إن الكلابَ ملوكٌ والملوك دمى، والأرضَ تحت جيوشِ الروم تنْجرف(محمد عفيفي مطر،
احتفالات المومياء المتوحشة)


بعض الأفكار تنتشر مثل الشائعات، لا تستند إلى منطق أو حقائق بقدر ما تعتمد على البساطة الضحلة في الإقناع، ومنها أفكار «الملكيين الجدد» في مصر الذين يحاولون قراءة التاريخ بناء على نتائجه فيُرجعون ما تعانيه مصر من انحدار شامل إلى ثورة «23 يوليو»، مستعينين بتأطير ليبرالي خاطئ حول «نظام يوليو» الذي يساوي بين ثورية وتقدمية جمال عبد الناصر مع تبعية ورجعية عبد الفتاح السيسي.

ويحدوهم الأمل العاجز في عودة الملكية التي يصفون حقبتها بالعظمة، أو «الزمن الجميل»، ولم تعد تلك الرومانسية قاصرة على أبناء الطبقة العليا بل شقت طريقها إلى أبناء الطبقة الوسطى بل وحتى أبناء «الفلاحين» الذين استفادوا من التعليم المجاني، ليجسدوا جميعاً حالة من الهروب الوهمي من قسوة الهزيمة الشاملة التي تحياها البلاد. حين يعجز الإنسان عن تغيير واقعه يلجأ إلى الماضي باحثاً عما يظنه مجيداً، يحن إليه ويحلم بعودته، لكن موازين القوى في الواقع وإن سمحت بمثل هذا الهروب النفسي إلا أنها تقف كالقَدَر في سبيل تحقيق أوهامه، كما أن لحقائق التاريخ رأيها الذي لا يخضع دائماً للإسقاطات على الواقع.

أسطورة الريادة

ينتظم حجاج «الملكيين الجدد» حول رؤية بسيطة مفادها أن مصر كانت رائدة ومزدهرة على كل المستويات بفضل الملكية التي منحت الشعب الدستور والحرية والحياة البرلمانية ـ المفتقَدة الآن. إلى أن سطا على الحكم جمال عبد الناصر الذي يوصف على نطاق افتراضي واسع بـ«ابن الجنايني» الذي ليس لديه خبرة في الحرب أو السياسة أو الاقتصاد، بل فقط في الخطابة وبناء السجون. أما الملكية فقد رعت الثقافة والتعليم، وفي ظلها كانت أخلاق الناس «مثالية»، وأن الموضة في حينه كانت تبدأ في القاهرة الكولونيالية قبل أن تظهر في باريس، وكانت شوارع وسط القاهرة تغسل بالماء والصابون حتى تبدو كالمرآة، كما أشاع الروائي الليبرالي علاء الأسواني (الذي أفتى* أثناء انتخابات 2012 بأن يكون صوت المتعلم بثلاثة أصوات للفلاحين) في روايته «عمارة يعقوبيان» التي تحولت إلى فيلم سينمائي حاز على أضخم إنتاج في تاريخ السينما المصرية، وهو فيلم يرثي حال «الأرستقراطية المجيدة» ويندد بمدى الانحدار الذي أفرزته الدولة الوطنية.
وتُعقد دائماً المقارنات بين عصر الملكية وحاضرنا الحالي، وليس مع عهد عبد الناصر، مثلما يفترض أي منطق. ويجري في هذا السياق «غسل» سمعة الملك فاروق لإثبات «عظمته المغدورة» وتواضعه اللافت و«نبله» حين رفض إعدام الضباط الثائرين، وكأنه كان في يده فعل ذلك وترفّع عنه. هذا مع تشويه دائم لعبد الناصر عبر تحميله مسؤولية كل ما جرى قبل وفاته وبعدها. ولا يخلو الحال من بكائيات على الملك «الذي خانه شعبه»، وهو الآن يدفع من خيانته مضاعفاً، ولا من إشهار الخيانة وتحدي أبسط بديهيات الكرامة الوطنية من خلال الندم على طرد الإنجليز الذين ينسب إليهم الفضل في كل شيء جميل في مصر.
وتحوَّل فليم «رد قلبي» المأخوذ من رواية ليوسف السباعي بالعنوان نفسه، وبطولة شكري سرحان «علي» ومريم فخر الدين «إنجي» إلى ساحة نقاش تعقد مع كل ذكرى للثورة أو لناصر. وصار بطل الفيلم، علي «إبن الجنايني» رمزاً لعبد الناصر وإنجي حبيبته رمزاً لمصر الملكية، التي سلّمت نفسها لأحد «أبناء الرعاع»، وينتهي المبتلون بالحنين إلى الملكية بأن إنجي لو كانت سمحت لأخيها الأرستقراطي بقتل «إبن الجنايني»، لما وصلت مصر إلى هذا المستوى من التدهور.

أرشيف القهر

ما يتم إغفاله في هذا الصخب الموسمي، هو أن الأسرة العلوية تورطت في جلب الاحتلال إلى مصر، ففي 14 أغسطس/ آب 1882، ألقى الخديوي توفيق خطاباً يرحب فيه بالاحتلال الإنجليزي لمصر، قائلاً: «إن قائد الأسطول الإنجليزي وقائد الجيوش البريطاني العام إنما أتيا إلى مصر لإعادة الأمن والنظام إليها»، وفي 25 سبتمبر/ أيلول من العام نفسه دخل الخيديوي القاهرة في حماية خمسة آلاف عسكري إنجليزي، لتدخل البلد عصر الاحتلال.
وتحت ظلال الملكية كان الاستعمار يهندس الاقتصاد المصري لتصبح البلد مزرعة قطن كبيرة تمد مصنع مانشستر بالقطن عالي الجودة رخيص السعر. فبحسب تيموثي ميتشل، في كتابه «استعمار مصر»، إن صادرات القطن كانت تمثل 93% من الصادرات المصرية عام 1914، ويشير الشهيد شهدي عطية، في كتابه «تطور الحركة الوطنية المصرية 1882 – 1956»، إلى أن مصر صدّرت عام 1870 نحو ثلاثة ملايين وربع مليون قنطار من القطن بسعر ثلاثة ملايين وربع مليون جنيه، بينما صدرت مصر عام 1898 نحو ستة ملايين ونصف مليون قنطار بسعر ثلاثة ملايين ونصف مليون جنيه، أي ضعف مقدار القطن مقابل كمية النقود نفسها، ولتحقيق ذلك ركَّز الاستعمار ملكية الأرض في يد فئة قليلة إقطاعية من المتعاونين معه، بالإضافة إلى شركات الرهن العقاري التي تخصصت في إقراض متوسطي الملّاك وصغار الفلاحين وتحصيل فوائد فاحشة على الديون كثيراً ما كانت تصل إلى مصادرة الأراضي، وقد وصل عدد العمال الزراعيين الذين لا يملكون إلا قوة عملهم، كمأجورين في العِزَب والإقطاعيات، إلى نحو مليون ونصف مليون عامل.
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، صادر الإنجليز الحاصلات الزراعية ودواب الفلاحين وبالغوا في جمع الضرائب، وجنّدوا مليون فلاح وعامل لخدمة جنود الإمبراطورية والقيام بحفر الخنادق وبقية الأعمال الشاقة بدلاً منهم، وبحسب المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي، فإن هؤلاء «كانوا يربطون بالحبال عند تجنيدهم، ويسامون كالأنعام، وينقلون في مركبات الحيوان». أعلنت الحماية البريطانية على مصر وألغيت وزارة الخارجية وعطلت الجمعية التشريعية ووضعت البلد بأكملها تحت الأحكام العرفية، وهو ما يكشف لمن كانت السيادة.

ملح الأرض

في الوقت الذي كانت فيه مشربيات الأرستقراطية تصدح بالزغاريد ابتهاجاً بقدوم الإنجليز وهزيمة عرابي «الفلاح المتمرد»، كان الفلاحون كما يروي سيد عشماوي في كتابه «الفلاحون والسلطة» يغنون «الله ينصرك يا عرابي»، وحين هزم قائدهم كانوا يصيحون «الولس خان عرابي»، في إشارة إلى الأسرة الملكية، وقد دخلوا في مواجهة شاملة مع الإنجليز، حتى كادت الحكومة أن تضع الوجه البحري بمجمله تحت الأحكام العسكرية كما يقول سليم النقاش في كتابه «مصر للمصريين».
ويذكر ميتشل أن الاحتلال شكَّل «لجان قطع الطرق» لسحق الجماعات المسلحة في الريف ولجأ إلى شن الغارات العسكرية واستخدام البوليس السري والمرشدين والسجن الجماعي حتى امتلأت سجون البلاد بأربعة أضعاف طاقتها.
وحين انتقلت قيادة الحركة الوطنية إلى سعد زغلول، الذي عرض عليه لينين أن يمده بالسلاح فرفض، وعوّل على الرئيس الأميركي ويلسون الذي أعلن في يناير/ كانون الثاني 1919 «أن لكل شعب الحق في تقرير مصيره» وكان ذلك التصريح بمثابة رد فعل على نجاح الثورة الشيوعية في روسيا التي تعهدت بمناصرة كل القوى التحريرية في العالم، فأرسل له زغلول تلغراف ليعرض عليه قضية مصر التي يتسلط عليها الإنجليز، لكن الرئيس الأميركي أعلن دعمه للحماية البريطانية على مصر.

هناك فكرة أنه في ظل الملكية أخلاق الناس كانت «مثالية»

حاول سعد زيارة لندن لعرض قضية الاستقلال على الرأي العام الإنجليزي فاعتقلته قوات الاحتلال، فلم يجد وراءه سوى الطلاب والعمال وصغار الموظفين الذين خرجوا في تظاهرات حاشدة وانضم إليهم طوفان من الفلاحين، وضع المتظاهرون المتاريس في الشوارع لعرقلة سير القوات الإنجليزية، حفروا الخنادق في قلب المدن للاختباء بها ومهاجمة الإنجليز، أضرب عمال الفحم والمقاولات واحتل عمال النسيج المصانع ورفعوا عليها «رايات حمراء» قطع الفلاحون خطوط السكك الحديدية وهاجموا المقرات الحكومية وأقسام الشرطة في الأقاليم، أقاموا حكومة ذاتية في زفتى، سقط ثلاثة آلاف شهيد، وعلى أكتاف هؤلاء حصلت مصر على الحق في الدستور والحياة النيابية، وهما المكسبان اللذين يحاجج بهما «الملكيون الجدد» على عظمة العصر الملكي، رغم أن الملك فؤاد الأول كان معترضاً بشكل مبدئي على الدستور الذي «جعل الأمة مصدر السلطات»، واعتبره انتقاصاً من «حقوقه الملكية المطلقة».
ولم يكف فؤاد الأول عن تعطيل الدستور والحياة النيابية مرة تلو الأخرى أو عن تزييف الانتخابات، وحين عطّلت حكومة إسماعيل صدقي، العمل بالدستور، انطلقت التظاهرات في المدن تناضل من أجل إعادة العمل به، وأضرب عمال العنابر في بولاق وعمال الورش الأميرية، وخرج الفلاحون (المتهمون أبداً بالجهل والبلادة) يتظاهرون من أجل الدستور، سقط مئة شهيد في أنحاء البلاد، وتحفظت الحكومة على الجثامين ورفضت تسليمها لأهلها، ودفنتها في أماكن مجهولة بالصحراء.
كانت القوة الإنتاجية الأكبر في البلاد هي «العمال الزراعيون»، وتشير أمينة الشاكري في كتابها «المعمل الاجتماعي الكبير» إلى أن مواضيع إنتاج المعرفة في مصر الكولونيالية تكاد تنحصر في كيفية فهم الفلاحين والسيطرة عليهم، فقد كان ينظر لتحركات الفلاحين باعتبارها «بلشفية محتملة» نظراً إلى اتساع نطاق العنف الذي كانوا يواجهون به قوى الاحتلال ورجال الإقطاع، سند الملكية.

أسطورة الديون

انتهج حزب «الوفد» أثناء فترة بين الحربين سياسة الدعوة إلى مقاطعة التجارة الأجنبية وتشجيع المنتجات المحلية، ودعا المصريين إلى إيداع أموالهم في بنك مصر الذي أنشأ برأس مال متواضع (عشرة ملايين جنيه) أول مشروع صناعي مصري عام 1929 وأسس 18 شركة تجارية ـ وقد حاربته حكومتا علي ماهر وحسن صبري، المدعومتان من الملك فاروق في الأربعينيات، حتى أوشك على الإفلاس، بينما اشترك الرجلان في مد امتياز البنك الأهلي (الإنجليزي) قبل انتهاء مدة امتيازه بثماني سنوات، ومن دون طلب من إدارته ـ لكن لم تكن استمارات بنك مصر المحدودة قادرة على دفع الاقتصاد إلى الأمام في ظل هيمنة الاستعمار والإقطاع والاحتكارات الأجنبية، ولم يزد نصيب الصناعة من الدخل القومي عن 10%، أما من ناحية النوعية فقد كانت تقتصر على صناعات الغزل والنسيج والأغذية، أي الصناعات الاستهلاكية. أنهكت الحرب العالمية بريطانيا، وهبطت أموالها المستثمرة في الخارج، والتي كانت تدر عليها في السابق أرباحاً طائلة، وتراكمت الديون الأميركية على الإمبراطورية الغاربة، وكذلك ديون المستعمرات، بما فيها مصر، حيث كانت بريطانيا مدينة لمصر بـ540 مليون جنيه، ولم يكن ذلك بسبب قوة الاقتصاد المصري ذي الطابع الزراعي، بقدر ما كان راجعاً إلى تدهور الوضع المالي لبريطانيا إثر الحرب، وحين أمم عبد الناصر قناة السويس التي تحرم مصر من 16 مليون جنيه سنوياً، جمدت بريطانيا أرصدة مصر لديها.

خاتمة

كانت حركة الجيش في «23 يوليو» إيذاناً بأن نظاماً سياسياً واقتصادياً لم يعد صالحاً للبقاء، وتتويجاً لنضال طال من أجل الاستقلال والعدالة الاجتماعية، لذا كان استقبالها حماسياً، ومن ثَمَ فالذين يتهمون عبد الناصر «إبن الجنايني» باغتصاب السلطة من الملك «إبن الذوات» لم يسمعوا عن هتاف الفلاحين ضد فاروق قبل الثورة بعام، والذي رواه شهيد الإقطاع صلاح حسين، في مذكراته: «إلى أنقرة يا ابن المرة».
* كاتب مصري