يقدّم الشيخ جعفر المهاجر، في مقالته التعقيبية المنشورة في «الأخبار»، العدد 3262 في 29 آب 2017، تحت عنوان «صلاح الدين أيضاً وأيضاً»، مساهمة قيِّمة وجديدة لتفسير المسلكية والعقلية القياديتين لصلاح الدين الأيوبي وبعض خصاله الشخصية. وهو تفسير قد يصلح لمقاربة شخصيات تاريخية أخرى مشابهة. وقبل الدخول في مناقشة شقَّيْ هذا التفسير، أودّ تكرار خلاصة التوضيح الذي نشرته في ردّ آخر قبل أيام على كاتب آخر هو السيد أحمد راسم النفيس، ويتعلق في جانب منه بقول الشيخ إنني سكتت عن الشطر الثاني ممّا تعهّدت به لقارئ حول التقييم الموضوعي لشخصية الأيوبي.
إن مردَّ ذلك هو أن ما نشرته في «الأخبار»، وعقّب عليه الشيخ المهاجر والسيد النفيس، مقالة واحدة من دراسة مطولة تقع في أكثر من عشرة آلاف كلمة، أنجزتها خلال السنة الجارية، ثم جزأتها إلى عدة مقالات لتسهيل نشرها في الصحافة، وفي الأجزاء الأخرى التي ستنشر قريباً، سيتأكد القارئ من أنني وفيت بوعدي وقدمت صورة واضحة وموثقة عن محاولة «التقييم الموضوعي لصلاح الدين». ولكي يأخذ القارئ فكرة عن دائرة الدراسة ككل، يمكنه أن يلقي نظرة على عناوين المقالات الخمس التي أرسلت إلى النشر كما قلت منذ بضعة أسابيع:
1) صلاح الدين الأيوبي بين الهجاء المذهبي والتقييم الموضوعي. 2) صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين. 3) صلاح الدين وأكذوبة الاستيطان اليهودي في فلسطين. 4) هل أحرق صلاح الدين المكتبة الفاطمية وارتكب مجازر إبادة؟ 5) صلاح الدين بعد انتصار حطين: تفكيك الهجاء المذهبي.

الشق الجدير بالتمعّن هو تفسير الفرق في السلوك السياسي والحربي بين شخصيات تلك الفترة

بالعودة إلى التفسير الذي قدمه الشيخ المهاجر، ألاحظ أنه جاء في شقين: الشق الأول يذهب إلى أن «ميزة صلاح الدين الأساسيّة التي صنعت مجده، أنّه كان ذرائعيّاً بكل ما للكلمة من معنى». لن أتوقف مطولاً عند هذا الشق على اعتبار اتفاقي من حيث الجوهر مع مضمونه، وعلى اعتبار ثانٍ هو أن الذرائعية بحد ذاتها ليست عيباً أو منقصة في سيرة القائد التاريخي وإنجازاته، سواء تعلق الأمر بالأيوبي أو بسواه؛ وإنما يُحْكَمُ عليها وعليه من خلال تطبيقاته العملية والأهداف التي حققها أو فشل في تحقيقها. وقد أوضح الشيخ بموضوعية الهدف الحقيقي لصلاح الدين الأيوبي من حروبه، ألا وهو «القضاء على الاحتلال الصليبي وإماراته العديدة» وليس القضاء على المسلمين الشيعة أو غيرهم كما يقول خطاب الهجاء المذهبي. أما الشق الثاني، والجدير بالتمعن والتمحيص، والذي لم يسبق الشيخَ المهاجرَ أحدٌ إليه من الباحثين المعاصرين على حد علمي، فهو تفسير الفرق في السلوك السياسي والحربي بين شخصيات تلك الفترة، ومن بينها صلاح الدين الأيوبي ونور الدين محمود الزنكي، بطبيعة انتمائها المذهبي المختلف داخل إطار المذاهب السنية نفسها. وأسجل أنني لست ملمّاً جداً بدقائق هذا الفرق، ولكني أعتقد بأهميته الفائقة في الدراسات التاريخية الحديثة. ويمكنني أن أضيف مؤيداً الشيخ في ما ذهب إليه بخصوص سلوك القادة والزعماء الأتراك، وخصوصاً في فترة لاحقة حيث قامت السلطنة العثمانية بإنهاء وجود العديد من المدارس والفرق والمذاهب و حاصرت وضيقت على بعضها، حتى لو كانت سنية، وأسست لأول مرة في تاريخ الدول الإسلامية مؤسسة دينية هي «مؤسسة شيخ الإسلام» وفق المذهب الحنفي ثم تبعتها الدولة الصفوية في بلاد فارس في ذلك. ولم يسلم من ذلك الحصار والتضييق والإنهاء الوجودي حتى الأشاعرة (وهم سلفيون كالعثمانيين إلا أنهم يبيحون استعمال الجدل العقلي الذي تحرمه بعض المذاهب في سجالاتهم مع خصومهم الفكريين والمذهبيين)، كما سجل ذلك الباحث العراقي الراحل هادي العلوي في إحدى دراساته التاريخية المشتركة مع كاتب هذه السطور.
إن هذا التفسير الذي خَلُصَ عبره الشيخ المهاجر إلى الاستنتاج الآتي «ما من دليل أبداً على ما يُشاع ويُذاع أن صلاح الدين اضطهد أحداً لأسبابٍ مذهبيّة»، وأدى في النهاية البحثية إلى نفي التهمة المذهبية بمحتواها السلبي عن صلاح الدين، هو تفسير موضوعي أتفق معه تماماً. وهو بالتالي والمآل ينفي أيضاً وتلقائياً التهمة الطائفية والعداء الراسخ للمسلمين الشيعة الذي يتهم به اليوم صلاح الدين الأيوبي، وهي كما هو واضح تهمة إسقاطية وباطلة علمياً، تحاول إقحام شخصيات تاريخية وظروف تاريخية سادت قبل ألف عام على واقعنا العربي الإسلامي الراهن اليوم، وقد أورد الشيخ المهاجر أمثلة عملية لا تدحض على ذلك من سيرة الأيوبي وعلاقاته بقادة جيشه ومستشاريه. وكان هذا هو الشاغل الرئيس لدراستي موضوع الحديث، وقد ذكرت فيها الدافع السياقي إليها كمثال واقعي على ما سميته الهجاء المذهبي وفرقت بينه وبين التقييم الموضوعي الذي أحاول تقديمه.
ومع ذلك، فمن غير الممكن تمديد هذه الاستنتاجات إلى درجة تبرئة صلاح الدين من عدد من التجاوزات ذات المضمون والباعث المذهبي والعقيدي، إنما بعد وضعها في سياقها التاريخي لفهمها لا لتبريرها. ومن ذلك ما توقفتُ عنده في دراستي من تجاوز خطير يرقى إلى مستوى الجريمة ذات المساس بأمور ومتعلقات المذهب والعقيدة، عنيتُ تحديداً مسؤولية صلاح الدين الشخصية عن إعدام الفيلسوف الصوفي العرفاني شهاب الدين السهروردي بناءً على مضبطة أفتى أصحابها وهم من مجموعة من رجال الدين في الشام بتكفيره. كذلك فإنني لم أبرئ صلاح الدين تماماً من ارتكاب عمليات إبادة - كانت سائدة وأقرب إلى التقليد الحربي المألوف عصر ذاك - بحق أعدائه (من غير الفرنجة الصليبيين) خلال الحروب التي انتصر فيها عليهم، وخصوصاً في قمعه للتمرد الفاطمي المسلح الذي انطلق من السودان.
في الختام، أشكر الشيخ المهاجر على تعقيبه المفيد والمُغْني هذا، وليعذرني عن الخطأ الطباعي في كلمة «غيظ» مع أنني شديد الحذر من هذا النوع من السقطات، وكنت قد قدمت مساهمة متواضعة في كتابي (المبسط في النحو والإملاء) الصادر عن دار الانتشار العربي - بيروت 2009، وفيه خصصت ملحقاً خاصاً لتسهيل ضبط الفرق بين الضاد والظاء، ولكن يبدو أن هذه المساهمة، لم تعصمني من الوقوع في السهو، ولكني سأكرر مع القائلين: سبحان من لا يسهو!
وأخيراً، فلم أتوقف عند الرد الثاني للسيد النفيس المنشور في العدد نفسه من «الأخبار» لأنه لم يأتِ بجديد، ولا أراني معنياً بمناقشاته لكتاب آخرين، إنما أشكره جزيلاً لاهتمامه بما كتبت.
* كاتب عراقي