تتمظهر الثقافة في أبسط سلوك بشري، فهي تارة طقوس دينية cultes حسب العصور الوسطى الأوروبية، وتارة هي فلاحة الأرض في ذهن فلاح فرنسي من القرن السابع عشر. وهي صقل السيف لدى العربي في صدر الإسلام (السيف الثقيف او المصقول) «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ(ج) وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ..».
هذه الاستعارة لفعل القتال والقتل ذات دلالة، فهي تشير إلى أن المواجهة بالسيف والقتال ليست عارية عن الفكر والثقافة والإقناع والحجة، خصوصاً مع استحضار الفتنة. ولولا ذلك لفقدت الاستعارة معناها.
الثقافة تعني التهذيب والصقل والتربية والتعليم واكتساب المهارات، ففلاح يستخدم الجرار أكثر ثقافة من آخر يستخدم المحراث التقليدي، ومستخدم محراث حديدي أكثر ثقافة من آخر يستخدم المحراث الخشبي. وهذا يعني أن الثقافة تشمل الأفكار والتقنيات والعادات والطقوس والشعائر والمسلكيات والعرف. والأساس عند البشر هو التعلم والتربية، فطفل يأكل بالملعقة أكثر ثقافة وذكاء من طفل من العمر نفسه لا يستطيع فعل ذلك. إن كلمة culture تعني حضارة مثلما تعني ثقافة وقد بدأ استخدامها في القرن الثامن عشر.
لكن الثقافة تتحول وتتغير طبيعتها ووظيفتها عندما تنخرط في الشأن السياسي وتطمح لبناء دولة جديدة وفق اعتقاداتها، أي عندما تميل لبناء حزب سياسي يطمح للسيطرة على سلطة الدولة. بهذا الانخراط تتحول الثقافة إلى أيديولوجيا أو عقيدة جماعة منظمة تطمح في الاستيلاء على سلطة الدولة. هكذا تظهر عقائد وأيديولوجيات منها الحديثة كالفكرة الليبرالية وأيديولوجيتها والفكرة الشيوعية وأيديولوجيتها. وتبقى الفكرة الدينية تعمل بينهما كثقافة شكلت من قبل أيديولوجيا الإقطاع والدولة الخراجية، أي تعتبر أيديولوجيا عتيقة للعصور الاقطاعية/ الخراجية.
هكذا نستطيع القول إن كل أيدبولوجيأ لها أصول ثقافية، ولكن ليس كل ثقافة أيديولوجية بالإطلاق. وهذا لا ينفي إمكان تحول الثقافة إلى أيديولوجيا وعقيدة وذلك حسب الشروط التاريخية والاجتماعية للجماعة البشرية. فعلى سبيل المثال، شكلت فيزياء غاليليو غاليلي وأبحاثه الفلكية كثقافة وإنتاج علمي أيديولوجيا جديدة للبورجوازية التي ما تزال تتلمس طريقها في ظلمة التاريخ، عندما وجدت هذه الثقافة ذاتها منخرطة في صراع حياة أو موت مع الثقافة الدينية للكنيسة الكاثوليكية والتي كانت تلعب (هذه الثقافة الدينية) دور الأيديولوجيا العضوية للإقطاع الأوروبي. وقد جرى هذا الصدام بخصوص اعتقاد الكنيسة الكاثوليكية وثقافتها بثبات الأرض ودوران الشمس حولها. فجاءت أبحاث الفلكي الإيطالي الشهير غاليلي لتخطئ كل ذلك، ولتدخل في مواجهة مع ثقافة الكتاب المقدس وتعاليمه ولتتحول أبحاث غاليلي في هذا الشرط التاريخي إلى أيديولوجيا للطبقة البورجوازية الصاعدة المتقدمة بالمعنى التاريخي من حيث لا يعلم غاليلي.
الزمن الحديث وأقصد بالزمن الحديث بدايات ظهور البرجوازية الحديثة كطبقة صاعدة على المسرح الأوروبي والعالمي اعتباراً من القرن السادس عشر، وقد احتاجت البرجوازية إلى مئتي سنة لتشعر بوجودها كقوة اقتصادية وبطموحها السياسي للهيمنة والسيطرة. كانت هناك مسافة بين وجودها كطبقة ووعي هذا الوجود الذي حصل في القرن الثامن عشر، وتم التعبير عن هذا الوعي كأزمنة حديثة لا تحتاج فيه البرجوازية إلى أي ضمانات إضافية كي تعي وجودها وكيانها. فالحركة التي بدأت في القرن السادس عشر تم وعيها في القرن الثامن عشر كزمن حديث.

يُعتبر فوكوياما
مثقفاً اعتباطياً بالمعنى التاريخي لبرجوازية منحطة وليبرالية آفلة


أيديولوجيتان حديثتان، واحدة طرحتها البورجوازية عبر مثقفيها العضويين في القرنين السابع عشر والثامن عشر وهي الليبرالية في السياسة والاقتصاد واستمرت حتى يومنا هذا مع تحورات وتغيرات أصابتها. بحيث ظهر ما يسمى بالليبرالية الجديدة في الاقتصاد والسياسة وهي عقيدة للبرجوازية الإمبريالية المنحطة والمحتضرة. تعتقد الفكرة الليبرالية أن البرجوازية كطبقة مهيمنة ومسيطرة قادرة على حل مشاكل البشرية والنهوض بالمجتمعات المتنوعة ثقافياً وتخليصها من الفقر والظلم وتحقيق الرفاه والعدل.
والثانية ظهرت ونضجت في منتصف القرن التاسع عشر وهي الفكرة الشيوعية والاشتراكيات المتولدة عنها، وهي الفكرة التي تعتقد أن الاشتراكية قادرة على إقامة مجتمع العدل والرفاه عبر هيمنتها وسيطرتها كطبقة حاكمة وأن تنجز ما عجزت عنه البرجوازية زمن انحطاطها واحتضارها اعتباراً من كمونة باريس 1871.
ونلاحظ دائماً أن انحطاط إحدى الإيديولوجيتين أو تفكك دولتيهما تاريخياً يؤدي إلى حضور ثقافات قديمة للتنطح للمهمة الجديدة بخاصة الثقافة الدينية، فما أن تنحط الأيديولوجية الليبرالية أو تدخل الأيديولوجية الاشتراكية في أزمة حتى تطرح الثقافة الدينية نفسها كأيديولوجية بديلة ويظهر ما يسمى بالحزب الديني والدولة «الدينية». وهذا الظهور علامة على الانحطاط التاريخي للبرجوازية وعلى أفول ايديولوجيتها الليبرالية الكلاسيكية، كما تدل على عجز تاريخي للحركة الاشتراكية وعلى أزمة في الأيديولوجية الاشتراكية.
تفترض الثقافة وجود مثقف، فالسيف المصقول أو الثقيف يفترض وجود حدّاد يثقف السيف ويصقله. والأيديولوجيات والثقافات المتنوعة تفترض وجود مثقفين. وقد لاحظنا أن الأزمنة الحديثة أنتجت أيديولوجيات تاريخية حديثة هي الليبرالية أيديولوجية البرجوازية والشيوعية/ الاشتراكية أيديولوجيا البروليتاريا أو الطبقة العاملة الحديثة. وقد لعب الفكر الديني هذا الدور في الأزمنة الإقطاعية والعبودية والخراجية. فعندما كانت أوروبا تحطم العلاقات الإقطاعية للإنتاج وتبني علاقات رأسمالية كانت الليبرالية هي الأيديولوجية العضوية للطبقة البرجوازية الصاعدة في مواجهة الاعتقاد الكاثوليكي كعقيدة للإقطاع الآفل. هكذا شكل المفكرون الفرنسيون والإنكليز المثقفين العضويين للبرجوازية 1650 ــ 1850 وهكذا يعتبر غاليلي الفلكي والفيزيائي الإيطالي مطلع القرن السادس عشر مثقفاً عضوياً للبرجوازية الصاعدة. بينما يعتبر فوكوياما مثقفاً اعتباطياً بالمعنى التاريخي لبرجوازية منحطة وليبرالية آفلة، بعد أن فقدت دورها التقدمي مع ظهور البروليتاريا كطبقة وارثة بالمعنى التاريخي في القرن التاسع عشر. ولهذا السبب يشكل المفكرون الشيوعيون/ الاشتراكيون مثقفين عضويين للبروليتاريا كطبقة تقدمية بديلة. وهي الطبقة التي تدعو فكرتها الاشتراكية بالانتقال من سيادة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج إلى الملكية العامة لهذه الوسائل، بغض النظر عن التجارب والبروفات التاريخية الفعلية ومشاكلها وعيوبها وعقباتها.
العلاقة بين المثقف العضوي وطبقته ليست علاقة جسدية بالضرورة. فقد يكون المثقف الاشتراكي من أصول برجوازية لكنه ارتفع بالوعي إلى مواقع الطبقة البروليتارية، وقد يعيش مثقف أو فيلسوف في أقاصي الريف ومع ذلك يطرح فكرة تخدم حركة الطبقة المنظمة وطموحاتها نحو الهيمنة ونحو بناء دولة جديدة فيغدو مثقفها العضوي.
تطور مفهوم المثقف تاريخياً بحيث جرى الانتقال من فكرة الفئات المتعلمة والمؤهلة إلى فكرة الكوادر المنظمة وقيادات التنظيمات والأحزاب، هكذا ارتبط مفهوم المثقف بالعمل التنظيمي للمثقف أكثر من احترافه العمل الكتابي والفكري فكادر من الدرجة الثانية في حزب اشتراكي يعتبر مثقفاً فعلياً للطبقة اكثر بألف مرة من طالب جامعي يفوقه «ثقافة» وتأهيلاً تعليماً. وهذا الكادر أكثر عضوية للطبقة من ذلك الطالب.
* كاتب سوري