ما هو بادٍ في المشهد الحالي للمنطقة، يفيد بوضوح أن المعالم السياسية القديمة والخرائط الجغرافية المعهودة آيلة إلى الانحلال والزوال، وأنّ كل ما يحصل من صراعات دموية واشتباكات أيديولوجية يُنبئ عن ختامية مرحلة وبدء مرحلة جديدة لا تزال تتلّمس الطرق والأساليب والأفكار والمؤسسات الإحيائية لبروزها.
لا تخلو التحولات الجارية من متاعب وأثمان باهظة لكنّها سنّة من سنن الحياة التي بيّن قوانينها وسيروراتها كبار علماء الاجتماع والتاريخ كابن خلدون وأرنولد توينبي.
كل جغرافيا الأرض السياسية طرأت عليها التغييرات من جهة المساحة والحدود والسعة والضيق، وكل شعوب الأرض خضعت لتقلّبات وتبدّلات في معتقداتها وأفكارها وتقاليدها.
لا شيء يبقى كما هو تماماً، خصوصاً عندما تفقد الدول قوتها الأخلاقية والروحية وتماسكها الاجتماعي وتعجز عن الاستجابة للتحديات الداهمة. حينئذٍ لا يبقى أمامها إلا مواجهة التغيير المحتم. ولبنان على فالق هذه التغييرات. الشرخ في روحه يوازي الشرخ الذي يصيب بلدان المنطقة من حوله التي تنهار تحت تناقضاتها الذاتية واهتزاز موازين القوى الإقليمية والدولية، بفعل السلوك التدميري لبعض الدول المتغوّلة كالولايات المتحدة التي ترى في حدود وسيادات بلدان المنطقة مجرد عتبات لا ضير في خرقها وتجاوزها وتحطيمها. هو إذاً زمن الفكاك والانفصال عن القديم أخلاقياً وسياسياً.
لا أخلاق الأمس هي نفسها أخلاق اليوم، ولا منظومة الحياة الاجتماعية والسياسية بقيت على حالها. الزمن يتحرك بكل قوته نحو واقع تاريخي جديد ليصنع زمناً آخر. مع الهزة التي ضربت المنطقة أواخر عام 2010، حلّ زمن جديد هو نتاج تحول ثقافي واجتماعي وسياسي عميق دخلت في تشكّله عوامل كثيرة. وفي لبنان تمثلت أبرز نتائج هذه الهزة في ارتفاع منسوب الطائفية، ومعدلات الفساد، والشراهة في تقاسم المغانم، وبروز نزعات الأنانية والعنصرية والاتكالية واللامسؤولية والعنف الاجتماعي، ثم تنامي ظاهرة الميوعة والتفاهة عبر وسائل الإعلام، وغيرها من الظواهر الأخلاقية والاجتماعية التي تفتح الطريق رحباً أمام سيرورة الانحدار والانهيار والسقوط المريع. أمّا الوضع السياسي والأمني الذي نراه اليوم مريحاً فلا يعني أنّ لبنان الذي نجح في ردع العدو الصهيوني وتجاوز موجة التطرف والإرهاب بشكل كبير قادر على تجاوز ما هو أقسى ليستمر موجوداً بصيغته الحالية.
المشكلة ليست في هذه النقطة بالذات التي تحتاج إلى نقاش لمعرفة كيفية استجابة لبنان لهذين التحدّيين، بل في الفكرة التي تأسّس عليها وظنّ مبتدعوها والمدافعون عنها أنها صالحة لكل زمان.

لبنان فكرة ليست لشعبه لأنه صيغ وفق موازين خاصة بمصالح المستعمرين

لبنان فكرة ليست لشعبه. فكرة لم يتم إنتاجها لشعب يسعى نحو الحرية والعدالة ويتطلع إلى المشاركة في الحياة الديموقراطية على مبدأ المساواة في المواطنية.
لبنان صيغ وفق موازين خاصة بمصالح المستعمرين وأتباعهم في الداخل. المستعمرون أرادوا السيطرة على الطبيعة وأتباعهم أرادوا السيطرة على البشر. فكانت هذه المعادلة القاسية التي تحمّل معها اللبنانيون المآسي والويلات والحروب والأزمات على أنواعها. بيد أنّ كل ما حصل بعد ذلك من تعديلات وتبدّلات وخروجٍ عن الأطر المؤسسة للكيان اللبناني، هو في إطار سنّة التغيير التي لا يستطيع لا الاستعمار ولا أذنابه إبطالها. ومنذ لحظة التأسيس الأولى وحتى هذه اللحظة التي يطغى عليها اللايَقين دخل المجتمع اللبناني في صراع حاد بين الدولة الطائفية العميقة ومن يحاول اشتقاق مبادئ وقواعد لعقد اجتماعي جديد.
صراع يزداد تعقيداً في مسارات العيش ومفارقات المكان ومناهج التحديث وأنماط السيطرة ووسائل التغيير، وإذا ما ربطنا ذلك كله بالقراءات المتباينة للتطورات في المنطقة، فسيتبين لنا أنّ الخرق قد اتسع على الراتق، ولبنان الذي قيل فيه الكلام الكثير في مسوغات وجوده وشروط بقائه يهتز من داخل بناه وسياساته ويواجه أزمة معنوية تكبر يوماً بعد يوم لتلتقي مع السيل العارم الذي يجتاح المنطقة وينبئ عن موتها التاريخي وولادة شكل جديد من أشكال التنظيم السياسي الذي يحتمل أن يقسّم الوحدات السياسية الحالية أو يضمّها إلى بعضها البعض على هدي ما سترسو عليه توازنات ما بعد عصر سايكس ــ بيكو. ثمة علامات جوهرية على التغيير الذي يطال جغرافيات البلدان العربية والذي ليس إلا انعكاساً لتغيير أعمق يطال المعنى. والمقصود هنا: أنّ التغيير استولى على طرائق التفكير وخرق جدران الإيمانيات والأيديولوجيات والقيم وكل أوجه النشاط الخاص والعام. في لبنان على سبيل المثال، فإنّ الاستقطاب الطائفي أعلى رتبة في الوجود والفاعلية من أي مسار إصلاحي، واختزال تطلعات الشباب بالعمل للحصول على لقمة عيش أو بالهجرة للخروج من جحيم الزبائنية والاستتباع الوظيفي يسدّ أبواب الأمل ويشكل كابوس قهرٍ للذات، والنهم الذي يسيطر على رجال المال والسياسية يكشف عن قوى عميقة تتحرك داخل المجتمع خالية من الرحمة والإنسانية. كل ذلك يحيل إلى أنّ النزاعات القائمة حالياً على مختلف الميادين هي تعبير عن ميكانيزم المتناقضات البنيوية، التي لا يجوز أن نطلق عليها بأنها نزاعات عابرة أو تعكس حالة مرضية طارئة وإنّما نزاعات من النوع المستمر والمتحرك الذي ضرب قواعد اللبنانيين في العيش الإنساني المشترك.
نزاعات ناشئة حكماً من الخلل الجسيم في التعليم والفكر والوعي والمعرفة. لقد انطوى الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي اللبناني الكلاسيكي على لائحة طويلة من المشكلات اليومية. وعلى قدرٍ كبيرٍ من التناقضات الفجّة خصوصاً التي تقف عند العلاقة بين الوسائل والغايات، وقد برز ذلك جلياً لحظة نقاش الاستراتيجية الدفاعية في قصر بعبدا بين القوى السياسية وما يتصل بتلك الاستراتيجية من أهداف كالسيادة والاستقلال والقرار الحر التي تتحرك جميعها في فضاء من الطوباوية والشعاراتية، لأنّه لا جدّية في استخدام الوسائل الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف إلا للبعض من هذه القوى. على كل حال، فإنّ الأزمات المتكررة التي يعاني منها اللبنانيون هي أزمات بالقلب، بالروح، بالضمير، وهذه الأزمات لا تكشف عن سوءات النظام وسياساته المعتمدة وحالة التمزق الداخلي فحسب، بل عن كون البناء الفلسفي للوطن عاجز عن حمل اللبنانيين وتطلعاتهم أكثر من ذلك، وعن عمق التحولات التي تجري الآن في القيم الأخلاقية الأساسية، وعن ذلك التدافع الحضاري العالمي المهول الذي يقع اللبنانيون في خضمّه ليرسم سؤالاً حاسماً عن الكيان انفلاشاً أو انكماشاً. فإذا كان انفلاشاً في جغرافيات الغير فمَن يقود هذا التوّسع وفي أي سياق، وإذا كان انكماشاً في جغرافيا الذات فضمن أي ظروف تاريخية داخلية وخارجية!
*كاتب وأستاذ جامعي