يجندل نقاد الماركسية من الليبراليين البيان الشيوعي عبر أطروحة نقدية قاضية: لقد تنبأ ماركس في البيان وفي «رأس المال» بأولوية الثورة الاشتراكية في الغرب المتقدم والرأسمالي، لكن ما حصل حقيقة هو العكس. فقد اندلعت الثورات في الشرق المتخلف والمتأخر، فيما بقيت عواصم الرأسمالية الغربية مزدهرة ومستقرة، ولا تزال أكثر من أي وقت مضى.
قضي الأمر، يقول الليبراليون (جدد أو قدماء لا فرق) فلا تباشير للثورة الاجتماعية في لندن أو باريس أو واشنطن. هزم ماركس وانتصر التاريخ. ونظرية ماركس بمجملها ليست أكثر من «يوتوبيا» عفا عليها الزمان.
في مسألة من أهم المسائل التي أكبّ عليها ماركس وكرّس لها بحوثاً كثيرة، هي «المسألة الإيرلندية». لقد بحث في تاريخ السيطرة الإنكليزية على البلاد منذ عهد إليزابيث الأولى وقسم كبير من رأس المال يدور حول سير الاستعمار الإنكليزي في السيطرة على الجزيرة ودور ذلك كله في تسريع سير التراكم الرأسمالي الإنكليزي بشكل خاص. فنشوء الرأسمالية البريطانية ونموّها يرتبطان ارتباطاً حثيثاً بالنهب المنظم الذي حصل للجزيرة «الشهيدة» التي أبدى كل من ماركس وأنغلز تعاطفاً شديداً ودائماً مع نضالها التحرري القومي ضد الاحتلال البريطاني. والحقيقة أنه في منتصف القرن التاسع عشر كان للمسألة الإيرلندية وزن كبير في الحياة السياسية البريطانية، والاستعمار الإنكليزي لإيرلندا كان قضية سياسية ملتهبة في كل وقت، ما يفسّر الاهتمام المكثف الذي أولاه ماركس للمسألة. إلا أن دراسات ماركس وأبحاثه حول إيرلندا تقود اليوم إلى استنتاجات نظرية بالغة الأهمية، خاصة إذا ما أدركنا أن جوهر الماركسية الحيّ هو المنهج وليس النص.
إن تتبع أبحاث ماركس وأنغلز ومراسلاتهما حول المسألة يجعلنا نميز في الحقيقة بين مرحلتين: ففي سنة 1867 كانت جملة مراسلات ماركس وأنغلز في ما بينهما وفي مراسلاتهما مع كوغلمان تستند إلى منظور تقدمية الطبقة العاملة الإنكليزية وحياتها السياسية تجاه إيرلندا المتخلفة والمحتلة. فيلاحظ ماركس مثلاً «أن إيرلندا هي سبب سقوط الجمهورية الإنكليزية في زمن كرومويل». وفي رسالته إلى أنغلز في العام نفسه: «بعيداً عن كل جملة أممية وإنسانية حول العدالة تجاه إيرلندا... على الطبقة العاملة الإنكليزية أن تقتطع علاقاتها الحالية مع إيرلندا». فالتصور العام هنا، أنّ على الطبقة العاملة في إنكلترا (أي في المركز الرأسمالي والصناعي والاجتماعي المتقدم) أن تنتصر أولاً وأن تتحرر أولاً، وبعد ذلك فقط وإثر التحولات الاشتراكية في المركز الإنكليزي ستتحسن الأمور في «البلد الطرفي» (margin country) المحتل والمتأخر والخاضع للاستعمار. فرافع التقدم الاجتماعي (levier كما يسميه ماركس) هو في لندن وليس في دبلن. الدور القيادي هو للطبقة العاملة في البلد-المركز المتقدم وليس في البلد الطرفي-المتأخر. الثورة البروليتارية في لندن هي التي ستنقذ الطبقة العاملة الإيرلندية والشعب الإيرلندي من الاضطهاد القومي والرأسمالي الذي دام لقرون.

دراسات ماركس حول إيرلندا تقود اليوم إلى استنتاجات نظرية بالغة الأهمية


إلى هنا لا جديد. فهذه هي أطروحات ماركس التي يجندلها الليبراليين. فالتاريخ أثبت بما لا يقبل الجدل أن بروليتاريا دول المركز لم تنتفض ولم تتمرد ولم تنقذ نفسها ولا شعوب «الأطراف» المستعمرة، بل على العكس شاركت برجوازيتها إلى حد كبير المكاسب والامتيازات بما بات يعرف جيداً جداً خلال القرن العشرين بظاهرة «تبرجز الطبقة العاملة الأوروبية».
إلا أن حلقة خطيرة استجدت في مسار ماركس الفكري بدأت تظهر في عام 1870 تقريباً، ففي مذكرة خاصة إلى الجمعية الأممية الأولى يقلب ماركس الموازين على أسس تغييرات واقعية وموضوعية. في إيرلندا 1870 اضطهاد مركب (complex). اضطهاد اقتصادي ورأسمالي (وحتى شبه اقطاعي) متزامن مع اضطهاد قومي يجعل الطبقات الشعبية في إيرلندا أكثر ثورية وأكثر سخطاً بأضعاف مما هي عليه في إنكلترا. وبذلك يرصد ماركس تغييراً في موقع «النقطة الرافعة» للثورة الرأسمالية فيقول: «... وبناءً عليه، فإن موقف الجمعية الأممية من المسألة الإيرلندية موقف واضح. فمن أجل دفع الثورة الاجتماعية في إنكلترا، يجب توجيه الضربة الكبرى في إيرلندا». لقد بيّن ماركس معادلة جديدة في ظل ظرف متغير، فيصوغ معادلته الجديدة في المذكرة الخاصة نفسها على النحو الآتي: «الشرط الأولي لانعتاق الطبقة العاملة في إنكلترا (البلد المركز-center state) هو الثورة القومية التحررية في إيرلندا التي يجب أن تقود إما إلى انفصال كامل أو اتحاد حر ومتساوٍ على الأقل».
وفي رسالته في العام نفسه إلى أنغلز يقول: «كلما تعمقت أكثر في الموضوع، بدا لي بشكل أوضح أن الغزو الإنكليزي قد منع إيرلندا من التطور وأرجعها قروناً إلى الوراء»، ولتصبح إيرلندا مصدر الثروة الأول والرئيس للرجعية الإنكليزية مادياً وسياسياً (إذ ذكر أنغلز استخدام الطبقة الحاكمة الإنكليزية المسألة الإيرلندية كحجة من أجل إبقاء الجيش والحرس الملكي في حالة تأهب دائمة وميزانيات تسليح ضخمة، علماً أن استخدامه الأساسي كان لقمع إضرابات وانتفاضات الطبقة العاملة الإنكليزية داخلياً). الاستنتاج الثوري إثر هذا المنظور المتعمق الجديد يقول إن أي ضربة جدية ضد معاقل الرجعية والرأسمالية الإنكليزية يجب أن تبدأ من إيرلندا. إن الانتفاضة القومية الإيرلندية وتحررها من قبضة الاستعمار الإنكليزي من شأنه «تثوير» الطبقة العاملة الإنكليزية وإضعاف الرجعية الإنكليزية في آن واحد. فتحرر «الطرف» يحرم رأسمالية المركز الأرباح الإمبريالية والاستعمارية المضافة إلى القيمة الزائدة، ويجعل هذه الرأسمالية أقل قدرة على مشاطرة الأرباح مع طبقتها العاملة وأقل قدرة على «رشوتها» إن جاز التعبير، ما يؤدي إلى خلق وضع ثوري في بلدان المركز نفسها في نهاية الأمر كنتيجة رئيسية وحتمية.
فالاستنتاج الثوري العظيم والحلقة الأهم: «يجب أن نطبق القوة الرافعة في إيرلندا...». في الطرف وليس المركز. الثورة الاجتماعية والاشتراكية تبدأ في الأطراف وليس في مراكز الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية.
لقد خطى لينين خطوة إلى الأمام في هذا الطرح الثوري الجديد. في ظل الإمبريالية بات النظام الاجتماعي معولماً وعلاقة إنكلترا-المركز في مواجهة إيرلندا-الطرف اتخذت أشكالاً وأبعاداً جديدة في عصر الإمبريالية، وخاصة إثر الحرب العالمية الأولى (وأكثر بعد ثورة أكتوبر) لتصبح: الغرب-المركز المتقدم والرأسمالي والمحافظ في مواجهة الشرق – الطرفي المتأخر والمستعمر والثوري. لتنتقل رافعة وعتلة الثورة الاشتراكية والاجتماعية رسمياً إلى الشرق وإلى البلدان الطرفية في المنظومة العالمية الرأسمالية الحديثة كواحد من أهم استنتاجات الماركسية الكبرى. وقد استحالت إيرلندا في القرن العشرين إلى روسيا... ثم الصين وفييتنام واليوم في القرن الواحد والعشرين إلى أميركا الجنوبية والعرب وأفريقيا، فهذه هي «الأمم الطرفية» في العصر الحديث. وفيها بالضبط تقبع عتلات الموجة الثورية الاجتماعية الجديدة التي من المفترض أن ترسم خرائط عالمية جديدة.
* كاتب سوري