقب، سيحدّ من قدرة أميركا على إلحاق أضرار تجاريّة بالمنظمة، أو قيادة حرب اقتصادية ضدّ أعضائها كما كان يعد ترامب إبّان حملته الانتخابية. هذا بالإضافة إلى المنفعة الاقتصادية التي يتيحها فتح أسواق جديدة أمام اقتصادات «البريكس»، بحيث ينفتح التبادل التجاري الذي تقوده على أنماط لم تكن متاحة سابقاً، وأصبحت كذلك الآن بفعل المعارَضة التي تقودها الصين لحمائية ترامب التجارية. هذا الطموح الصيني لقيادة العولمة بدلاً من الولايات المتحدة سيحدث تغييراً في بنيتها التي كانت تعتمد كثيراً على تمركُز الثروة وانتقالها غرباً. التغيير لن يطاول البنية نفسها ولا آلية التراكم المصاحِبة لها، ولكنه سيُدخِل دولاً وأسواقاً جديدة إليها، وسيوسّع مروحة المستفيدين منها، بحيث تشمل دول الجنوب فعلياً، وبما يتيح إحداث تراكم لا يستفيد منه الغرب فقط، ولا تقتصر ثماره كما في السابق على تدفُّق الثروة من الجنوب إلى الشمال.
* كاتب سوري