في هذا الوقت الذي تتصاعد فيه حدّة الخطابات بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، وتهديدات واشنطن بمسح الدولة الشيوعية عن الخريطة، ورد بيونغيانغ بتهديد مضاد، من المفيد العودة إلى التاريخ وقراءة نتائج استعمال واشنطن القنبلة الذرية ضد اليابان، حيث يسود رأي بأن تلك الخطوة قادت إلى النتيجة، أي استسلام طوكيو غير المشروط لواشنطن.
عدد من أهل الاختصاص قرأوا الأحداث السابقة لإلقاء القنبلتين الذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي يومي 6 و9 من شهر آب 1945، وتوصلوا إلى استنتاجات مخالفة للرأي السائد وعزوا قرار طوكيو بالاستسلام غير المشروط لواشنطن لسبب آخر سنعرضه لاحقاً.
بالنظر في مسار الحرب الأميركية على اليابان، من الضروري التذكير بأن مدن الأخيرة كانت تشهد غارات جوية غاية في العنف على مدنها، إذ دمّرت نحو 68 منها إما جزئياً أو على نحو كامل، ما أدى إلى مقتل نحو 300000 مدني وجرح نحو 750000 وتشريد نحو مليوني نفس. المقصود هنا أن تدمير المدينتين بالقنابل الذرية لم يأت بجديد، من منظور القيادة اليابانية. فعلى سبيل المثال، في الأسابيع القليلة السابقة لجريمة هيروشيما وناغازاكي، هاجم سلاح الجو الأميركي 26 مدينة دّمر خلالها نحو ثلثها.
إضافة إلى ما سبق، كان الجيش الياباني لا يزال في حالة جيدة بتوافر نحو أربعة ملايين جندي تحت السلاح، وأيّ غزو أميركي لأراضيه سيكلف الغزاة أعداداً لا تحصى من الخسائر، حيث كان أكثر من مليون جندي ينتظرهم على شواطئ الجزر اليابانية الرئيسة. كما كانت اليابان لا تزال تحتفظ بمعظم مستعمراتها في منشوريا وكوريا وتايوان والهند الصينية وما كان يسمى آسيا الهولندية، إضافة إلى مدن الصين الرئيسة.
من المعروف والموثّق تاريخياً أن «المجلس الأعلى» الياباني اجتمع في التاسع من شهر آب واتّخذ قراراً بالاستسلام غير المشروط لواشنطن قبل تسلّمه تقريراً عن نتيجة قصف ناغازاكي، أي إن قصف هيروشيما بالقنبلة الذرية في 6 آب لم يؤثر في القيادة اليابانية، بل حتى أن المجلس الأعلى في اليابان الذي كان يقود البلاد لم يجتمع حتى التاسع من آب قبل قصف ناغازاكي، واتُّخذ القرار بالاستسلام غير المشروط. هذا يعني أن قصف المدينتين لم يؤدِّ إلى مراجعة القيادة اليابانية موقفها الرافض لمطالب واشنطن بالاستسلام غير المشروط، وقصف هيروشيما لم تنظر القيادة اليابانية إليه على أنه أمر طارئ يستدعي اجتماعاً فورياً للمجلس الأعلى.
هنا نود التنويه إلى حقيقة أن الاتحاد السوفياتي كان حتى الرابع من آب 1945 محايداً ملتزماً باتفاقية الحياد مع طوكيو التي وقعاها عام 1941، ولم يعلن الحرب حتى التاسع من الشهر ذاته.
أهل الاختصاص الذين درسوا تلك التطورات عن قرب وصلوا إلى نتيجة أن القيادة اليابانية كانت تحاول التوصل إلى إنهاء الحرب باتفاق مع واشنطن، يسمح لها الاحتفاظ بنظامها الإمبراطوري، وبمستعمراتها آنفة الذكر، أو بقسم منها. وهي كانت تأمل أن تتمكن من إقناع موسكو بممارسة دور الوسيط مع واشنطن لهذا السبب. لكن دخول الاتحاد السوفياتي الحرب على اليابان في التاسع من آب، وكان قد أعلم القيادة اليابانية بإنهائه اتفاقية الحياد، واقتحام قواته منشوريا وسخالين، التزاماً بتعهد ستالين لروزفلت، قضى على آمال طوكيو في نهاية دبلوماسية للحرب، وأقنع المجلس الأعلى بضرورة قبول شرط واشنطن لإنهائها.
تحليلات الاستخبارات اليابانية كما نعرفها الآن بينت أنها كانت على قناعة بأن القوات السوفياتية ستدخل الأراضي اليابانية خلال عشرة أيام من شنها الحرب، مقارنة بمدة أشهر تحتاج إليها القوات الأميركية. و«المجلس الأعلى» المجتمع في حزيران 1945 وصل إلى نتيجة أن دخول الاتحاد السوفياتي الحرب على اليابان سيعني نهاية الإمبراطورية اليابانية ونظامها المقدس.
هذه حقائق معروفة للقيادات الأميركية واليابانية، لكن ما سبب تمسكهما برواية أن استعمال السلاح الذري هو الذي أجبر اليابان على الاستسلام غير المشروط!
ثمة أسباب عديدة يذكرها البحاثة، منها على سبيل المثال رغبة اليابان الحفاظ على نظامها الإمبراطوري المقدس حيث سيقال وقتها إن سبب إذلالها ليس قرار إمبراطورها البدء بحروب عدوانية انتهت بخسارة فادحة، وإنما القنابل الذرية.
وفي الوقت نفسه، لطوكيو مصلحة في الرواية السائدة حيث تظهر وكأنها ضحية، مع أنها شنت حروباً عدوانية وحشية وهمجية على جيرانها مارست فيها مختلف الجرائم والفظائع. كما وجدت أسباب لواشنطن في الترويج لفكرة أن القنبلة الذرية هي التي جلبت استسلام طوكيو غير المشروط، ما يبرر المليارات التي أُنفقت لتطويرها. كذلك، إن واشنطن لم تكن لديها رغبة في الاعتراف بأن الاتحاد السوفياتي هو الذي حسم الحرب في أوروبا وشرقي آسيا، وكان العامل الأساس في هزيمة دول المحور.