بعد تطهير مدينة الموصل، طفت إلى السطح تساؤلات كثيرة بعضها قديم نسبياً والآخر جديد عن ماهية ومصير وموقع «الحشد الشعبي» في المعادلات العسكرية والسياسية والمجتمعية في «عراق ما بعد داعش».
ولئن كان لافتاً عدم ذكر «الحشد الشعبي» بالاسم، ضمن الجهات التي هنأها رئيس مجلس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، في خطاب النصر، أمرٌ أثار احتجاجات واعتراضات وتساؤلات كثيرة هنا وهناك، فإن اللافت أكثر والغني بالدلالات أن وكيل المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، الشيخ عبد المهدي الكربلائي، لم يذكر «الحشد الشعبي» بالاسم أيضاً مع أنه عدّد أسماء جهات عسكرية ومدنية. لنقرأ ما قاله الشيخ الكربلائي في خطبة الجمعة 30 حزيران 2017، أي، بعد نصر الموصل مباشرة: «صاحب الفضل الأول والأخير في هذه الملحمة الكبرى التي مضى عليها إلى اليوم ثلاثة أعوام، هم المقاتلون الشجعان بمختلف صنوفهم ومسمياتهم من قوات مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية وفرق الجيش العراقي البطل والقوة الجوية وطيران الجيش وفصائل المتطوعين الغيارى وأبناء العشائر العراقية الأصيلة، ومن ورائهم عوائلهم وأسرهم ومن ساندهم في مواكب الدعم اللوجستي، إنهم هم أصحاب هذه الملحمة العظيمة التي سطروها بدمائهم الزكية وتضحياتهم الكبيرة وهم الأحق من الآخرين أياً كانوا برفع راية النصر النهائي...». والملاحَظ أن عدم ذكر الشيخ الكربلائي لـ«الحشد الشعبي» بالاسم لم يُثِر ما أثاره تجاهل العبادي للاسم، فما السبب وراء ذلك؟ يمكن أن نجد السبب في كون العبادي يرأس السلطة التنفيذية ولا يجد الجميع ضيراً أو حرجاً في انتقاده بخلاف المرجع السيستاني وموقعه الروحي بما يمثله من وزن سكاني يعبر عنه ملايين المقتدين به «المقلدين». ولكن ذلك ليس السبب الوحيد، وستكون الصورة أوضح لو عدنا أدراجنا إلى جذر الموضوع وكيف تأسس «الحشد العشبي» في تلك الأيام الملتهبة والصعبة من حزيران العراقي سنة 2014 حين سيطر مسلحو تنظيم «داعش» التكفيري على مدينة الموصل ومساحات شاسعة من شمال العراق. فهل أفتى السيستاني فعلاً بتأسيس «الحشد الشعبي» أو بشيء يشبه «الحشد الشعبي» أو بمؤسسة عسكرية وأمنية رديفة للجيش العراق؟ قطعا لاً. لقد كانت دعوة «فتوى» المرجع السيستاني موجهة إلى القادرين على حمل السلاح للتطوع في صفوف القوات المسلحة العراقية، وهذا هو نص الفتوى الأول كما وردت على لسان الشيخ عبد المهدي الكربلائي وكيل المرجع السيستاني في خطبة الجمعة يوم 13 حزيران 2004، وتحديداً في الفقرة (خامساً، إن طبيعة المخاطر المحدقة بالعراق وشعبه في الوقت الحاضر تقتضي الدفاع عن هذا الوطن وأهله وأعراض مواطنيه وهذا الدفاع واجب على المواطنين بالوجوب الكفائي، بمعنى أن من يتصدى له وكان فيه الكفاية بحيث يتحقق الغرض وهو حفظ العراق وشعبه ومقدساته يسقط عن الباقين. (...) ومن هنا فإن على المواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح ومقاتلة الإرهابيين دفاعاً عن بلدهم وشعبهم ومقدساتهم عليهم التطوع للانخراط في القوات الأمنية لتحقيق هذا الغرض المقدس. أود أن أوضح هذه العبارة. لا بد من توفر شرطين: إن على المواطنين من الذين يتوفر فيهم هذان الشرطان، الذين يتمكنون من حمل السلاح أولا ومقاتلة الإرهابيين ثانياً).
وفي سنة 2016، أصدر المرجع فتوى ثانية يؤكد فيها فتواه الأولى في حزيران 2014 رداً على تساؤلات من جمهور المقتدين عما إذا كانت الفتوى قد انتهت زمنياً أم أنها ما تزال نافذة المفعول، فكتب بخط اليد مع ختمه الشخصي (بسمه تعالى... قد أفتينا بوجوب الالتحاق بالقوات المسلحة وجوباً كفائياً للدفاع عن الشعب العراقي وأرضه ومقدساته، وهذه الفتوى لا تزال مستمرة لاستمرار موجبها، بالرغم من بعض التقدم الذي أحرزه المقاتلون الأبطال في دحر الإرهابيين. علي الحسيني السيستاني... 27/ع1/1437هـ ).
يمكن الخروج مما سبق بالكثير من الاستنتاجات والخلاصات، لعل من أهمها أن فتوى المرجع السيستاني ليست لها علاقة مباشرة بتأسيس ودسترة «الحشد الشعبي» وأن إصراره على استعمال عبارة «فصائل المتطوعين» قبل وبعد الانتصار في الموصل والمقصود بهم المتطوعون ما بعد سقوط الموصل، يُخرج تلقائياً الفصائل المسلحة الحزبية كمنظمة «بدر» و«العصائب» و«سرايا السلام» إلخ... من مفهوم وكيان «الحشد الشعبي» منطقياً، لأنها كانت موجودة قبل هذا التاريخ بسنوات عديدة، وليست مؤلفة من متطوعين للدفاع عن العراق بعد سقوط الموصل.
في الوقت الحاضر، ولأن الحرب ضد العصابات التكفيرية الداعشية لم تنته بعد، فما تزال مدن وبلدات وقرى عديدة، إضافة إلى أجزاء مهمة من الحدود الدولية مع سوريا تحت سيطرة هذه العصابات، وما يزال خطر ارتكاب هذه العصابات لهجمات واعتداءات بالمفخخات والهجمات الانتحارية في العمق العراقي قائماً، فإن أي مطالبة بحل أو تحجيم أو تحديد حركة «الحشد الشعبي» والعشائري تعتبر أمراً مرفوضاً ومريباً ويخدم العدو التكفيري. أما الذين يهاجمون مطلب حل «الحشد» بإطلاق القول ومن دون مبرر فهم يهدفون بحركة استباقية إلى تحقيق أهداف سياسية وأمنية أخرى لا علاقة لها بالحرب ضد العصابات التكفيرية. ولكن من هي الأطراف التي تريد حل الحشد الشعبي فوراً ومن دون قيد أو شرط:
أول هذه الأطراف الولايات المتحدة وتركيا ودول الخليج العربي، وهذه الدول تعتبر الحشد الشعبي امتداداً إيرانياً ولا تعترف بكونه مؤسسة أمنية دستورية عراقية وتعتمد في ترويج نظرتها هذه على وجود ونشاط أربعة فصائل مسلحة موالية لإيران ومدافعة عنها وتتصدر المشهد الإعلامي. والطرف الثاني المطالب بحل الحشد هو غالبية القيادات السياسية في المنطقة الغربية والشمالية، والقيادات الكردية في الإقليم وهؤلاء يرفعون هذا المطلب لتحقيق أهداف وموازنات داخلية مع شركائهم الإسلاميين الشيعة في الحكم ضمن صيغة المحاصصة في غنائم الحكم.

أي مطالبة بحل أو تحجيم «الحشد الشعبي» تعتبر
أمراً مرفوضاً ومريباً


وفي مقابل هذه الأطراف، هناك قيادات في فصائل ضمن «الحشد الشعبي» هي (عصائب أهل الحق وسرايا الخراساني ومنظمة بدر وكتائب حزب الله ــ العراق ) ترفض رفضاً قاطعاً حل «الحشد الشعبي» حتى لو تم القضاء على عصابات «داعش» وتحرير المدن والمناطق التي تسيطر عليها، بل هي تحاول تخليد «الحشد الشعبي» وإضفاء صفة القداسة عليه واعتباره «حاملاً لرسالة الأمة ومشروعها» وفقاً لما عبر عنه القيادي في الحشد أبو مهدي المهندس أو اعتبار الحشد «مؤسسة إلهية حكومية» كما كتب رحيم الخالدي، أي أنها تريد تحويل «الحشد الشعبي» إلى نسخة عراقية من الحرس الثوري الإيراني وجيشاً رديفاً ومستقلاً عن جيش الدولة هدفه حماية هيمنة الأحزاب الإسلامية الشيعية على الحكم، وهذا أمر مرفوض وطنياً ويتعارض مع طبيعة المجتمع العراقي المتنوع التعددي ومع هدف إقامة دولة عراقية ديموقراطية ذات سيادة كاملة وجيش وطني واحد.
إن الموقف الوطني الموضوعي المطموح إليه اليوم هو ذلك الذي يؤكد على ضرورة الانتباه والتركيز على المعركة المستمرة ضد «داعش» حتى نهايتها، وحتى حسم وإنهاء معارك تلعفر والحويجة والحدود ومدن أعالي الفرات بمشاركة «الحشد الشعبي» والعشائري، ورفض خضوع القيادة السياسية لنظام المحاصصة برئاسة العبادي للابتزاز والتهديدات والأوامر الأميركية الهادفة لمنع «الحشد الشعبي» والعشائري من المشاركة في كل المعارك المقبلة. أما بعد تحقيق النصر التام والنهائي فسيكون لكل حادث حديث، وسيكون من حق العراقيين مناقشة جميع القضايا بما فيها قضية طبيعة النظام القائم ودستوره وجميع مؤسساته بما فيها الحشد العشبي. الأولوية الآن لهزيمة العصابات التكفيرية المسلحة وتحقيق النصر التام عليها.
ولكي تكتمل الصورة لدينا حول موضوع مؤسسة «الحشد الشعبي»، وعلى أي أسس شرعية دينية مزعومة أقيمت، وما هي الآفاق التي يريد البعض إيصالنا إليها، سنتوقف الآن عند مجموعة من المطالب التي وجهها نائب رئيس هيئة «الحشد الشعبي» أبو مهدي المهندس إلى الحكومة والبرلمان العراقيين علناً وعبر وسائل الإعلام في خطابه في الاحتفال المركزي لـ«الحشد الشعبي» بالانتصار في الموصل والتي يمكن وصفها بخطة طريق عملية لـ«ترسيخ الحشد» كمؤسسة عسكرية وأمنية رديفة للجيش العراقي، ولها الحق في (التدخل في ساحات محاربة الفساد السياسي والمالي والإعلامي). وقبل عرض تلك المطالب نسجل عدم حضور ممثلين رسميين عن الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث ولا عن المؤسسة العسكرية والأمنية العراقية... وخلاصة تلك المطالب التي طرحها المهندس وبكلماته هي:
ــ هناك ضرورة لبقاء «الحشد الشعبي» كمؤسسة رديفة، لذلك نرجو منكم ما يلي (كان المتحدث قد طرح هذه الفكرة أكثر من مرة بكلمات أوضح حين قال: نحتاج اليوم إلى ترسيخ «الحشد الشعبي» كمؤسسة عسكرية أمنية رديفة لقواتنا المسلحة):
*تفعيل قانون هيئة «الحشد الشعبي» وهذا يحتاج الى إقرار قانون الخدمة والتقاعد لـ«الحشد الشعبي».
*طالب الحكومة الاتحادية وحكومات المحافظات بتوفير بعض المعسكرات والأبنية الحكومية حتى نستطيع أن نجمع مكاتب تشكيلاتنا في مكان واحد.
*طالب بحل موضوع الحشود العشائرية والمحلية التي تبلغ عشرات الآلاف من المسلحين إما بضمهم إلى «الحشد الشعبي» مع تخصيصات مالية كافية أو ضمهم كمنتسبين للجيش والشرطة أو إعطائهم اسماً آخر غير اسم «الحشد»...
*إذا استمر هذا الوضع فربما سندخل في ساحات محاربة الفساد السياسي والمالي والإعلامي.
الأسئلة كثيرة ولكنني سأكتفي ببعضها:
ـ أيهما أهم وأخطر وأكثر إلحاحاً، أن يطالب المهندس بحل وتصفية الحشد العشائري المرتبط بالجيش، أم أن يعمل على حسم علاقة الفصائل المستقلة والتابعة لأحزب سياسية ترتبط بدولة مجاورة تنظيمياً وتمويلا وولاءً دينياً وسياسياً بـ«الحشد الشعبي»؟
ـ هل هناك علاقة بين ما قاله السيستاني بفتواه للجهاد الكفائي، وبدليل إصراره حتى بعد تطهير النصر على تسمية «فصائل المتطوعين» بدلاً من «الحشد الشعبي» وبين «مؤسسة الحشد الشعبي»؟ ثم، أليس اعتبار الفتوى أساساً شرعياً دينياً لقيام «الحشد الشعبي» من قبل بعض القيادات السياسية نوعاً من السمسرة والبلطجة السياسية والضحك على الشعب العراقي؟
ـ لماذا يسكت الجميع في العراق على تصريحات سليماني الاستفزازية والتي قال فيها (قوات «الحشد الشعبي» تحولت إلى «جيش حزب الله» بعد التحاق «الحشد الشعبي» بالجيش العراقي..!) والتي يصادر بها تضحيات المتطوعين العراقيين ويحاول تجييرها لمصلحة نظامه، نظام ولاية الفقيه، مع احترامي لعداء هذا النظام للعدو الإسرائيلي ولكن ليس على حساب استقلال وسيادة وكرامة بلادنا وشعبنا التعددي المتنوع؟
ـ أي معنى يبقى لبرامج المصالحة والإعمار والبناء والوحدة الوطنية التي يتشدق بها المهرجون السياسيون في نظام المحاصصة الطائفية بين الحين والآخر؟ من الواضح أن الوضع العام في العراق يدخل مرحلة جديدة وعميقة من التحلل والتعفن السياسي الطائفي بفعل هذه المتغيرات، وبسبب أصلي عميق هو وجود نظام حكم المحاصصة ودستوره الاحتلالي، ولكن صحيح أيضاً أن الناس بدأت ترى الأمور بوضوح أكثر وأصحاب الأجندات والمشاريع الدينية الطائفية أصبحوا أكثر انكشافاً ولم يعد بينهم وبين إعلان دولتهم النسخة من دولة ولاية الفقيه «إلا بعض الأشبار»... الانتصار النهائي على «داعش» وشيك ولم يتبقَ الكثير، وعلى جميع الوطنيين الواعين والديموقراطيين الحقيقيين الاستعداد لمعارك أخرى ضد احتلال آخر أكثر تدميراً... إنما يبقى الإجهاز على عصابات «داعش» هو المهمة المركزية الأولى الآن، وكل المتعجلين على حل «الحشد الشعبي» من جهة أو سرقة «الحشد الشعبي» ووضعه في جيب الوالي الفقيه الإيراني من الجهة المقابلة يؤخرون هذا النصر ويعرقلونه ويقدمون الخدمة والمدد والغطاء لـ«داعش» في نسختها الجديدة المقبلة... وأخيراً، فإن للمتفرجين والمبررين والساكتين على ما يحدث اليوم لفصائل المتطوعين العراقيين وسرقة انتصارهم وتضحياتهم حصتهم الكبيرة من السلبية فالوطنية والديموقراطية واليسارية ليست مجرد صفات يلصقها البعض على جباههم، بل دفاع ومقاربة شجاعة للحقائق والتاريخ يسجل الصغائر مثلما يسجل الكبائر!

* كاتب عراقي

هوامش:

1- رابط فيديو لوكيل المرجع السيستاني الشيخ عبد المهدي الكربلائي يعلن فتوى الجهاد الكفائي في حزيران سنة 2014.

2-رابط فيديو لوكيل السيستاني بعد نصر الموصل لم يذكر اسم الحشد الشعبي بل فصائل المتطوعين الغيارى وأبناء العشائر العراقية الأصيلة.

3-رابط فيديو كلمة المهندس حول رفض حل الحشد المهندس لكونه (يحمل رسالة أمة وقام وتأسس على الشعبية الجماهيرية والفتوى الشرعية الدينية).