ينقسم المراقبون الذين يتابعون أخبار الأزمة اليونانية الى فئات: «يسارٌ اوروبي» (وبعض اليمين) يتفهّم رفض اليونانيين «الغطرسة» الأوروبية، ووصايتها على معاشهم ومستقبلهم، واحتقار «موظفي» بروكسل لمفاهيم الديمقراطية والسيادة الوطنية. ويسار في العالم الثالث يحلم بأن تخلخل الأزمة الاتحاد الأوروبي، وتخلق تياراً شعبياً، جذرياً، تاريخياً، رافض للنيوليبرالية ويقوده اليسار.
اما الحكومات الأوروبية والمؤسسات الاعلامية الكبرى، اضافة الى المزاج الشعبي في دول الشمال، فهي متحدة خلف القرار الالماني بتأنيب اليونانيين ودعم سياسات التقشّف ومبدأ المسؤولية المالية (أكثر الجمهور الالماني، بحسب الاستطلاعات، يؤيد خروج اليونان من منطقة اليورو؛ وحتى صحيفة «الغارديان» - «اليسارية» - تلوم قادة «سيريزا» على الأزمة وفشل المفاوضات).
نتيجة الاستفتاء الشعبي لن تعني خروجاً اوتوماتيكياً لأثينا من الاتحاد، أو حتى التوقف عن دفع الديون؛ والواضح أن تسيبراس، رئيس الوزراء، ينوي استعمال هذا «التوكيل الشعبي» للحصول على صفقة أفضل مع الترويكا الأوروبية، تتضمن خفضاً للقيمة الاجمالية للديون التي تثقل كاهل بلده، وليس للقطع مع الاتحاد وعملته.
ولكن، على مستوى مختلف، يمكن النظر الى اليونان لا كضحية لسياسات العملة الواحدة، وفخ الدّيْن، والارتفاع المفاجئ للفائدة على السندات؛ بل كضحية لعملية تاريخية أوسع، تتعلّق بنهوض فكرة «الأوربة»، التي تمدّدت تدريجياً لتضمّ أكثر هوامش القارّة والشعوب التي صارت بلا مرجعية اثر سقوط النظام الامبراطوري القديم.
اليونان كانت أوّل «فأر تجارب» لمفهوم الأوربة، حين تمّ تبنّي البلد من قبل حكومات اوروبا الغربية ونخبها خلال «حرب الاستقلال»، في الثلث الأول من القرن الـ 19، واعادة تصويره كمهد «الحضارة الأوروبية» (وهو، في ذاته، مفهوم ملتبس).
هذه الهوية أصبحت راسخة في اليونان، كما في بلاد كأوكرانيا وجورجيا، ترى نفسها «أوروبية» في وجه كل معايير التاريخ والجغرافيا والتراث والماضي. بل انّ أكثر حجّة ساقها المواطنون اليونانيون، الذي صوّتوا بـ «نعم» في الاستفتاء، هي خوفهم من أن يخرجوا من المجال الأوروبي، ويصيروا «دولة عالم ثالث» مجدداً.
ليس من الصعب تفنيد «الرؤية الأوروبية» لليونان، والتي تصنع خطاً مستقيماً في التاريخ يصل بين المدن الاغريقية واليونان الحديثة. كمثال، فان اليونان، التي يتغنّى بها المثقفون الأوروبيون كـ «أقدم ديمقراطية» في العالم لم تشهد، في الألفي سنة الماضية، الا أربعين عاماً من الحكم الديمقراطي.
من يزر اليونان، ويخبرك أنّهم «يشبهوننا»، لا يتكلّم من فراغ. فالبلد كان، بالفعل، مقاطعةً عثمانية لقرون، تنتشر نخبها التجارية في حوض المتوسط، وقد ساهمت، بشكلٍ عميق، في بناء ثقافة مدننا الساحلية وأنماطها واهوائها، من ازمير الى طرابلس وبيروت والاسكندرية (حتى لا نذكر اسطنبول، التي كان «ملحها» اليونانيون والأرمن).
مسار التاريخ والحروب والتطهير السكاني نقل اليونان من بلدٍ في قلب المنظومة المتوسطية، يحتاجها وتحتاجه، ويملك فيها دوراً محورياً ومتميزاً، الى بلد أوروبي طرفيّ، يشتهر بجبنة «الفيتا» وشواطىء السوّاح؛ ويراه الأوروبيون الغربيون كـ «عبء» مكلف عليهم، وشعب «كسول» لا يشبههم.
قد تكون الأحداث الجارية، وتلك التي ستأتي، مناسبةً لليونانيين لإعادة التفكير بخياراتهم «الحضارية» ونظرتهم الى ذواتهم؛ الا انّهم يظلّون، على ما لاحظ الباحث حسن الخلف، أكثر حظّاً من أقلية مسيحية أخرى (هم الأرمن)، كانت ايضاً مزدهرة في بلادنا وصاحبة امتيازات، فجاءها مسار «الأوربة» ليأخذها صوب الابادة والتهجير.