في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، نشرت صحيفة «الحياة» السعوديّة في قسم «ثقافة ومجتمعات» مقالاً بعنوان «الجهاديّون الإرهابيّون في أوروبا: ما مصادرهم وأيّ أفق هناك؟» ممهوراً بتوقيع حازم صاغيّة.
يُقدّم المقال ما يُفترضُ أنّها قراءةٌ في كتاب «الجهاد والموت» للمفكر الفرنسي أوليفييه روا، وهو كتاب يقارب بطريقة مختلفة موضوعة جهاديي الغرب: دوافعهم، ثقافتهم، ومنطلقاتهم...إلخ. أوّل ما يسترعي الانتباه في المقال المذكور تطابق جزء كبير من فقراته مع نظيرات لها وردت في سياق عرض مطوّل للكتاب خطّه كاتبه (روا) ونشرته صحيفة «الغارديان» البريطانيّة في نيسان الماضي في إطار مشروع «the long read». جاء عرض «الغارديان» موسوماً بعنوان «Who are the new jihadis؟».
ومن نافلة القول إن إيراد فقرات من كتابٍ ما خلال تناوله «نقداً» أو «عرضاً» هو أمرٌ مألوف وطبيعي، غير أن واحدة من أبرز المشكلات التي تواجه القارئ المُقارِن أنّ ما نُشر في «الحياة» لم يميّز بأيّ طريقة ما بين كلام كاتب المقال، وبين كلام مؤلف الكتاب: لا وجود لعلامات اقتباس، أو مفاتيح من قبيل «يقول الكاتب..» أو «يرى الكتاب» أو ما شابه من الإشارات المفتاحية المتعارف عليها. فمن يقرأ مقال «الحياة» سيظنّ نفسه أمام خطاب «مستقل» استند كاتبه إلى كتاب روا، لا قامَ بنسخ كثير مما ورد فيه. لدى مقارنة الفقرات المتطابقة سيخيّل للقارئ أنّ النسخة العربيّة مترجمة حرفيّاً عن النسخة الإنكليزيّة، على أنّ التماهي الكبير بين النسختين لم يكن مطلقاً. فرغم أن نسخة «الحياة» تبدو أشبه بإعادة تركيب نسخة «الغارديان» عبر تقديم فقرات وتأخير أخرى، وحذفٍ هنا وإضافات هناك، لكن القارئ المتمعّن سيكتشف أن مقال «الحياة» قد اجتزأ جملاً هامّة من سياق فقرات. وعلى سبيل المثال نقرأ في النسخة الإنكليزيّة «ومن الشائع جدّاً النظر إلى الجهادية كامتداد للسلفية. ليس كل السلفيين جهاديين، ولكن كل الجهاديين من المفترض أنهم سلفيون، وبالتالي فإن السلفية هي البوابة إلى الجهادية». بينما نقرأ عند صاغيّة «ومن الشائع النظر إلى الجهاديّة كامتداد للسلفيّة. لكنْ لئن لم يكن كلّ السلفيّين جهاديّين، فكلّ الجهاديّين يُفترض أنّهم سلفيّون» فحسب.

القارئ المتمعّن سوف
يكتشف أن المقال قد اجتزأ
جملاً مهمّة

ونقرأ في موضع آخر من النص الأصل «لقد غلب على الجهاديّين حتّى أواسط التسعينات، كونهم شرق أوسطيّين يتوجّهون إلى أفغانستان ويعودون، منذ سقوط الشيوعيّة الأفغانيّة في 1992، إلى بلدانهم أو إلى بلدان أخرى، للمضيّ في الجهاد. هؤلاء هم الذين شنّوا الموجة الأولى من الضربات «المعولمة» (عمليّة المركز التجاريّ العالميّ في 1993 والسفارات الأميركيّة شرق أفريقيا في 1998 ومدمّرة كول في 2000)، وشكّلوا جيل الجهاديّين الأوَل. تم توجيه هذا الجيل الأول من الجهاديين من قبل بن لادن ورمزي يوسف وخالد الشيخ محمد». فيما تنتهي الفقرة عند صاغية مع جملة «وشكلوا جيل الجهاديين الأول»، ليغيب ذكر بن لادن وأقرانه. كذلك تتحوّل جملة «ولم تفكر جمهورية إيران الإسلامية بعد ثورتها أبداً في تفجير بيرسبوليس» لدى روا، إلى «أو في خمينيّي إيران ممّن لم يفجّروا بيرسيبوليس» لدى صاغيّة. لكنّ كل ما تقدّم لا ينفي وجود فقرات «مؤلّفة» في مقال «الحياة»، تستلهم نهج الباحث الفرنسي لتضيء على ظواهر «عالمثالثيّة»، وتطيح باليسار حيناً وباليمين حيناً وبظاهرة «من ثمار التركيب اليساري – الإسلامي» وهي وفقاً لصاغيّة «حزب الله». ثمّة مشكلة جوهريّة في هذا «الاستلهام» قوامُها أن الباحث الفرنسي إنّما أفرد كتابه لتناول ظاهرة «الجهاديين الغربيين»، مستنداً إلى حالات ونماذج من أولئك «الجهاديين» تناولَها بحثاً وتمحيصاً، ليخلص إلى استنتاجات (تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب) من مثل أنّ «أولئك ليسوا سلفيين»، وأنّهم يمثّلون ظاهرة «شبابيّة» أكثر منها «جهاديّة». لكنّ هذا لا يعني في حال من الأحوال أنّ «داعش» ليس سلفيّاً كما يوحي مقال «الحياة»! ولا أنّ «ظاهرة الجهاديّ الإرهابيّ» بعمومها هي ظاهرة «حديثة أكثر بكثير ممّا هي ظاهرة تديّن. وفي خلاصة اشتغاله على سِيَر العشرات، يستنتج (روا) أنّها حركة شبابيّة أساساً، تتّصل بثقافة الشبيبة». وليس من الواضح أيضاً إلامَ استند كاتب المقال ليخلص إلى نتيجة مفادُها أنّ «التقاطع الكبير حتّى التماثل، بين الجهاديّ والإرهابيّ، إنّما حصل لاحقاً مع الحرب السوريّة»، ناسفاً ببساطة غريبة اعتداءات الإخوان المسلمين والطليعة المقاتلة في ثمانينيات سوريا، وعشريّة الجزائر السّوداء، (1991 – 2002)، وحقبة أشدّ سواداً عاشها العراق في ظل الاحتلال الأميركي دفع أبناؤه ثمنها دماء كثيرة سالت في تفجيرات إرهابيّة طاولت كلّ شيء. أضف إلى ذلك أن «الخطاب القيامي» لم يغب عن تنظيم «القاعدة» كما يقول صاغيّة مستشهداً بحديث «دابق» وحضوره لدى «داعش». وربّما فات الكاتب أنّ أبرز ذكرٍ «قاعدي» لـ«دابق» كان قد ورد عام 2004 على لسان أبو مصعب الزرقاوي «وها هي الشرارة قد انقدحت في العراق، وسيتعاظم أوارها بإذن الله حتى تحرق جيوش الصليب في دابق». والزرقاوي كما هو معروف، مؤسس فرع «تنظيم القاعدة» في العراق، والذي كان نواةً لتنظيم «الدولة الإسلامية».
والواقع أن «داعش» ليس سوى «تطوّر طبيعي» لـ«القاعدة»، إذ يتشارك الاثنان «أدبيّات» واحدة بدءاً من تأصيلات ابن تيميّة، وصولاً إلى «إدارة التوحش» لأبو بكر ناجي. وحتى «الفتاوى» التي تجاوز فيها «داعش» نظيره لم تنبع من فراغ ولم يتمّ ابتكارُها، والحديث هنا تحديداً عن إجازة «هجرة المرأة من غير محرم». (وهو غلطٌ وقع فيه في الأصل أوليفييه روا، وتبنّاه صاغيّة بدوره فأثبته في «مقاله»). فقد استند «داعش» في إجازة «هجرة المرأة إلى دولة الخلافة من دون محرم» إلى آراء «نخبة من العلماء» ومن بينهم «شيخ الإسلام» ابن تيميّة، حيث يقول شمس الدين بن مفلح في كتابه «الفروع في الفقه الحنبلي» ما نصّه «وعند شيخنا تحج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم، وقال: إن هذا متوجه في كلّ سفرِ طاعة». وها هو الداعية السعودي صالح المنجد (تلميذ ابن باز) على سبيل المثال يفتي قبل ظهور «داعش» بعامين بأن «العلماء استثنوا من ذلك السفر الواجب المتعيِّن على المرأة، كالهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام».
أخيراً، ثمّة كثيرٌ مما لا يتسّع المجال لنقاشه في مقال صاغيّة، لكن لا بدّ من المرور ولو سريعاً على نقطة بالغة الأهميّة وهي أن «الجهاد الأفغاني ليس إرهابيّاً بالضرورة» استناداً إلى أن «المحيطين بعزام لم يلجؤوا إلى الإرهاب أو العمليات الانتحاريّة، ولم يتعقبوا دبلوماسيين أو مدنيين سوفياتاً». ويلزم للخوض في هذا التفصيل نقاش مطوّل حول مستحقي صفة إرهابيين (هل هم الذين يفجرون أو يستهدفون دبلوماسيين ومدنيين غربيين فقط؟) ومن شأن هذا أن يقود إلى البحث في خصائص الإرهاب، بما في ذلك إرهاب الدول والأنظمة (عموم أنظمة المنطقة، ومن بينها تلك التي خلا المقال من أيّ ذكر لها). لكن لا بأس من الإشارة على عجل إلى تفصيل جوهري يتعلق بعزّام ورفاقه مفادُها وجود كلام كثير عن أنّ عزّام اضطرّ إلى منع استخدام الانتحاريين في «الجهاد الأفغاني» بضغطٍ من المموِّلين والمُسلِّحين (السعودية والولايات المتحدة) خشية استشراء الظاهرة في المنطقة (بما في ذلك الأراضي الفلسطينية المحتلة).