الشيخ جعفر المهاجر
(1)


قرأت مقالةً للكاتب العراقي المعروف علاء اللامي تحت عنوان «صلاح الدين الأيوبي بين الهجاء المذهبي والتقييم الموضوعي» (الأخبار17/8/2017 ، ص 10ـــ11)، فرأيته قد قال حقاً في ما هو تحت عنوان «الهجاء المذهبي» (والمديح المذهبي أيضاً، وإن لم يقُل ذلك).

ولكنه سكت عن الشطر الثاني ممّا تعهّد به لقارئه، فلم أرَه يُفصح عمّا يصحّ أن يُسمّى «التقييم الموضوعي» لصلاح الدين، صارفاً جهده إلى استنكار «الهجاء السياسي الفارغ من أي مُحتوى رصين، وليس له هدفٌ سوى التنفيس عن الغيض» (يقصد: الغيظ. والفرق بين الضاد والظاء مشكلة المشكلات في القلم العراقي). هذا كلامٌ صحيح إجمالاً، ومع ذلك لا يمكن أخذه بوصفه تقييماً موضوعياً خالياً من الأغراض لصلاح الدين. لذلك، رأيت أن من المفيد أن أُضيف إلى ما أتانا به ما يسدُّ موضع النقص في ما تعهّد به، وبذلك أكون قد وضعتُ في حسابه الجاري هبةً مجانيّةً، تُبرئ ذمته تجاه قارئه. ولا يُحمَدُ إلا الله.

(2)


من المؤكّد أن صلاح الدين لم يكن ملاكاً لا عيب فيه ولا مأخذ عليه. بدأ ضابطاً صغيراً بخدمة نور الدين محمود زنكي، السلطان التركي ذي السّطوة. أما هو فكان من الكُرد، ذلك الشعب الذي لم يدخل في الدماء، ولم يسعَ إلى بناء سُلطة على قاعدة عسكريتاريا مُحترفة، كما فعلت الشعوب التركيّة. وعن هذا الطريق بنت دُولاً، لا يزال بعضها قائماً، على رأسها طبعاً الدولة التركيّة اليوم، بالإضافة إلى الجمهوريّات التركيّة في آسية الوسطى. أمّا الكُرد فغاية ما فعلوه في هذا النطاق أن يكون منهم ضباطٌ صغار، مُلتحقين بخدمة أمير أو سلطان تركيٍّ كبير. من هؤلاء صلاح الدين، الذي التحق بخدمة نور الدين كما قُلنا، بمَن حوله من عشيرته الصغيرة وبني قُرباه. وعن هذا الطريق نجح في أن يبني الأسرة الكردية الوحيدة الحاكمة في تاريخنا، التي كانت أشبه بجُملةٍ مُعترضة بين التُّرك من قبلها وبعدها. ومن هؤلاء بفاصلٍ زمني العثمانيون من بعدها. أمّا كيف فعل ذلك، فتلك قصّةٌ تستحقّ أن تُروى، لِما فيها من فصْل الخطاب في ما يخصُّ إشكاليّة البحث.

(3)


ميزة صلاح الدين الأساسيّة التي صنعت مجده، أنّه كان ذرائعيّاً (براغماتيّاً، لمَن تُعجبهم العبارات الأجنبيّة) بكل ما للكلمة من معنى. وضع لنفسه ولمَن اتّبعه هدفاً مُعلناً هو القضاء على الاحتلال الصليبي وإماراته العديدة، تماماً كما فعل وليُّ نعمته نور الدين. لكنّ الفرق الفارق بين الاثنين أن نور الدين كان تركيّاً، وككلّ الأتراك كان حنفيّ المذهب على الطريقة التركيّة في التمذهب. مُشكلة الشعوب التركيّة، التي لا تزال عالقةً حتى اليوم، أن خبرتهم في الإسلام انحصرت وحاصرتهم في المذهب الذي صادف أن عرفوا الإسلام من خلاله.

من المؤكّد أن صلاح الدين لم يكن ملاكاً لا عيب
فيه ولا مأخذ عليه

ومن هنا، فإن نظرتهم إلى المذاهب الأُخرى غيريّة دائماً، وإن بدرجاتٍ مختلفة، تبدأ بحرمان غير الحنفي من الوظائف الدينيّة (الفتوى، القضاء، الولاية على الأُمور الحسبيّة)، وانتهاءً بإخراج غير أتباع المذاهب الثلاثة الأُخرى من الملّة. ومن هؤلاء طبعاً الشيعة بكافة اتجاهاتهم، ومن ذلك أن نور الدين عندما عرض عليه الملك الأفضل أمير الجيوش في الدولة الفاطميّة، وهو شيعيٌّ إمامي، أن يضع يده بيده ضدّ المُحتلّين الصليبيين، رفض ذلك رفضاً قاطعاً بعد تكرار العرْض، لأنّه لا يضع يده بيد شيعي، حتى قِبال العدو المُشترَك. ولنُسجّل أن هذه أوّل مرّة تُعلن فيها في الإسلام صراحةً سياسةٌ عُليا قائمةٌ على تصنيفٍ مذهبيٍّ بهذه المثابة من الحَدّيّة.
أمّا صلاح الدين فقد فتح ذراعيه لكلّ مَن أتاه مُحارباً للصليبيين، من دون أدنى اعتبار إثنيّ أو مذهبيّ. والحقيقة أن عسكره كان تجمُّعاً لجيوش، لكلٍّ منها أميره، لا يتقدّم إلى القتال إلا بأمرٍ منه. القرارت القتاليّة التكتيكيّة تؤخذ في مجلسٍ عسكري، يضمّ أُمراء الجيوش، طبعاً برئاسة صلاح الدين. كان هو شافعيّاً، كأكثر أبناء البيت الأيوبي، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يكون أُمراء جيشه من غير مذهب. بل كان أعلاهم شأناً في أيامه الأخيرة قبل وفاته أميرٌ شيعيٌّ عامليّ، هو الأمير حسام الدين بشارة الغسّاني.
ذرائعيّة صلاح الدين تبدو لنا بكامل الوضوح في أن أحد أبنائه، أبو الفتح غازي، الذي سيُعرَف في ما بعد بالملك الظاهر، كان شيعيّاً، فولّاه على حلب التي كانت في ذلك الأوان آهلةً بالشيعة. وعيّن له شحنة (مسؤولاً عن الأمن، أو كما نقول اليوم رئيساً للشرطة) ضابطاً شيعيّاً، هو نفسه الذي غدا في ما بعد الأمير حسام الدين بشارة، بعدما أثبت وعسكره كفاءةً في ميدان القتال، خصوصاً في معركة حطّين الفاصلة، ثم في معارك أُخرى منها معركة قلعة الطور قرب عكّا. ثم أنه ما من دليل أبداً على ما يُشاع ويُذاع أن صلاح الدين اضطهد أحداً لأسبابٍ مذهبيّة، بل إن القارئ اللبيب يستطيع أن يرى بسهولة أن ذلك يتناقض مع العنصر الأساسي من سياسته، وعبّرنا عنه أعلاه بأنه ميزته الأساسيّة، الذي يدين له بكلّ إنجازاته.

(4)


تلك هي إجمالاً الصورة الصادقة لصلاح الدين، بعيداً عن الأهواء والإسقاطات الناشئة من ميول ذوي الميول. ومن الغنيّ عن البيان أن أُنموذجه التوحيدي، الذي يُزيح جانباً عوامل الفرقة، لحساب ما يجِب أن يكون الأمر الجامع في الرأي والموقف، هو ما ينقصنا اليوم.
ومع ذلك فإننا نُكرّر ما قلناه أعلاه، أنه لم يكن بريئاً ممّا يُشين. في رأس ما يؤخذ ويُؤاخذ عليه، أنه وقع في الخطيئة القاتلة التي لم يتحرّر منها العقل العربي حتى اليوم، هي النظر إلى السُلطة بوصفها تركةً شخصيّة، أي أن التقرير بشأنها يعود لصاحب التركة. ومن ذلك، أنه ما أن شعر بقُرب أجله حتى وزّع مملكته الشاسعة إقطاعاتٍ على أبنائه، مع حصةٍ وازنةٍ لأخيه الداهية الشّره الملك العادل. وبذلك، أسّس ضمناً وبالضرورة مسلسلاً من الصراعات الدامية بين الورثة من أبناء البيت الأيوبي، ضربت على غير إنجازٍ من إنجازات سيّدها المؤسس، وعجّلت بانهيار الأُسرة إلى أن بادت.