لم يكن لي أبداً «لقاء» مع فيدل كاسترو، بالمعنى المتعارف عليه للقاء. لكن تصادف مرات عديدة أن أكون موجوداً قربه. في دراستي الثانوية دخلت مدرسة لنخبة الطلاب الحاصلين على منحة دراسية مع تدريب شبه عسكري، تقع خارج هافانا. مؤسس المدرسة هو كاسترو نفسه، لكي تكون جزءاً من مسار البرنامج التعليمي الشامل للثورة.
كانت المدرسة مخصصة للطلاب المتفوقين دراسياً من أبناء أفقر فئات العمال والفلاحين، فقد كانت قناعة كاسترو هي أن أكبر المواهب في العلم والفن نجدها عند الناس العاديين، «في طبقات الشعب العميقة» كما يقول، وليس عند الطبقات العليا فقط.
كان كاسترو يزورنا من دون سابق إنذار، غالباً في منتصف الليالي (لدواع أمنية) ويلعب كرة السلة مع التلاميذ. أذكر تحشد قوة الحماية، المؤلفة من فتيان من العمال الفقراء، وكلابهم المخصصة للبحث عن القنابل. وأذكر أن شعورنا بالرضى كان ممزوجاً بشيء من الرعب: فقد كنا نعلم بأن الرجل الذي كان يجلس على العشب معنا بعد المباراة، ويتحدث عن تاريخ كوبا منذ كولومبس إلى ديكتاتورية باتيستا، يمكن في أية لحظة أن يكون هدفاً لهجوم نذهب نحن أيضاً ضحية له.
كان كاسترو يقول: «لا يمكنني قضاء ليلتين في مكان واحد وإنما علي التنقل هنا وهناك لكي لا تعلم المخابرات الأميركية أين أنا. وإلا سيقتلونني». كان لكاسترو صوت نسائي تقريباً وكان لطيفاً وهادئاً، لكنه كان يمكن أن يعبر عن غضب عنيف حين يتحدث عن اللاعدالة، وخصوصاً عن تدخل الولايات المتحدة في الشؤون الداخلية لكوبا. «بمقدورهم أن يقتلوني، لكن الثورة ستبقى حية»، كما قال مرة في هافانا.
لأكثر من ستمئة مرة، نجا من قاتليه الذين أرسلتهم المخابرات الأميركية. وأظهرت محاولات قتله كم من قوى هائلة تعاديه. «كنا في حالة هستيريا إزاء كاسترو»، قال روبرت مكنمارا، وزير دفاع الرئيس كينيدي، بعد أزمة خليج الخنازير عام 1961.
استفاد كاسترو طوال حياته من دعم شعبي غير مفهوم بالنسبة إلى المراقبين الأجانب والدبلوماسيين الأجانب، وغالباً ما ارتكب الصحافيون الخطأ النمطي بأن يقيّموا كاسترو وفقاً لخبراتهم عن دول أوروبا الشرقية. لكن كوبا ليست ألمانيا الشرقية. فالمعلم السياسي لكاسترو هو الكوبي خوسيه مارتي، الشاعر والمحرض المتهور. والشعار الذي اتخذه كاسترو لنفسه هو شعار مارتي: «البؤس ليس حادثاً فردياً، إنه جريمة عامة». وكان مارتي قد وصف الولايات المتحدة «بالوحش الشمالي الذي يحتقرنا». من دون معرفة بتراث مارتي المعادي للإمبريالية، لا يمكن فهم كاسترو ولا كوبا ما بعد الثورة. كتب الصحافي في «نيويورك تايمز»، تيد زولك، – الذي قارن كاسترو مع لينين وستالين وماو وتيتو – واصفاً كاسترو بالقول: «ليس هناك قائد ثوري سواه في العصر الحديث أخذ على عاتقه مثل هذه المخاطر أو انهمك بأهوال المؤامرات والتمردات والحرب المفتوحة». لكن عند مراجعة النتائج، سنلاحظ أن كل خطوة في المسار السياسي لفيديل كانت مترسخة في التاريخ الكوبي. وحتى تحالفه مع الاتحاد السوفياتي كان شراً لا بد منه لكي تكسب الثورة الحرب المفروضة عليها من الولايات المتحدة، تلك الحرب التي بدأت بعد النصر (1959) مباشرة، والتي أدت إلى أن تؤمم كوبا 5911 شركة أميركية عام 1960، وعندها أصبحت كوبا مشكلة كبرى للولايات المتحدة. فقد مثلت «كوبا كاسترو» منذ ذلك الحين، وبدعم من الغالبية العظمى من الشعب الكوبي، الجنين الخطير لأميركا لاتينية أخرى غير تلك التي كانت «الحديقة الخلفية» لرأس المال الأميركي الشمالي. وقد عاش كاسترو بما يكفي ليرى كيف أُجبِرت الولايات المتحدة على الجلوس والتفاوض مع الجزيرة الصغيرة بعد 50 سنة من محاربتها لها، تلك المحاربة التي سببت معاناة لا داعي لها لملايين الكوبيين. وفي المنظور نفسه رأى كاسترو في التدخل العسكري الكوبي في أفريقيا لتحرير المستعمرات القديمة إنصافاً تاريخياً لملايين العبيد الذين نقلوا إلى كوبا خلال الحقبة الاستعمارية. فجاء الانتصار الكوبي على جيش جنوب أفريقيا العنصري في ساحة المعركة أثناء حرب أنغولا ليحطم معنويات جيش نظام حكم «الأبارتايد». حتى إن نيلسون مانديلا قال في حفل تنصيبه رئيساً لصديقه فيديل: «نحن مدينون بهذا اليوم لكم».

أظهر
انتصار كوبا
في أزمة
خليج الخنازير
أن هزيمة
أميركا ممكنة
ولنتذكر أن تشييع نيلسون مانديلا هو المناسبة التي تصافح فيها باراك أوباما وراؤول كاسترو للمرة الأولى.
لا جدال في أن انتصار كاسترو على سعي الولايات المتحدة للهيمنة قد غيّر تاريخ النصف الغربي من الكوكب. يكتب أستاذ العلاقات الدولية في جامعة غوتنبيرغ، سفانته كارلسون، في كتابه «الحديقة الخلفية لأميركا» (1996) أن «استيلاء كاسترو على السلطة في ليلة عيد الميلاد عام 1958 ونهار الميلاد عام 1959 هو على الأرجح أحد أهم الأحداث في كل تاريخ أميركا اللاتينية خلال القرن العشرين». فطوال الفترة ما بين عامي 1902- 1959، كانت الولايات المتحدة تمتلك كوبا، التي حكمها ديكتاتوريون دمويون وساسة فاسدون مدعومون من الولايات المتحدة. ومن هذه الحقيقة المريرة ولد تشكك كاسترو بمفهوم الولايات المتحدة للديموقراطية. لقد أضحت كوبا كَرْباً لساسة أميركا. فانتصار كوبا في أزمة خليج الخنازير، حيث شارك كاسترو في خط النار الأول، أظهر لجميع الشعوب بأن من الممكن هزيمة الولايات المتحدة. ثم فشلت السياسة العدوانية ضد كوبا، التي قامت على الحصار الاقتصادي، والتخريب، والحرب الكيمياوية، والأعمال الإرهابية، في إسقاط الثورة. قالت ماري همنغواي، أرملة الكاتب الشهير، للرئيس كينيدي عام 1962 بأن سياسته تجاه كوبا «غبية، لا واقعية وغير فعالة». وفي كانون الأول/ ديسمبر 2014 عاش كاسترو اللحظة التي اعترف فيها أوباما بذلك.
كثيرون من كوبيي المنفى احتفلوا بموت كاسترو، لكني لم أكن أحدهم. وقد حزن العالم الثالث لموت كاسترو، وحزنت أنا أيضاً. والآن لم يعد هو موجوداً في عالمنا لكني أظن بأن العالم الثالث سيظل يذكره كمثال للنصر.
جاء فيديل ولعب معنا كرة السلة مرة أخرى. وغضب لخسارة فريقه أمام بضعة طلاب كان يمكن أن يضحوا بحياتهم من أجله. وعندها جرؤت على أن أطرح سؤالاً وحيداً: هل سيأتي يوم تصبح فيه كوبا صديقة للولايات المتحدة؟ فأجاب: «لقد اضطرونا للدفاع عن أنفسنا. منذ 1960 ونحن لا نستطيع أن نتخذ قراراً واحداً في وقت السلم». وكان هذا مع الأسف صحيحاً. ولو لم يكن الوضع كذلك لربما لم يكن في كوبا سجناء سياسيون أو ملاحقة للمعارضين أو تقييد لحرية التعبير. لا أحد يدري كيف كانت ستبدو كوبا اليوم من دون العداء الأميركي لها. لقد كان انشغال كاسترو الدائم هو استقلال كوبا وتقديم الأفضل للفقراء. وكانت هذه هي الأهداف التي دافع عنها حتى نهايته. وبالنسبة إلى ملايين الناس الفقراء فإن هذه الحقيقة ستظل تمجد ذكراه في قلوبهم.
*كاتب وشاعر كوبي
(نُشر المقال في صحيفة «سيدسفينسكا» السويدية، ترجمة سمير طاهر)