في التحليل، يكتب كلاوديو كاتز، هناك فارقٌ كبير بين أن تلوم مادورو لأنّه غير قادرٍ على تغيير الأوضاع أو حلّ المشاكل والخروج من الأزمة، وبين أن تعتبر أنّه مسبّبها. لم يتمكّن مادورو ــ وقبله تشافيز ــ من الحدّ من الفساد، وتقارَب سياسياً مع أثرياء فاسدين وبدأ بعقد تحالفاتٍ وصولية، وهو لم يقدر على إحداث تغيير جذري في الاقتصاد يجعله أقلّ عرضة لتقلّبات سوق النّفط والتخريب الاقتصادي من الدّاخل والخارج.
ولكنّ هذه العوامل كلّها، من الفقر والفساد الى انعدام العدالة، وصولاً الى خضوع البلد لتقلّبات السوق النفطي، موجودةٌ قبل مادورو وتشافيز، وقد أُضيف اليها العداء الأميركي والحرب الاقتصادية. قد يشتكي البعض من أنّ الإشارة الى طبيعة النظام الرأسمالي، والدور الأميركي و«الامبريالية»، وعن وجود نخبٍ تابعة مستعدّة ــ حرفياً ــ لتدمير بلادها حتّى لا تخسر مواقعها، أنّها حججٌ «مكرورة» وقديمة ومن المفترض لأيّ نظامٍ صاعدٍ أن يتوقّعها ويتحسّب لها. غير أنّ هذا لا يغيّر في الواقع شيئاً: أنّها موجودة، وهي تقرّر طبيعة الصراع السياسي؛ وأنّ الأغلبية من شعوب الجنوب، حتّى وهي تمرّ في مرحلةٍ تاريخية صعبة كالسياق الحالي، قرّرت أنها لا تريد الرضوخ لهذا النظام العالمي ولا تقبل بالموقع الذي اختاره لها فيه.

سمير أمين

في دراسةٍ حديثةٍ له، صدرت في آذار الحالي في مجلّة Labor and Society، كتب سمير أمين تحديداً عن الخيارات التي يمكن لدولٍ جنوبية صغيرة أن تعتمدها كبديلٍ لـ«العولمة الليبرالية» في عصرنا هذا. الخلاصة هي أنّ هذه المهمّة، لأيّ بلدٍ وحيدٍ في العالم الثالث في عصر الأحادية القطبية، بالغة الصعوبة. في الماضي كان يجري الكلام عن «امبرياليات» بالجمع، تتوسّع وتتنافس وتتصارع، وتخلق هوامش ومساحات للدول الصغيرة؛ اليوم أصبحت الامبريالية متركّزة ومهيمنة وتحكم العالم عبر «المثلث» كما يسمّيه أمين: اميركا واوروبا الغربية واليابان، وأي كلامٍ عن تعددية قطبية اليوم هو مبكرٌ وليس دقيقاً (في محاججةٍ طويلة، يشرح المفكّر المصري أنّ «تعدد القطبية» تلزمه عدّة شروط، منها أن تنفصل اوروبا عن «المثلث»، وأن تفضّل الصين جبهةً مع دولٍ ضعيفة على التسوية مع الغرب، وهذه كلّها صعبة التحقق).
بكلمات أخرى، الراديكالية التي خرجت في القرن العشرين قد هُزمت، ولم تصعد بعد جذريّة قرننا هذا، وفي هذه المرحلة «الوسطى»، يكتب سمير أمين، تكثر الكوارث والوحوش، وتكون احتمالات الفشل لتجارب المقاومة المعزولة أكبر من احتمالات النجاح. يفصّل الكاتب عدّة «أوهامٌ» تعتنقها النّخب الحاكمة في دول الجّنوب: وَهْمُ الدخول في المنظومة و«اللحاق» بالدّول المتقدّمة (وهذا يحصل غالباً تحت تأثير مكاسب اقتصادية آنية أو تحقق نموٍّ مرحلي، فيتخيل الحكّام بأن بلدهم أصبح على طريق ألمانيا)، وهْمُ انتاج «رأسمالية انسانية» عبر «إصلاحات» معيّنة، ووهْمُ العودة الى الماضي تروّج له حركات إثنية ودينية. الصّين كانت استثناءً، نجحت في «اللحاق» لأنّها قامت بثورةٍ ماوية وحكمتها نخبة ايديولوجية متماسكة وأقرّت اصلاحاً زراعياً حلّ «المسألة الريفية»؛ الهند والبرازيل ــ مثلاً ــ ليستا قادرتين على تحقيق الإنجاز نفسه، وهما تراوحان مكانهما بين ضغوط السوق العالمية، والريف الفقير، ونخبهما المعولمة.
من الطريف أنّ هناك انطباعاً رائجاً لدى الكثير من العرب بأنّ مدرسة التبعيّة والنظام العالمي تنادي بالانعزال والتقوقع والانفصال عن الاقتصاد العالمي، وهذا يعني امّا أنهم لم يقرأوا أدبيات هذه المدرسة في الاقتصاد السياسي منذ الستينيات، أو أنّهم لم يستوعبوا مفهوم «الفصل» de-linking، وفسّروه على أنّه دعوة للانغلاق (في الحقيقة، حتّى حين كان أمين، في الستينيات، يدعو الى اقامة تجمعات اقليمية في غرب افريقيا للاستقلال عن السوق الغربي، فهو كان يتكلّم على خلق أسواق تبادل واسعة، مندمجة مع معسكر اشتراكي داعم يغطي ثلث الكوكب. ومنذ هزيمة الاشتراكية، يكتب منظّرو التبعية بوضوح أن خيار المشروع المنعزل أو التجارب «الاختبارية» لن يكتب لها النجاح في سياق الهيمنة ــ هناك عدّة زوايا من الممكن عبرها نقد «نظرية التبعية»، ولكنّ باران وسويزي ومويو وأمين وزملاءهم ليسوا بهذه السذاجة والتبسيط). يقترح أمين ما يسميه «المشروع الشعبي السيادي» كطريقٍ لدول الجنوب في عصر الهيمنة، وهو ينادي بأن يكون الاقتصاد موجّهاً صوب الداخل، يسعى الى الاعتماد على النفس وحيازة أدوات التصنيع، وبـ«سيادة غذائية» عمادها تنمية الريف، وبممارسة «ديمقراطية شعبية» تسمح لهذا النظام بالاستمرار وباعادة انتاج نفسه.
هذه الوصفة، بمعنى ما، ليست جديدة وخلافية: كلّ الدول التي نجحت في مسار التنمية بلا استثناء، من ألمانيا وفرنسا الى كوريا واليابان، سارت على نهج «الاعتماد الذاتي» ــ وخاصة في مراحل النمو الحاسمة ــ وليس على نهج فتح الأسواق لمنتجات الخارج ورساميله. المسألة الزراعية، كما يشير العديد من الدارسين، لا بديل من حلّها في دول الجنوب والا ستظلّ الدّولة تحت ضغط «الفائض السكاني» الآتي من ريفٍ لم تحصل فيه تنمية (الفكرة هي أنّ النمط الاوروبي في تأسيس رأسمالية زراعية وملكية فردية في الريف نجحت هناك فقط لأن «الفائض» ــ أي ملايين الفلاحين الاوروبيين الفقراء الذين لفظتهم الرأسمالية ــ كانوا يصدَّرون الى «العالم الجديد»، يقول سمير أمين، ونحن اليوم لا نملك «اميركا واستراليا»، ولا هي كافيةً أصلاً لاستيعاب «الفائض» في دول الجنوب).

الحالة العربية و«الاسلام السياسي»

في النقاشات عن «التغيير» في بلادنا، والشكوى من غياب «بديل تقدمي» أو يساري أو اشتراكي، ينطلق الكثير من النّاس من فكرة أنّ التاريخ احتمالاته مفتوحةٌ بالكامل، وأنّ أيّ مشروعٍ يمكن أن ينشأ في أي وقتٍ ومكان. جزءٌ أساسي من قراءة الماضي والحاضر هو أن نفهم أنّ كلّ سياقٍ تاريخي تجد نفسك فيه يفتح احتمالاتٍ ويغلق أخرى؛ وأنّك ــ في اليمن مثلاً ــ قد ينتهي مشروعك وتسقط مقاومتك لأنّ الاتحاد السوفياتي تراجع وانهار، بصرف النظر عما تفعله أو لا تفعله. حين يستغرب هؤلاء صعود الحركات الاسلامية في مجتمعاتنا، ويعتبرونها خطوةً الى الوراء ونكوصاً عن تقليد الحداثة الكونيّة، فهم يرتكبون هذا الخطأ بالتحديد.
منذ الثمانينيات على الأقلّ، كانت الاشتراكية في تراجعٍ وانهزام، والجميع مؤمن بتفوّق النظام الرأسمالي الليبرالي، والاشتراكية توازي في رؤوس الناس الفقر والبيروقراطية فيما الرخاء والنمو تستعرضه الدّول الغربية. البلدان الاشتراكية نفسها كانت تتخلى عن سياساتها وتحاول العبور الى الضفّة الأخرى (ويستسلم أكثر مثقّفيها على المستوى النظري والفكري لسطوة السوق). في هذا السياق السياسي (حتى قبل سقوط الاتحاد السوفياتي) ليس من الممكن أن نتخيّل «بديلاً يسارياً» أو اشتراكياً يخرج فجأةً في العراق أو اليمن. بلادٌ ضعيفة مهدّدة وسياقٌ دولي تتقدّم فيه الهيمنة الليبرالية وتسود. لم يكن هناك دعمٌ دولي أو استعداد لحركةٍ كهذه، ولو صادف أن خرجت ثلّة من النّاس وقالت «الشيء الصحيح»، وطالبت بالاشتراكية مثلاً، فإنّ أحداً لن يتبعها في هذا الظرف التاريخي وسيسخر منها النّاس.
بمعنى آخر، مع انهيار المرجعية الكونية الماركسيّة، أصبحت أيّ حركة علمانية في العالم العربي تستلهم من التقليد الحداثي الغربي، وتتبع تياراته، تجد نفسها مباشرةً في المعسكر الليبرالي المهيمن، «الكونية البديلة»، وستنحو ــ لا محالة ــ نحو اسئلة «الديمقراطية» والانتخابات وخطاب المنظمات الدولية، الذي لا يستجيب لحاجات شعوبٍ تتعرض للغزو والإفقار ولا يحلّ مشاكلها. إنّ توقّع حركة ثورية شعبية في منطقتنا، تستند الى تراثٍ ماركسيّ مثلاً، هو محض مغالطة تاريخية بعد انهيار التجربة الشيوعية عالمياً. لهذا السّبب، من بين أسباب أخرى، كانت التنظيمات الوحيدة التي خرجت لمقاومة المدّ الغربي هي حركات اسلاميّة، ترتكز الى رأسمال رمزي محلّي، وتنطلق من تراث النّاس وعقيدتهم، فهذا كان كلّ ما تبقّى لهم.
هذه من الأسئلة التي لا يجيب عليها سمير أمين وآخرون، ويكتفون بتقديم «خريطة طريق» وانتظار تغييرٍ على المستوى الدولي، أو في المركز الغربي، يخلق شروطاً جديدة ويسمح بتحقيق «الوصفة». مثلما خرجت حركات اسلامية كانت صوتاً للمقاومة، وغيّرت تاريخ المنطقة والعالم، خرجت حركاتٌ أخرى من رحم المخابرات الأميركية والخليجية؛ ومثلما اعتمدت حركات اسلامية التنظيم الشعبي وجمعت حشود الفقراء، روّجت أخرى للرأسمالية ولاقتصاد السّوق. الفكرة هنا هي أنّه، قبل أن «تلوم» المقاومة على أنّها اسلاميّة، وتعتبر أنّ كلّ هذه الحركات سواء، عليك أن تفهم البديل المحتمل الذي كان يلوح في الزمن ذاته (حركات دينية محافظة ورجعية، تهتمّ حصراً بالطائفة والمذهب ولا تعادي الغرب، مع نخبةٍ تسيّر النّاس بقوة التقليد والخرافة)، وعليك أن تشرح لنا من أين، تحديداً، كانت ستخرج هذه «المقاومة العلمانية» في مجتمع عربي مهزوم، وسياق دولي معادٍ.

خاتمة

عودةً الى سمير أمين، هو يقول إنّه من الممكن للقومية أن تأخذ أكثر من شكل: قوميّة تحرريّة على طريقة حركات العالم الثالث، أو ــ على المقلب الآخر ــ خطابٌ تستخدمه نخبٌ حاكمة لتشريع النظام واستغلال الشعب. الفارق بين الاثنين هو الموقف من الغرب والامبريالية وجذريته. نهج المقاومة يدفعك ــ تلقائياً ــ الى طريق الاكتفاء الذاتي، والتحالف مع باقي دول الجنوب، والتحضّر لمقاومة الغربيين وحلفائهم عسكرياً. أمّا وهم «الانضمام واللحاق» فهو يجعلك ترى نفسك كمنافسٍ لجيرانك، ويكون نموّك و ارتقاؤك عبر استغلال البلاد الأفقر منك. وقد عبَرت أكثر من حركة استقلالية، خاصة في افريقيا، من النموذج الأوّل الى الثاني، وترافق فشل التجربة الوطنية في كثيرٍ من الحالات مع انكفاء الأنظمة الحاكمة الى حركات اثنية أو قومية موالية للغرب (كما في اثيوبيا وكينيا وغيرها).
فهِمَ الفنزويليون، منذ «استدارة» تشافيز الراديكالية، أنّه من الصعب أن تواجه كلّ هذه العناصر والأعداء وانت بلدٌ صغير وحيد، وحاولوا (على نهج أسلافهم الاشتراكيين في فنزويلا السبعينيات) مدّ جسور تعاونٍ مع دول الجنوب والصين وخلق «تكتّل» بديل، وربّما هم بالغوا في تقدير امكانيات مشروعٍ كهذا في عصرنا الحالي. لم تؤدّ هذه المحاولات الى نتائج ملموسة، بل وتراجعت العديد من الحكومات اليسارية في اميركا اللاتينية وسقطت، ويجد النظام الفنزويلي اليوم نفسه «محاصراً» سياسيا في قارّته نفسها. العبرة هنا هي أنّ نهاية العالم الأحادي الذي نعيش فيه، وتفكيك الهيمنة الغربية على مصائرنا، هو طريقٌ طويل ــ وقد لا نراه حتّى في أيامنا ــ وسيتخلّله فشل تجاربٍ وهزائم وتضحيات هائلة. ولكن، إن كان طريق المقاومة محفوفاً بالخطر واحتمال الهزيمة، فإنّ اختيار الاندماج في النّظام الرأسمالي العالمي يعني تلقائياً، بالنسبة الى أغلب شعوب العالم، الهزيمة المضمونة ــ فقرٌ ومكانٌ دونيّ وخسارة للسيادة. لا توجد وصفاتٌ جاهزة لبناء «العالم الجديد» ولكنّك، حين تتأمّل الخيارات، تفهم أن الطريق يبدأ مع سؤالٍ أساسي واحد، يحدّد كلّ ما يأتي بعده، وهو أهمّ من الهوية الايديولوجية أو المرجعية الفكرية أو الحزبيات الضيقة: هل تريد أن تقاوم، حقّاً، أم لا تريد؟