كتب نورمان ماكراي، نائب رئيس تحرير مجلة «الإيكونوميست» في عدد يوم 27 كانون أول/ ديسمبر 1980 (ص 15)،النبوءة التالية: «لو أن التطورات استمرت على زخمها الاجتماعي والاقتصادي الراهن، مما يجب أن يرصد من قبل أي جهاز يملك ذكاء كافياً لكي يصاب بالفزع، فإن مجمل النظام السوفياتي المتعفن يمكن أن يواجه ثورة على طراز عام، قبل عام 1989».
تحققت هذه النبوءة في خريف 1989 مع انفجار بنية دول «حلف وارسو»، ما كان إرهاصاً بتفكك البنية الداخلية للاتحاد السوفياتي في الأسبوع الأخير من عام 1991.
كان يمكن تلمس إرهاص ذلك، من خلال الانفجار البولندي عبر حركة نقابة التضامن ضد الشيوعيين الحاكمين في وارسو بدءاً من شهر أيلول/سبتمبر 1980: هنا، يبدو أن غبار السياسة الخارجية كان يمنع رؤية ذلك عند الكرملين، عندما كانت هزائم وانتكاسات السياسة الأميركية في فييتنام (1975) وأنغولا (1976) وإثيوبيا (1977)، وأفغانستان (1978)، وإيران ونيكاراغوا (1979)، توحي بأن هناك تراجعاً في قوة واشنطن لصالح موسكو في نظام الثنائية القطبية. شجع هذا التفكير عند الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف، ما قدمه الرئيس الأميركي، جيمي كارتر، من تنازلات في اتفاقية «سالت 2»، حزيران/ يونيو 1979، الخاصة بالأسلحة الاستراتيجية للقبول بحد أعلى متساوٍ عند الطرفين في عدد الصواريخ العابرة للقارات والقاذفات البعيدة المدى وهو ما لم يكن موجوداً في «سالت1» عام 1972 مع نيكسون وكيسنجر. لم تكن هذه القراءة السوفياتية للضعف الأميركي بعيدة عن قرار بريجنيف بغزو أفغانستان في 27 كانون الأول/ ديسمبر 1979. على الأرجح أن انتخاب رونالد ريغان، وسقوط كارتر أمامه في انتخابات الرئاسة الأميركية في 4 تشرين ثاني/ نوفمبر 1980، كانت انتفاضة مجتمعية أميركية ضد ضعف إدارة كارتر أمام السوفيات وتحبيذ لقراءة ريغان القريبة من رؤية نورمان ماكراي بأن الوضع الداخلي الاقتصادي ــ الاجتماعي هو العامل الحاسم في السياسة الخارجية وليس العكس. عملياً كان الاقتصاد هو سبب انهيار الامبراطورية السوفياتية: طرح ريغان في آذار/ مارس 1983مبادرة الدفاع الاستراتيجية: «حرب النجوم» التي عنت إمكانية علمية لإبطال مفاعيل الصواريخ النووية العابرة للقارات عبر أقمار صناعية، وهو ما عنى أن مبدأ «التعادل النووي» بين العملاقين يمكن أن ينتهي، وهو المبدأ الأساس الذي قام عليه التوازن الدولي في الحرب الباردة منذ لحاق موسكو بواشنطن نووياً عام 1949. كان السوفيات متقدمين علمياً في هذا الإطار، بحكم تفوق الروس التقليدي في الرياضيات، إلا أنهم كانوا غير قادرين اقتصادياً على خوض هذا السباق للتسلح. في عام 1985 أتت بيريسترويكا ميخائيل غورباتشوف انطلاقاً من هذا الضعف السوفياتي، وفي اتفاقية واشنطن في الشهر الأخير من 1987 عندما تنازل غورباتشوف عن ربط إلغاء «حرب النجوم» عند الأميركي بشرط تفكيك الصواريخ السوفياتية (س س) المصوبة نحو العواصم الأوروبية، وهو ما كان محور السياسة السوفياتية بفترة 1983-1987، كان هذا يعني استقالة سوفياتية من وضعية الطرف الثاني في الثنائية القطبية للعالم: ترجم التراجع الدولي لموسكو في تفكك منظومتها الإقليمية، أي سقوط الأحزاب الشيوعية في منظومة دول حلف «وارسو» عام 1989، ثم في تفكك البنية الداخلية للاتحاد السوفياتي بعد عامين من تفكك الإقليم.

الهدف هو تجريع روسيا الكأس المرة عبر إدخال كييف في منظومة «الأطلسي»

كان الاقتصاد هو الأساس في كل ذلك: عندما حصل التراجع في السياسة الخارجية، وهو الآتي من الاقتصاد وبفعله، تحركت البنية المجتمعية، في استغلال لضعف الحاكمين، للمطالبة بشكل جديد متمثلاً في (الديموقراطية السياسية) بعيداً عن الحزب الواحد وللمطالبة بـ«اقتصاد السوق» بعيداً عن «الاشتراكية» التي كانت عملياً هي رأسمالية الدولة. في بكين كان هناك رجل يقرأ جيداً معنى البيريسترويكا، هو دينغ سياو بينغ: في 3 حزيران/يونيو 1989 أنزل الدبابات إلى ساحة (تيان آن مين) في العاصمة وسحق حركة الطلاب (5000 قتيل) وأقال أمين عام الحزب الشيوعي الصيني زهاو زيانغ الذي كان يشجع الطلاب المطالبين بالتعددية السياسية. أدرك أن الاقتصاد هو الحصن، وهو المحرك، لذلك انفتح على الغرب لمبادلة التعاون الصيني مع الأميركان بالتكنولوجيا الغربية، وفتح الباب لثورة رأسمالية صينية بقيادة الحزب الشيوعي، في إطار معادلة: وحدانية سياسية وتعددية اقتصادية. تفادت بكين بذلك مصير موسكو غورباتشوف، وهي في أواخر العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين قد أصبحت هاجس واشنطن كما كانت موسكو 1945 ــ 1987.
في حزيران/ يونيو 2009، كان طرح المرشح لانتخابات الرئاسة الإيرانية مير حسين موسوي، يتمثل بشعار إيران أولاً: وفق ما أعلن موسوي آنذاك، فإن المواطن الإيراني أولى من «حزب الله» في لبنان وحركة «حماس» في فلسطين بالأموال الإيرانية وأن السياسات الإيرانية في الإقليم المتصادمة مع واشنطن هي التي تؤدي إلى الحصار والعقوبات الدولية التي تخنق الاقتصاد الإيراني. كانت وجهة نظر موسوي تقول بأن اقتصاداً ضعيفاً يأتي في أسباب نشوئه من سياسة خارجية يرسمها الحاكمون في طهران وأن هناك حاجة إلى سياسة خارجية جديدة من أجل تحسين الوضع الاقتصادي ــ الاجتماعي الداخلي الإيراني. كانت الأصوات التي أخذها موسوي ضد أحمدي نجاد في تلك الانتخابات تقول بأن هناك كتلة كبيرة من المجتمع الإيراني، وبخاصة في مدن طهران وأصفهان وضمن الشباب والمتعلمين، ترى ذلك. مارس السيد علي خامنئي ضد متظاهري ما بعد تلك الانتخابات ما فعله دينغ سياو بينغ عام 1989 ثم قام بتشجيع التقارب مع واشنطن للوصول إلى اتفاق حول (الملف النووي الإيراني) لمقايضة الأخير بالاقتصاد وبسياسات غير صدامية مع واشنطن بل متوائمة معها كما يحصل في عام 2016 في العراق: نجح في ذلك عبر توقيع اتفاق فيينا 14تموز/ يوليو 2015. استطاع خامنئي النجاح في ما فشل فيه بريجنيف وهو مقايضة النجاحات في السياسة الخارجية في الاقتصاد وعبر «ذبح خاروف» البرنامج النووي الإيراني الذي كان بين خامنئي وباراك أوباما مثل خروف عيد الأضحى.
على هذا الصعيد، يمكن مقاربة تجربة فلاديمير بوتين: يحاول زعيم الكرملين عبر دمشق وكييف إثبات عودة الدور العالمي لروسيا. تختلف واشنطن مع موسكو حول الملف الأوكراني منذ أزمة 2014 فيما لا تختلف معها حول الملف السوري بعد الوجود العسكري الروسي في سوريا 30 أيلول 2015، وهو ما تجسد في توافقات (فيينا 1 وفيينا 2 والقرار 2254 ومؤتمر جنيف 3)، سوى في فترة ما بعد فشل اتفاقي موسكو في 15 تموز وجنيف في 9 أيلول، يضغط البيت الأبيض على الكرملين عبر الخاصرة الاقتصادية الروسية الضعيفة بسبب أوكرانيا، عبر سحب الاستثمارات الغربية من روسيا وعبر خفض سعر النفط، وليس بسبب سوريا.
الهدف هو تجريع روسيا الكأس المرة المتمثلة في إدخال كييف في منظومة الأطلسي الدفاعية وفي منظومة بروكسيل الاقتصادية للاتحاد الأوروبي من أجل جعل روسيا دولة معزولة بجدار غربي عن القارة الأوروبية يمتد بين البحرين: الأسود والبلطيق.
مقابل هذا واشنطن لا مانع لديها من المرونة والتنازل لروسيا في سورية. لن يكون دونالد ترامب مختلفاً عن باراك أوباما في هذا السياق، وعلى الأرجح إن الوسيلة الأساسية لإقناع بوتين بذلك تتمثل من خلال الضغط الأميركي على الاقتصاد الروسي الضعيف الذي تسبقه الهند وإيطاليا، والذي لن يكون رافعة كافية لطموحات بوتين في العودة بالكرملين إلى زمني خروتشوف وبريجنيف على صعيد العلاقات الدولية.
* كاتب سوري