كثيرة هي المصطلحات والمفردات التي أصبح من اللازم على حاملي لواء الحداثة والتنوير أن يظهروا مقاصدها وبيانها بشكل جلي وواضح، وأن يترجموا العمل بها بما يتناسب مع حقيقتها من دون إيهام الرأي العام الذي ينفعل غالباً على نحو متسرع ويتلقف الأمور بشكل مبسط من دون الالتفات إلى عمق تلك المقاصد والأهداف، حتى يقع في ذلك في مصيدة الذاكرين لها وأهدافهم الخفية والمقصودة.
ولنضرب لذلك مثلاً مصطلح «الحرية»، فهذا المصطلح فضفاض لدرجة كافية كي يكون مادة لإيهام الناس وإيقاعهم في فخاخ مشاربه وتوجهات أصحابه المتنوعة، الذين يقحمون قيماً جديدة في المجتمع الإنساني تنسجم مع سياساتهم الأيديولوجية، أكان على مستوى الحياة الفردية للإنسان أم الجماعية.
ومن الحرية تلك، تنشأ حرية التعبير عن الرأي وحق النقد وما شاكل، وإننا هنا في مقام الوقوف عند مصطلح النقد، الذي أصبح دارجاً بشكل كبير في الآونة الأخيرة، بخاصة في ما يتعلق بالدين ورجال الدين، وسوف يتمحور كلامنا في ما يخص هذه الجهة.
إذا ما طالعنا مسألة النقد في التراث الإسلامي، نجد أن له وجوداً واضحاً، بل يكاد يكون أمراً أساسياً، لبناء الشخصية الفردية والاجتماعية على حد سواء، يقول الله تعالى في القرآن الكريم في مقام نقد الذات:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون) سورة الحشر، الآية ١٨، وقال سبحانه وتعالى «وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ...» سورة البقرة، الآية ٢٨٤.
وما ورد عن الرسول الأكرم (ص) أنه قال: «أكيسُ الكيّسين من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت»، وكذلك ما ورد عن الإمام علي (ع): «حاسبوا أنفسكم بأعمالها وطالبوها بأداء الفروض عليها» وغيرها من الروايات، بل ورد التركيز في محاسبة النفس في كل يوم، حيث ورد عن الإمام جعفر الصادق (ع) «حقّ على كل مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كل يوم وليلة على نفسه فيكون محاسب نفسه، فإذا رأى حسنة استزاد منها وإن رأى سيئة استغفر منها لئلا يخزى يوم القيامة»، وكل ذلك في ما يتعلق بتصرفات وباطن الإنسان وعلاقته بالله تعالى، وعلاقته بمن وبما حوله.
ولا يعني ذلك أن النقد هذا مخصص للفرد فقط بل للمجتمع عامة أيضاً، فما ينطبق على الفرد ينطبق على المجتمع.
ولهذا النقد ضوابط عديدة كي يكون إيجابياً وهادفاً، وإلا فإنه يصبح مفسداً عدا عن كونه غوغائياً، كما عليه الكثيرون الآن ممن يعتبرون أنفسهم في عداد المنتقدين.
وممارسة النقد هي مسألة استفزازية تحريضية هامة، خصوصاً فيما يرتبط بالواقع الاجتماعي والديني المعيش، بهدف ضمان الأصلح دائماً، غير أن الأهم من ذلك أن تكون هذه الممارسة بطريقة تساهم في تصحيح المسار الحركيّ للمجتمع، ولهذا فإنه يحتاج إلى مزيد من الإتقان في طريقة النقد وأسلوبه، وهذا خلافاً لما قد يقوم به البعض حين يمارس النقد على الآخر، فإن ذلك إما أن يكون:
ــ لمجرد الممارسة النظرية لهذه العملية المهمة والخطيرة في آن، فيكون من قبيل النقد للنقد فقط فهو الوسيلة والغاية، كمن يمارس الاختلاف مع الآخر لمجرد الاختلاف.
وهذا ما نعانيه في الظروف الحالية من قبل اللادينيين أو «المتحررين» من القيود والأحكام لمآرب نفسية وشخصية بحتة لا علاقة لها بالتعقل والثقافة البناءة.
ــ أو يكون الغرض إفشاء سلبيات ونقائص الآخر لأنه يختلف في الرؤية والموقف ويخلق رأياً أو تموجاً آخر.

النقد البناء يستلزم
التمتع بلياقة القدرة
على فهم الآخر

فمثل هؤلاء يتطرقون لقضية ما ويسهبون فيها، وقد يصل الحال بهم إلى الهجوم العنيف وغير الموضوعي على فكر معين أو شخصية معينة أو جهة معينة أو مذهب معين ويستخدمون كل طاقاتهم ووسائلهم الكلامية والإعلامية ويبذلون وقتاً واسعاً في سبيل ذلك، بل قد يكون هدفهم الوحيد هو مجرد الاستهزاء، وهم مع كل ذلك يكونون في حالة جهل بسيط بل مركب بالموضوع الذي يوجهون سهام نقدهم له ولا قدرة لهم على القراءة المتأنية لذلك الموضوع، مع أن هذا أولى أولويات المنتقد البناء.
فالنقد البناء يستلزم التمتع بلياقة القدرة على فهم الآخر، وكذلك القدرة على تقليب الأمور والأفكار وعلى خلق الاحتمالات التي يمكن أن يقصدها هذا الرأي أو ذاك الموقف، وينبغي أيضاً توجيه كلام الآخر توجيهاً حسناً في بادئ الأمر لا أن يُوجه توجيهاً سيئاً، وهذا ما نستنبطه من كلام الإمام علي حيث يقول «احمل أخاك على سبعين محملاً». (أخاك في الدين أو في الخلق).
وقد ذكر القرآن نماذج عديدة عن بعض الأنبياء في تحديد وظيفة الناقد الحقيقي المخلص لأجل تصحيح ممارسات الناس عامة غير المتوافقة مع الواقع القرآني بصورة صحيحة، ففي قوله تعالى على لسان نبيّه إبراهيم (ع): (إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) سورة الشعراء، الآيات ٧١-٧٦، حيث ينتقد إبراهيم (ع) قومه على عبادتهم الأصنام من دون الله تعالى ولكن بطريقة إيجابية تهدف إلى تصحيح مسار عبادتهم وكذلك في قوله تعالى يخاطب المسلمين في بعض ممارساتهم الخاطئة مع النبي (ص) (يَا أَيُّهَا، الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بـــِالْقَوْلِ كَجَهْــــرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكـــمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ... ) سورة الحجرات، الآية٢، أو في علاقاتهم مع بعضهم بعضاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ...). سورة الحجرات الآية 12.
وعند القيام بعملية استقصاء لجميع صور النقد في القرآن، لا نجد مكاناً للموقف السلبي في عملية النقد للإنسان، وحتى في سيرة الأنبياء (ع) نستطيع القول بأنهم مارسوا ذلك في أحسن صوره وأكملها، بل نجد كيف أن القرآن يدفع المسلمين للتخلي عن كل ما من شأنه أن يلصق بالدين وهو ليس من الدين، فقد نهى القرآن عن سبّ غير المؤمنين به أثناء الحوار كما في قوله: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ...) سورة الأنعام، الآية ١٠٨، فإن لم يكن النقد بهذه الصفات فحينها لن يحقق الغرض المرجو، بل ويعتبر أمراً غير حضاري.
ومن هنا نجد توجيهات رموز المسلمين كالنبي محمد (ص) والائمة، تصب في خانة التركيز على الجوهر الحقيقي للنقد، والابتعاد عن كل عملية تشوب الحوار بالسلب، فمنعوا السب والتراشق لمعرفتهم بالآثار الجانبية الخطيرة لانتشار هذه الطريقة من التحاور.
وفي قراءة سريعة لحالة النقد التي تعترضها الثقافة الإسلامية أكان من حيث العقائد أم من حيث بعض الأحكام الشرعية، نجد أن أكثر الانتقادات هذه لا تحمل صفات النقد الموضوعي، ومنشأ ذلك بشكل عام هو الجهل بحقيقة الإسلام، مع غفلة هؤلاء على أن هذا الدين ليس وجهة نظر، بل إنه دين فيه ما فيه من الترابط والانسجام بين عقائده وأحكامه على المستوى الدنيوي المرتبط مباشرة بالآخرة التي يؤمن بها، إضافة إلى أن حقيقة هذا الدين كما يؤمن بها أصحابه ناشئة من أوامر الله تعالى.
وكذلك فإن الوضع الأمني الذي حكم المنطقة الإسلامية من إرهاب تحت شعارات إسلامية زائفة منذ بعض السنين ساعد في إيجاد نقمة فكرية موهومة، فوجد البعض لقمةً سائغةً لتحرير أفكارهم الشخصية على الدين كله، متناسين أن من يقوم بهذه الأفعال الشنيعة لا يمثلون الإسلام على لسان كتابه وأهله.
وبالتالي فإننا بحاجة ماسة لإيضاح مفهوم النقد الصالح، وما تقدم ليس إلا نموذجاً يمكن الاعتبار به، وعلى العاملين في شأن النقد أن يكونوا أكثر موضوعية ليتسنى لنا إيجاد الثقافة المجردة عن الحيثيات الشخصية والخلفية.
*باحث لبناني