ليس المقصود بالنموّ كمفردة هنا الزيادة في الكثافة السكانية أو التطور المادي في أشكاله المختلفة، بل هو اللحظة التي ينتزعها الإنسان من قلب تحديات الحياة ليواجه الاهتزاز والضياع والتردد، ويؤكد عمق حاكميته للتاريخ الأصيل الذي يصنعه لوجوده المتنوع بلوغاً لحاكمية متعالية متسيّدة للكون برمّته تعكس مدى قدرته على صناعة وعاء اجتماعي وتاريخي متغلب على الرتابة والمحدودية في النظرة والتعامل.
هذا الوعاء الذي يعمل على ضبط اللحظات التي تترجم نشاط الإنسان وفاعليته في تنظيم مظاهر قوته وفعلها الإيجابي في تصحيح الأوضاع والعلاقات وفق إرادة إلهية تنفي الآنية والظرفية والنفعية الرخيصة التي تستهلك حياة الفرد والجماعة.
وما نشهده اليوم هو تفاقم الضياع والانقطاع الإنساني عن اللحظات الأصيلة للتراث وفقدان القوة لجهة تنظيم القدرات في سبيل تصحيح الحال، ما أوجد شخصية مرضية متقلبة ومزاجية تعتمد اللغة التبريرية في محاكاتها ومقارباتها للموضوعات الدينية والتاريخية والاجتماعية، لغة سطحية لا تملك عمقاً في التفاعل والرؤى ولا تلامس جوهر المشاكل، بل تتقن فن التوصيف من دون التطرق إلى وسائل الحلول، وكأنها هنا تفقد تواصلها الحي مع لحظتها المبدعة التي تفرض لغة تجلب الجدة والأصالة في العرض والتحليل والإفادة والتوظيف. فبات لذلك النص التاريخي والديني مساحة لا تنتهي لجملة من التبريرات التي تخفي عجزاً وقصوراً إنسانياً عن بلوغ النمو المطلوب على مستوى إدارة الذات والتحكم بلحظاتها وجعلها في محتوى يليق بالمعرفة التي تنطلق من الداخل لتتصل بالخارج وبالله اتصالاً جوهرياً، وكما قال الإمام علي عليه السلام: «من عرف نفسه فقد عرف ربه».
وكأن الإنسان كصورة للإله المتعالي، لم ينضج بعد كي يحكم ذاته بمعنى إبعادها عن التسطيح وحبسها في دائرة الهوى والأنانيات، ما أفقده التوازن في سلوك النمو الطبيعي الذي يعني في أبسط تجلياته التعالي عن كل ما يسخف الإنسان ويسقط كيانه وحضوره من عبادة للمال وتكالب على السلطة وركض وراء النفوذ والجاه والتسلط واستثمار المركز الديني أو الحزبي أو العائلي، وكأننا بتنا في مجتمعاتنا الشرقية صدى وصورة سوداوية لحضارة مادية غربية لا تريد ذاتاً مفكرة واعية خارج حدود الحسابات المادية النفعية، فأسرفنا في قتل بعضنا البعض ودخلنا في نزاعات لا تهدأ، مستغلين اللغة المذهبية والطائفية لبناء المزيد من الجدران بيننا تكملة لدور الغرب المستعمر والمستكبر في تسليع الإنسان واستعباده واستعماره بوجوه كثيرة.
هذا النمو الإنساني الذي هو تعالٍ عما يشد المخلوق إلى الدونية والأرضية هو سير طبيعي لحاكمية من داخل ملتهب باللحظات التي تواجه إلى حاكمية على الحياة والوجود كدائرة كبرى تتنفس فيها الكرامة وتسرح فيها الحرية كشعار يبني هذا التعالي والسمو، وما دام هذا السير معرقلاً وفيه العيوب الكثيرة.
ما دام الإنسان مشدوداً لكل ما يرديه من أنانيات ومحسوبيات ونزوات وأهواء يريد بها فرض قوته المزعومه على الآخرين مهما كان الثمن، فإن انتماءه يصبح واهياً مهما حاول تغليفه بغلاف النشوة والشجاعة والبطولة والجهاد ونزوة الانتصار الموهوم. فبكل بساطة لأنه إنسان غير منتمٍ إلى شيء لا ركيزة له ولا أصل يركن إليه هو في الظاهر يدّعي انتماءً دينياً وعقيدياً وسياسياً صلباً، لكنه واقعاً لا يعيش هذا الانتماء إحساساً بالمسؤولية وعمقاً بالارتباط بالأصالة ولا فهماً وتدبراً وتعقلاً يترجمه إلى سلوك متعال يدفعه إلى النهوض والتغيير الحقيقي، فسرعان ما يتحول هذا الانتماء الواهي إلى قيد يقيّد هذا الإنسان ويحوطه بجدار عال من الغفلة التي دعا الإسلام إلى الحذر منها لأنها عدو النمو والتعالي، فالغفلة هي نقيض الإيمان الذي يحفز الإنسان على سلوك طريق النمو الطبيعي في تساميه وتعاليه لولوج التوحيد العملي الخالص الذي ينفي نزوع الإنسان وتشتت ذاته وانصياعه لسلطة هنا أو عنوان دنيوي هناك.

إن تجديد لغة الدين وخطابه مهمة ضرورية وملحّة في كل زمن

والغفلة نقيض دعوة الله تعالى للإنسان كي يتعقل وينمو طبيعياً. يقول تعالى في كتابه العزيز: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]، فالغفلة هي حرمان الإنسان من قيمة السمع والنطق والعقل التي تحركه في ما ينفع واقعه وتفكيره ويرتقي بذلك كله، فكم من سمع يتحرك بالفتنة؟ وكم من ألسن تنطق بالزور والبهتان وتزوّر الحقائق والوقائع؟ وكم من عقول جامدة منغلقة تمعن في غيّها وعتوّها وتوهم نفسها والآخرين أنها مؤثرة؟
في حين أن الإيمان فعل بر وعطاء ونشاط في المجتمع يؤكد أواصر التضامن الاجتماعي والتكافل ويقدم الذات على أنها قوة للإصلاح الفعلي والمساهمة الحية في مواجهة تمزق الواقع إلى كيانات سلبية تدمر ما حولها وتستغرق في غفلتها وسلطتها المزعومة الدنيئة، والتعقل هو الأداة لضبط الذات وتأسيس حاكمية الذات على داخلها وعلى الواقع ككل.
إن الدين كمنظومة عقيدية وتشريعية وأخلاقية هو محفز إلى نمو الإنسان من داخله حتى يكون بمقدوره مواجهة ما يعترضه من الخارج من تحديات تعمل على انتزاعه من جذور الحياة وإدخاله في اختبارات تعريه أمام نفسه لجهة كونه هل يعمل بمقتضى اختياره كمخلوق مختار وحر وكائن معقلن يبحث جدياً عن حقيقة تركز له مشاعره وتنظم له فكره وتبعده عن جملة من انتماءات جهوية وحزبية وعشائرية ضيقة.
متى يحس الإنسان بأن في داخله الصورة الجلية الشفافة التي تعكس على الدوام وجود الله وتأثيره عليها وتحس أيضاً بأنها مماثلة للجوهر الإلهي المتعالي، كي تنهض بالواقع على أساس توحيدي عملي ينفي كل تبعية لسلطة مشوهة أو لشعارات براقة وخادعة وفارغة أو لحزبية يجهل أفرادها ما عليهم من دور، فكم يا ترى من تابعين لزعامة دينية هنا وهناك يعطلون عقولهم ويتقنون التصفيق فقط، فيما المطلوب دور رقابي لها ومحاسبتها وتصحيح خطواتها ومسيرتها، وهذا ما نسمع به عن تاريخ بعض المرجعيات الدينية التي تحولت إلى إكليروس نجهل خفاياه ولا نعرف عنه الكثير. فليست الرقابة والمحاسبة شيئاً معيباً، إنها جزء حيوي من تنمية داخل الإنسان كي يكون فاعلاً ومؤثراً ومتكاملاً، وكم من حاملين لشعارات ورايات تحمل كلمات التوحيد والشهادة وتمارس تحتها سلوكاً استعلائياً واستكبارياً لا يمتّ للعناوين والشعارات بصلة.
البعض يتعصب لحزبه أو عائلته أو عشيرته أكثر من تعصبه للحق ولله. فأن تمسّ الذات الإلهية فذلك يمكن أن نغض النظر عنه، لكن أن تنقد حزباً أو شخصاً أو عائلة أو مرجعية نقداً موجِهاً فذلك مرفوض ومستهجن. فالتجربة تدل على أننا لم نتعلم من رسول الله صلى الله عليه وآله ومن تجارب الصحابة المنتجبين الذين ابتعدوا عن التسلط والاستبداد والتأسيس لكهنوت ديني وسياسي مشوّه، هؤلاء الذين علّمونا أن الدين ليس كائناً غيبياً، بل لغة مباشرة وبسيطة وسهلة تربط بين داخل الإنسان وبين العالم الخارجي، وبين الله تعالى في عملية تصحيحية دائمة، هذه اللغة التي تعبر عن وحدة الذات وحاكميتها على نفسها والخارج من حولها.
إن تجديد لغة الدين وخطابه مهمة ضرورية وملحّة في كل زمن، لأن التجديد فعل إيمان أصيل مرتبط بانفتاح الإنسان ووعيه ونشاطه الذي يعمل على فتح الدين المصنوع والمتلاعب بفهمه على عملية نقدية عقلانية مستمرة وهادفة.
لقد انتقد الوحي السماوي الغافلين ودعاهم إلى التعقل في إيمانهم وخطواتهم وحركتهم في الحياة. يقول تعالى (صم بكم عمي فهم لا يعقلون)، البقرة: 171. هنا فقدان لجرأة العقل وحيويته في تقليده الأعمى للآباء وما تفرضه سلطة هنا أو هناك مهما كانت وهو ما يحرم المرء حاكميته.
ويقول تعالى: (لهم قلوب لا يفقهون بها) الأعراف: 179. فأين الفهم الواعي للذات والخارج؟ فلم يحركوا مشاعرهم وعقولهم في الانتصاف للحق وإبراز الأصالة الإنسانية المتعالية.
الإنسان المؤمن هو من يعمل على تنظيم قواه ومداركه العقلية والشعورية بغية تحقيق نموه وحاكميته، فالنمو هو عملية مستمرة تقوم على ما يجب أن يفكر فيه الإنسان وما ينبغي أن يكون عليه من أوضاع. وهنا تكمن الإشكالية التي تعرينا وتضعنا أمام حقيقة تاريخية ووجودية مريرة. فما لم نراجع دواخلنا وننظم قوانا ولحظاتنا سنبقى في أزمات ومسلسلات من الانحدار لا خلاص منها، فما لم نطوّع ذواتنا وننمّيها في الاتجاه السليم لن تنفعنا كثيراً نشوات انتصارات هنا وهناك.
* حوزوي وأكاديمي