تُعبِّر العلمانية بكسر العين، عن الإنجازات العلمية، وهي في السياق المذكور تؤسّس لإقامة مجتمع مدني يعتمد قوانين التطور العلمية، وذلك من طريق عقلنة الظواهر الطبيعية وإخضاعها للعلم التجريبي. ويرى أنصار التيار المذكور أن الدين نتاج خوف الإنسان الغريزي من الطبيعة، أو جهله المعرفي بقوانينها.
لكن في سياق تجاوز الإنسان لخوفه وجهله يصبح قادراً على الفصل بين الضمير والمقدس، فتتراجع منظومة القيم الروحية المطلقة أمام أخرى مادية نسبية، وينحسر تأثير الدين على أنماط العيش والنظم القيمية الاجتماعية السائدة. لكن ذلك لا يعني انتفاء الدين من الوجدان الفردي، والمجال الاجتماعي العام.
أما العلمانية بفتح العين فإنها منفتحة على التحولات العالمية المعولمة، ومحمولة عليها، وتمثل عنواناً لجملة قوى وتحولات وتصورات ومؤسسات مفتوحة على التطور الاجتماعي والسياسي والمادي. أي إنها تحمل إمكانية علمنة الزمان والمكان، وما ينطوي بين دفتيهما من تنوع اجتماعي ثقافي وسياسي واقتصادي.
إن ما تحمله العلمانية من رؤية شاملة للمجتمع، يخالف ادعاء البعض بأنها تمثل فقط، فصل الدين عن السياسة، أو فصل دين عن الدولة، مع العلم أنّ كليهما لم يُحسَم في بلدان اشتغل زعماؤها على إضفاء الطابع التوفيقي على الدولة والحُكم. بهذا المستوى يواجه العلمانيون أولاً: أسلمة الدولة «الإسلام دين ودولة»؛ ثانياً: اعتبار الدين محرك المجتمعات العربية، وأنه المخرج الوحيد من أزمات كرسّتها أنظمة «علمانية»: قومية، ليبرالية؛ ثالثاً: جهات إسلاموية متطرفة تدَّعي تمثيل «المقدس الإلهي» لتحكم الشعوب من طريق فرض «الحاكمية الإلهية»؛ رابعاً: سلطات سياسية تعمل على توظيف الدين والعلمانية على السواء، لتمكين سطوتها السلطوية. ويسعى العلمانيون في السياق المذكور إلى نشر قيم اجتماعية وثقافية وسياسية حداثوية تحرر الضمير الإنساني والذات الفردية.

إننا أمام تناقضات متعددة أسهمت في تصدُّع المجتمع السوري

في ما يخص السلطة في سوريا، فإنها مارست كافة أشكال الانتهاكات والتمييز بحق مواطنيها، في وقت كانت تتستر فيه بعباءة العلمانية. وكان لذلك إضافة إلى التسهيلات التي وفّرتها السلطة في بعض اللحظات لنشاط رجال الدين والمؤسسات الدينية، دور كبير في التمدد الإسلاموي الدعوي السلفي. لكن الهامش المتاح لم يخرج عن سياق بنية السلطة الاحتكارية، وآليات اشتغالها الأمنية. وفي اللحظات التي كانت فيها السلطة «تحارب الفكر المتطرف المحمول على مجموعات تكفيرية»، فإنها كانت توظف ذلك لقمع التيارات العلمانية واليسارية، وكافة أشكال الحراك الاجتماعي المدني والسياسي الاجتماعي.
أما مسؤولية تيارات المعارضة السياسية اليسارية والعلمانية، فإنها تكمن أولاً: في تراجعها عن الاشتغال على بلورة هويتها الفكرية والسياسية. قابل ذلك اشتغال الإسلاميين على تمكين هويتهم في مواجهة قوى المعارضة والنظام؛ ثانياً: تخلّي بعض منها عن هويته الفكرية، أو استبدال هويات أخرى إسلامية بها. ومعلوم أن الحركات الإسلامية الجهادية، وتيارات أخرى إسلامية سلفية، اشتغلت في سياق الأحداث السورية على محاربة الفكر العلماني وملامح التحرر والتنوع الذي يزخر به المجتمع السوري، وأيضاً على تفكيك البنى الاجتماعية وإعادة توضيبها في إطار ديني متطرف محمول على حركات جهادية تكفيرية.
أخيراً، نشير إلى أننا أمام تناقضات متعددة أسهمت في تصدُّع المجتمع السوري وتآكل خيار علمانية الدولة، نذكر منها: أولاً، نظام سياسي يدَّعي علمنة الدولة والمجتمع، في وقت مارس فيه التوفيق بين الدين والدولة لشرعنة ممارساته السلطوية وتبريرها في سياق الدفاع عن السلطة والتمسك بها؛ ثانياً، هشاشة القوى السياسية المعارضة العلمانية واليسارية أمام عنف السلطة، ونهوض الحركات الإسلامية الجهادية؛ ثالثاً، هيمنة قوى التطرف، وبشكل خاص المجموعات الجهادية على المشهد السوري؛ رابعاً، اشتغال بعض الحكومات العربية وأخرى إقليمية على إضفاء الهوية الدينية / المذهبية على سياق التحولات التي يشهدها المجتمع السوري. لكن ذلك لا يقلّل من أهمية خيار الاشتغال على علمنة الدولة والحكم، لكونه يشكل خيار شرائح وفئات اجتماعية واسعة ترفض العنف المحمول على العقائد والأيديولوجيات الدينية والسياسية، وتتمسك بالحريات الدينية دون ربطها بالسياسة والدولة. ويندرج ذلك في سياق رفض ومواجهة ما يقوم به تنظيم «داعش» وأخواته من التنظيمات الجهادية من عنف مفرط لإقامة «دولة الإسلام».
* باحث وكاتب سوري