«سنتحالف مع الشيطان حتى نسقط هذا النظام»، تعبيرٌ كثيراً ما سمعه السوريون في مناقشاتهم حول الطرق الملتبسة التي اختارتها المعارضة في التعامل مع الأزمات الرهيبة التي اجتاحت بلادهم، كطريقة يعبّر بها (بعض) المثقفين الثوريين عندما تضطرهم أساليب النقاش إلى الكشف التام، وإبداء الحد الأقصى من انفلات السيطرة على الضوابط والمشاعر والغرائز المتحكمة.لم يكن هذا القول في بداية الأزمة السورية إلا تعبيراً عن «فشة خلق» مثقف أو ثوري محبط عندما تنتشي روحه بدواعم خارجية وأوهام واردة من الدول النفطية وإعلام العولمة المتوحشة.

لم يكن أحد من السوريين ليظن أنّ تعابير العبارة السابقة وتجلياتها ستصل إلى درجة أن يلتقي ثائر سوري في ادلب مع صحافي إسرائيلي فوق الأرض السورية، ويقول له إن أبو فادي وثورته «سيتحالف مع شارون لإسقاط بشار الأسد». لتصل الثورة في ما بعد إلى الحضن الصهيوني، بعد أن دارت في كل بلدان العالم المشبوهة تطلب عونها لتقدم فروض الطاعة والولاء ولاستجداء تدخلات مباشرة صهيونية.
المثير أخيراً في سلسلة التخلي والخيانة والتبعية في سياسة «الثورة» المتبعة في السياق ذاته هو ما طالعنا به بعض الفكر الإسلامي «الصهيوني» الذي بدأ بتأصيل شرعية الاستعانة بالكيان الصهيوني لقضاء حاجات المسلمين في إسقاط النظام السوري.
ألبسوا ثورتهم حزاماً مفخخاً وأقاموا لها الأعراس الكبيرة
على الشاشات وفي الفنادق

تقدم المعارضة بكل أطيافها المتفرقة دروساً مكرورة قاسية، وكأنها تخترع العجلة من جديد دون أن تعلم أن الأحلاف مع الشياطين لن تقودهم إلا إلى المصائر البائسة والنار الجهنمية التي ستحيط بهم من كل جهة.
لا يمكن المعارضة أن تخذل مناصريها ومحبيها السوريين. لا يمكن أن تنسى أو أن تسامح، ولا يمكن قلبها الثوري أن يتوقف عن دفق آلاف «الشهداء» كل شهر على تراب سوريا. أصوات المنابر المزروعة في عشرات الشاشات النفطية التي تبث دون توقف ثوار الفنادق المصنوعين على عجل، يرفضون من جديد مبادرة دي مستورا لتجميد القتال في مدينة حلب، ويعتبرونها لا تلبي طموحاتهم الثورية في إطاحة دور سورية في المنطقة وتسليمها ملوية العنق والإرادة للحلف الأميركي الآفل.
كيف تحولت ثورة مزعومة بقضها وقضيضها إلى مجرد عراضات فولكلورية كانت أهازيجها الشامتة والشاتمة ومونولوجاتها المستجدية لنخوات العرب والمسلمين لتدخل غربي من الناتو تخفي رغبة محمومة لحشو هذه الثورة بكل مركبات الانفجار الدولية والإقليمية، من عوائد نفط وغاز منهوب.
ألبسوا ثورتهم حزاماً مفخخاً وأقاموا لها الأعراس الكبيرة على الشاشات وفي الفنادق الفارهة. وشهد لها شهود العيان وخلفهم نصبت رايات مستخرجة من التاريخ، وصدّق على الثورة مشايخ ودعاة يلوون أعناق النصوص والآيات ويركبونها كما الأنعام ويسيرونها إلى حيث تقودهم أفهامهم القاصرة وغرائزهم الحزبية المتطرفة.
أدخلت الثورة على الشعب السوري بقلبها المفخخ بالبارود وحزامها المتفجر، وبات عليه أن يحتمل مناظر العبث الأسود. ثوار الفنادق طالما فتحوا بازارات الدم السوري من غرفهم الفارهة في عواصم العالم البعيدة. يرفعون الأسعار، ويبيضون أكبر الشعارات الثورية ويدفعون كلفتها من دماء البسطاء.
بعد أشهر قليلة من انطلاق «الثورة السورية»، دعيت المعارضة إلى لقاء حواري في فندق صحارى في دمشق حضره نائب الرئيس السوري ووفد ممثل من القيادة السورية بصلاحيات وازنة. تغيبت كل أطياف المعارضة عن اللقاء محتجة بالشعار المزايد: وماذا نقول لأسر مئات الشهداء الذين سقطوا؟! في بداية الحراك كانت إجابة بعض العقلاء أننا قد نضطر في ما بعد إلى أن نكون مطالبين بالتحدث إلى أسر آلاف الشهداء... لكن الحق أقول لكم لم يكن لأحد من السوريين أن يتوقع أن يقود هذا العناد ليصل بعدد السوريين القتلى إلى مئات الآلاف.
اليوم لا شيء تقدمه المعارضة سوى التحدث من الشاشات ذاتها، ومن الفنادق ذاتها، ومن الأماكن البعيدة ذاتها، فاتحة بازارات جديدة على الدم السوري. ترفع أصواتها بالشعارات المضللة وتلتف برؤوسها الشبيهة برؤوس الميدوزا، تحوي مئات الأفعوانات والحيات الغليظة تلوك فيها لحم السوريين وتطحن بأسنانها القاسية عظامهم ولا تشبع معدتها من أكوام جثثهم اليومية.
روجت مراكز بحثية أميركية بعض التقارير عن الثوار السوريين وطريقتهم المضللة مع مموليهم الدوليين والإقليميين بطريقة دعيت «اللعب بالكشتبان»، وتتمثل بحالة من المبالغة والكذب بأعداد المسلحين المنضوين في بعض الكتائب وأعداد الكتائب والألوية، وتغيير أسمائها المستمر، والدور العملياتي الذي تقوم به على أرض الميدان والتضليل الكبير الذي يشوب كل ذلك واستشهدت بادعاء جمال معروف امتلاكه نحو أربعين ألف مسلح سيشكلون نواة جديدة للجيش السوري قبل أن يتبخر من ريف ادلب في المواجهات الأخيرة.
في سورية ومع حملات التصفية والتصفية المضادة التي تتبعها الفصائل الثورية، تتكشف الوجوه الطاغية للمتطرفين ويحدث الانزواء القسري والتحول الاضطراري لبقايا المعتدلين الثوريين، وتتلى مونولوجات الندم والخطيئة للثوار الأوائل، فيما تنقدح الأحقاد الطائفية والمذهبية وتتجندل أرتال الضحايا على خلفية عبثية مذهبية أو طائفية، وتبدأ الثورة مبكراً تأكل أولادها وفصائلها وكتائبها وجبهاتها المقاتلة وتمضغ بقايا معتدليها الواهمين.
رفض مبادرة دي مستوار من قبل المعارضة لا يمثل أمراً مستغرباً في تاريخ المعارضة، بل تضاف إلى سجل حافل من المعاندة والمزايدة والاستجداء والتبعية التي تميزت به. كانت المبادرة تعد فرصة سانحة كخطوة بدئية متدحرجة لحل يجترحه السوريون بعيداً عن التدخلات الإقليمية والدولية، دون أن تكون سوريا موضع تنافس أو تنازع. مبادرة بمثابة ناظم سلمي يوقف أو يضبط إيقاع الاستنزاف اليومي للدم السوري، ويخفف من سفكه العبثي في ألعاب الأمم، ويبدأ بحقن تدريجي مناطقي للدم السوري الذي لم يتوقف من أربع سنوات. بداية تدفع بعض السوريين إلى التفاؤل والخروج من النفق المظلم والثقب الأسود الذي يمتص المنطقة جغرافياً وبشرياً رويداً رويداً، ويقفل مستقبل دول المنطقة على اختيارات صفرية تشبه اختيارات المقامرين في أواخر سهراتهم المجنونة «صولد على كل شيء». صولد على آخر دم سوري... على آخر ما بقي من حضارتها وبنيتها الأساسية والتراثية التاريخية.
لكن بعض البيانات الأخيرة التي خرجت من اجتماعات المعارضة ببعض أطيافها، والتي أقرت بالثوابت الوطنية المستجدة من محاربة الإرهاب واحتكار الدولة للعنف في مواجهته، وأن حل الأزمة يعود إلى تفاهمات مطلوبة ناجمة عن حوارات سورية سورية، لعل كل ذلك يمثل مع حالة الإغفال المقصود للمطلب الأساسي الذي اقتاتت عليه المعارضة وتغذت من كل مصادرها وداعميها بسببه، وهو تنحي الرئيس السوري وانتقال السلطة. يمثل كل ذلك عودة إلى أرض الواقع التي انزاحت عنها غبار المعارك المتعددة المحتدمة على أرض الوطن طوال السنوات الأربع. إن هذه الطروحات الجديدة التي وافقت عليها شخصيات من المعارضة تمثل عقلنة لتيارات معارضة غير ذات صفة تمثيلية، ولا تغدو أكثر من استنتاجات عقلانية مفلسة لمعارضة سلكت كل الدروب للوصول إلى كراسي السلطة، فخذلتها الأدوات والمصادر. وبات على هذه الأصوات أن تعود إلى دفاتر عتيقة فيها مطالب أين منها الشروط التي قدمت على أول طاولة حوار سورية بعد أشهر قليلة من اندلاع الأزمة في فندق صحارى، وقبل أن تطلق المعارضة الذرائع والحجج الواهية لتسليح «الثورة» و«تطييفها» واستجدائها العون الخارجي من كل أصقاع الكون.
إن وصول شخصيات معارضة لخلاصة أن الحل لحرب السيطرة على سورية هو حل سياسي سوري - سوري تجترحه العقول السورية بعيداً عن التدخل الإقليمي والغربي يعد خلاصة صحيحة في وقت مأزوم متأخر جداً.
فالمعارضة التي نشأت في سورية وخرجت من دهاليزها الأيديولوجية أو من سبات طويل غابت فيه عن المتطلبات الشعبية، ركبت المطالب الشبابية المراهقة التي انطلقت في بداية ما دعي «الربيع العربي» دون أن تكون قادرة على عقلنة هذه الشعارات في سياق سياسي قريب من الواقعية السياسية، وراحت تراهن وتزاود على هذه المطالب وتطلب شرعيتها من كل بقاع العالم ودوله ومؤسساته وسفاراته دون أن تلتفت إلى شرعيتها الشعبية، وراهنت على التدخل الخارجي وقذفت بالأحقاد القديمة والطائفية، ورفضت كل الحلول التي كان من شأنها التخفيف من جلجلة الآلام والدمار واختبار الحديد والنار الذي تعيشه سورية في تجربة غير مسبوقة في تاريخها، ففشلت في الاستراتيجيا والتكتيك ولم تمتلك خطاباً جامعاً لكل السوريين.
إن الدولة بعد أن دفعت الأثمان الباهظة والأكلاف الثمينة ستصل عاجلاً أو آجلاً لتساؤل يطرح من دون مواربة في قطاعات واسعة من الشعب: أما وأن الحروب المندلعة قد انكشفت على طرفين رئيسيين يقفان في المواجهة الكبرى: الدولة السورية والإرهاب باستطالاته المختلفة - حسب التصنيف الأميركي - فما الذي يجبر الدولة على تقديم التنازلات لأطراف بررت عملية التخريب الممنهج والتقسيم والتقتيل، ما دام مشوار المواجهة مع الإرهاب يبدو طويلاً واستنزافياً ولن يزيد في إنهاك قوة الدولة اصطفاف أصوات معارضة غير ذات صفة تمثيلية وغير ذات تأثير على الأرض يشكل ضمها نشازاً في "الهارموني" السوري الوطني، وتقديماً سخياً في السياسة لما عجز عنه الميدان.
ولكن بالرغم من الأصوات العالية للجوقات الثورية ومونولوجاتها اليومية التي سنظل نسمعها، ترتفع ألحانها مع الإيقاعات الخارجية وعلى السلم الموسيقي الغربي وترقص على أهواء الرجل الأبيض ونغماته المضللة، فواضح أنه لا يمكننا تعويل الكثير من الآمال على تفكير عاقل يصدر عن بواقي «الثوار» المطالبين بإسقاط النظام وتسلّم السلطة. فالثورة المسلحة أصبحت أكثر ضعفاً وتشتتاً وهشاشة من أي وقت مضى، وهي تضمحلّ باطّراد بعد أن كانت سبباً في تغول الإرهاب في المنطقة وتغطية تدمير وتخريب ممنهج غير مسبوق للدولة السورية. وبات عليهم الإصغاء مرة أخرى لمموليهم وعرابيهم وهم يحددون لهم الخطوط الحمراء الجديدة والمآلات والمصائر الجهنمية التي وصلوا إليها.
* كاتب سوري