المشهد سوريالي بارد وبائس حتى العظام. ينغل هذا الحطام في اللحم الحي، ولا تترك الأشلاء الممزّقة التي تتناهشها كلاب الليل الجائعة فسحة لهدأة. المدينة تموت. كان لزاماً على المدينة المطعونة أن تموت وإلاّ لتراكم الطاعون تراكم المدن المطعونة واستفحل الوباء، وهو قاتل لا نجاة منه.
ليس في المشهدية الحزينة أثر لثورة مقموعة، لنداء حرية وتحرّر، ماركسياً كان أو ليبرالياً أو حتى أياً من الأشياء القومية التي ماتت مبكراً، أو حتى جنوحاً فاشيّاً. ليس في الأمر من ثورة أصلاً. لم يكن هناك من بيئة يمكن أن تنتج ثورة. في ظلّ الحزب الواحد لا ينجو من القمع إلا شيء أوحد: الدين. حتى لو أراد، فإن النظام لن يستطيع أن يطارد الصلوات الخمس ولا فريضة الصيام ولا أن يمنع الآذان ولا تلاوة فاتحة الكتاب. لا يستطيع منع العيد. لا يستطيع منع المأذون من عقد القران. كان من الأسهل للنظام أن ينتمي هو للدين وأن يبارك ويمارس الشعائر ويبني المساجد ويعلن إسلامه على الملأ. لم يتبق إلاّ قنوت الصباح كي يدعو المظلومون على الفاسدين وعلى اللصوص وعلى صنّاع الفقر وناهبي الخبز، وما أكثرهم في التركيبة العشائرية للأنظمة العربية. تتصاعد المظالم، وفي المقابل ترتفع وتيرة الدعاء ويزداد عدد الساجدين.
في مجتمع منهك بالبحث عن الخبز وممنوع من مقاربة أي منتج دماغي خارج ما تقدمه الحلقات الحزبية الغبية، قلة هم من يدركون معنى أن تثور، ماهية الثورة، مبادىء الثورة وقواعدها.

الثورة في المفهوم الشعبوي السائد هي حركة تمرد على النظام

الثورة في المفهوم الشعبوي السائد هي حركة تمرد على النظام، التصريح بالحلول مكانه، الحلم بأخذ دور الجلاد. في المفهوم الشعبوي أنت تكره جلادك، ليس لوعي فيك أنك أنت الضحية، بل لرغبة جامحة في أن تكون أنت الجلاد ويكون هو الضحية. الأمر مداورة. هكذا فهم ثوار الربيع الثورة وهكذا خاضوها. ولمّا لم يترك الفاسدون للفقراء شيئاً سوى الله، فإنّ حتمية الواقع تقضي بأن يكون الله هو قائد الثورة. ولمّا كان الله مفهوماً غيبياً، كان لا بدّ للطبقة الكهنوتية التي "تتواصل" معه وتحلّ مكانه، أن تقود الثورة لتصل إلى غاياتها. يصبح مفهوماً أكثر من أي وقت مضى مقولة أدونيس أنّه لا يؤمن بثورة تخرج من مسجد. كان من الممكن لأدونيس أن يتعاطى مع الموضوع بشمولية أوسع وأن يتجاوز التخصيص كأن يقول لا أؤمن بثورة تخرج من معبد. التجارب المسيحية القروسطية لم تكن أنجح من التجارب الإسلامية. كلّ التجارب الدينية حين تحترف الثورة تنتج مآسي وأحقاداً متوارثة وتراكم حالة البؤس. الثورة الفرنسية أرّخت لحالة ثورية فكّت ارتباط الثوار بالغيب، ألزمتهم بواقعية العيش وهمومه وحقوق الناس. تدنّت بالخطاب الذي كان يعالج حقوق الله على البشر إلى حق الناس على الناس. في الربيع العربي تسارعت المعسكرات إلى الإصطفاف لأخذ حق الله. مئات الفصائل التي نشأت على امتداد مساحة التحرر من قمع الأنظمة لم يخرج منها فصيل واحد يتمتع بوجود حسيّ عالج قضايا الفقر والبطالة وحقوق الإنسان. بدت الشعارات الثورية التي تبغي الحلول محل البنية المهترئة للأنظمة شديدة الرجعية، وأسوأ بما لا يقاس حتى من ممارسة الأنظمة ذاتها. لم يستطع الإسلام السياسي، حتى في أفضل حالاته وأكثرها مرونة، أن يقدّم نموذجاً واحداً يماشي روح العصر، وأن يخرج عن كونه خطاباً شعاراتياً في الفراغ: تجربة الإخوان المسلمين مع مرسي؛ تجربة حزب الدعوة وفساد نوري المالكي؛ "مدعشة" غزة؛ تذبذب النهضة التونسية وضياعها في البنية العلمانية التاريخية لتونس بورقيبة؛ ناهيك عن التجارب المأساوية للإسلام الراديكالي العقيم.
أمام انهيار منظومة "الثورة" لا معنى للرثاء ولا مبرر له. في تباكي الليبراليين العرب وبعض اليسار على المدن المقموعة عهر فاضح لا ينتمي بالمطلق إلى أي من المفاهيم المدنية أو الثورية. تشرئب مذبحة سبايكر بعنقها. عشرات مئات من جثث لمجندين عراقيين ذبحوا وديسوا بالأقدام قبل ذبحهم من قبل جمهور الثورة. المدينة كلّها، بالمعنى العرفي للتعبير، شاركت في المذبحة. المذبحة في مكان ما تنتمي للمدينة. لا ضير من إبادة الطاعون ولا بأس في معالجة المطعونين من أعراض الوباء. أن يشارك العالم، كل العالم، ذاك الذي تدخله المعاجم الجيوسياسية تحت مسمى دول مدنية في دفن الوباء وتحت أي عنوان هو أمر شرعي، ما دامت المخاطر المترتبة على الوباء أفظع بكثير من أي ممارسة استغلالية رأسمالية إمبريالية تقودها الدول الكبرى. لا يمكن إلاّ التصفيق للطائرات الأميركية وهي تدكّ الفلوجة وتكريت، تماماً كما ينبغي التصفيق للقاذفات الروسية وهي تنقضّ على حلب. تتخطى المشكلة البعد الإنساني وتتجاوزه إلى ابعاد أخلاقية تصل إلى الإرث البشري ككل. إنّ مدناً تهلل لمفاهيم العبودية والسبي والنهب والذبح وقطع الأطراف باعتبارها تشريعات ربانية، وتقوم بصياغة دساتيرها على هذه الأسس، توجّه في الحقيقة ضربة قاصمة لمجموع التضحيات الإنسانية التي انتهت بتوصيات جنيف وبشرعة حقوق الإنسان. ان يقوم بعض اليسار بصياغة السيناريو على أسس وهمية يفترض من خلالها وجود ثورة في مقابل نظام قمعي فهذا يختزل الحقيقة ويخفي نصفها الأبذأ. النظام القمعي لا إشكال فيه ولا لبس في تعريفه. أمّا تعريف الثورة فهو كذب محض إلاّ إذا كانت الجماعات المصابة بمتلازمة الرفق بالدواعش تتبنى نظريات فتح الشام ونور الدين زنكي باعتبارها نصوصاً ماركسية. نحن نحتاج فعلا إلى ثورة. لكنّها ثورة لن تقوم في ظلّ النفاق الغربي الذي يشارك في الهدم ولكنّه يحاذر الهدم الكليّ. الهدم الكليّ على طريقة باكونين هو ما نحتاجه. نحتاج إلى رماد مقدّس تخرج منه أشياء طاهرة معمّدة بالنار ومولعة برؤية المستقبل. نحتاج إلى نافذة على المتوسط توقظ فينا الذاكرة الجماعية التي قتلها وباء الصحراء لتشرق علينا شمس أثينا من جديد، في أفلاطونية حالمة لن ندركها، لكنّها قد تكون بداية الطريق.
* كاتب لبناني