ليست خسارة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية التركية أمراً عارضاً، ولن يكون تأثيرها مرحلياً ومحدوداً. هي تأتي في خضم تراجع الحالة الإسلامية الإخوانية على كل الجبهات، وتتويجاً لانتكاس استراتيجية «صفر مشاكل». تركيا أردوغان هي الدولة الأكثر انغماساً في حروب المنطقة، لتحقيق مشروع «العثمانية الجديدة»، وهي في قلب قوس الأزمات الممتد من أوروبا إلى آسيا مروراً بالشرق الأوسط وأفريقيا. والاعتقاد السائد، بأن مأزق «العدالة والتنمية» سينعكس إيجاباً على المنطقة، قد يكون خطأً فادحاً.الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في دائرة الخطر الحقيقي، تنتظره معارك قاسية، وخياره الوحيد خوض مواجهة مصيرية، يرتبط فيها الداخلي بالخارجي ارتباطاً وثيقاً، ما قد يجعل هذا الرجل، وحزبه، خطراً داهماً على بلاده وعلى المنطقة.

أردوغان مجردٌ من مقصلته السياسية والقانونية التي طالما هدد بها وتوعد، وتكاد نتائج الانتخابات تنهي تفرده بالسلطة، وتهدد طموحه السلطاني، وتضعه وحزبه أمام مفترق صعب.
سيترك أردوغان العملية الديمقراطية تأخذ مجراها، ولكن إلى حين، فهو يريد من أي ائتلاف حكومي، الوصول الى الانتخابات المقبلة، والناخبون مقتنعون بفشل هذا النوع من الحكومات، فيحفزهم على منحه الأكثرية. لكنه يدرك عجزه الآن، ويعرف أنه لم يُبق صديقاً أو حليفاً، لا في الداخل ولا في الخارج. وكان قاسياً مع أخصامه وحلفائه ورفاقه، ولم يترك فرصة للانقلاب عليهم إلا واستغلها. وخسارته الأخيرة تفتح الباب واسعاً أمام الناقمين الذين انتظروا هذه اللحظة طويلاً.
الكرد باتوا أحد رسامي
الخريطة السياسية التركية، ولم يعودوا رقماً في حساب أحد

اللائحة تبدأ برفيق دربه الرئيس السابق عبد الله غول الذي يتحفز للثأر من تهميشه وإقصائه، واقتناص فرصة العودة، معتمداً على ولاء العشرات من نواب الحزب، وقاعدة شعبية، أساسهاً قواعد حزب الرفاه المنحل، فضلاً عن قربه من الزعيم الإسلامي فتح الله غولن، ويحظى بدعم اللوبي الإسرائيلي في تركيا، ودعم أميركي. وربما يخدمه صراع محتمل داخل «العدالة والتنمية»، يفجره بحث أردوغان عن كبش فداء يحمله مسؤولية الإخفاق الأخير.
فتح الله غولن زعيم جماعة «الخدمة» التي حاول أردوغان استئصالها من مؤسسات الدولة والمجتمع، ربما يبادر إلى هجوم مضاد، مستخدماً أنصاره ونفوذه في المؤسسات وفي الجيش والأمن والشرطة. قائد القوات البرية التركي وصف غولن بأنه «الرجل الأقوى في الجيش». تحرك غول وغولن قد يدخل الساحة الإسلامية التركية معركة لا يمكن توقع نتائجها.
في تركيا، يصعب تجاوز الجيش (حامي النظام العلماني)، الموالي للعلمانيين ولغولن، عدوي أردوغان اللدودين. هذا الجيش الغاضب من إبعاده عن مراكز القرار، لم تنس قيادته محاكمة وإهانة وإبعاد ضباطه بتدبير وتحريض من «السلطان» وحزبه.
أما الحزب الجمهوري، الخصم الطبيعي للإسلام السياسي، والأكثر معاناة من سطوة أردوغان الذي اتهمه بالمذهبية، ووصفه بحزب الكفرة والشاذين، لن يفوت فرصة لإخراجه من السلطة، وربما محاسبته. أما الحركة القومية التي تعتبر «ليونة» أردوغان تجاه الكرد، وسياسته الشرقية أقرب الى التفريط، تبقى الأكثر قرباً منه، وأهون الشرور المعروضة. لكن يستبعد قبول هذين الحزبين المشاركة في حكومة ائتلافية مع «العدالة والتنمية»، إلا بشرط تراجع أردوغان عن أسس مشروعه في المنطقة، وعن دعم الجماعات الإرهابية، وعن كل ما يعتبره حيوياً لنفوذ تركيا في المنطقة. والقبول بهذا الشرط، يعني نهاية مذلة لأردوغان وحزبه.
الكرد باتوا أحد رسامي الخريطة السياسية التركية، أوصلوا إلى البرلمان كتلة مقررة، ولم يعودوا رقماً في حساب أحد. (رهان أردوغان الانتخابي اعتمد بشكل أساسي على خسارة الكرد). وليس مستبعداً لجوءه، في لحظة صعبة، الى مناورة تكليف صلاح الدين دميرطاش تشكيل الحكومة، باعتبار الكرد «الحلقة الأضعف في تركيا» (المحكمة الدستورية حظرت حزبين كرديين من قبل). هو بذلك يحشر «حزب الشعوب الديمقراطي» في الزاوية، فإما أن يقبل التكليف بشروط «العدالة والتنمية»، وإما أن يرفض، فيبدو جاحداً للديمقراطية التركية التي منحتهم كياناً سياسياً قوياً، وناكرين «لجهود» أردوغان في الحوار معهم، وعائقاً أمام الحركة الطبيعية للدولة. في المقابل، قد يكون تكليف دميرطاش مغامرة غير محسوبة، أمام تعاظم حضور الكرد في تركيا، ونزعتهم التحررية، وقدرتهم، حالياً، على حماية مكتسباتهم الداخلية بحوار من موقع القوة مع الخارج. مع وجود رديف عسكري هو حزب العمال الكردستاني، وإقليم كردي في العراق، وآخر قيد التبلور في سوريا، كل ذلك سيشكل معضلة لأي حكومة تركية، إسلامية أو علمانية. ولا بد، هنا، من ملاحظة أساسية، فأول فضائية عربية ظهر دميرطاش على شاشتها هي «المنار» اللبنانية. وهذا مؤشر لا ينبغي تجاهله، ويستدعي من محور المقاومة تعاطياً جدياً خلال سعيه لنسج تحالفات إقليمية ودولية. فلا يمكن الركون إلى أن التحولات داخل تركيا ستكون لصالح هذا المحور، ما لم يكن جزءاً من محرك هذه التحولات والدافع نحوها.
المشهد الخارجي لا يقل تعقيداً، بالنسبة لأردوغان، فعلاقته بواشنطن والغرب تعيش هدوءاً هشاً، يخفي غضباً وخلافات عميقة. أردوغان لا يرى نصراً في سوريا من دون إسقاط النظام، فيما لا يشكل ذلك هاجساً أميركياً. مسلك أردوغان يؤكد اعتباره داعش والجماعات الإرهابية حليفاً استراتيجياً، وأداة لإقامة منطقة عازلة في سوريا، ويتشاطران هدف إعادة «أمجاد الخلافة». بينما تستخدم واشنطن هذه الجماعات أداة للتخريب والفوضى، تنتهي صلاحيتها بانتفاء الحاجة اليها. واشنطن تعتبر تسليح الكرد بديلاً من التدخل البري المباشر، فيما تعده تركيا تهديداً لأمنها القومي واستخفافاً بهواجسها. أردوغان حول بلاده لقاعدة لمعارضي النظام المصري، ويشن حرباً سياسية وإعلامية على السيسي، ويرفض الاعتراف له بأي شرعية. فيما تعتبر واشنطن تعاونها معه ودعمه ضرورة لحفظ مصالحها وتعزيز نفوذها في المنطقة. والتلاقي مع السعودية في بعض المحطات، لا يعبر عن حقيقة العلاقة بينهما. فالرياض تعتبر أنقرة منافسها الأقوى على قيادة العالم الإسلامي السني، وخطراً على وجود المملكة نفسها. وقد تعمل على دعم المعارضة، لمواجهة أردوغان و»العدالة والتنمية».
في هذه الأجواء، لا تبدو الانتخابات المبكرة حلاً لأزمة أردوغان، بل ربما تضاعف خسائره. هو يمتلك مذكرة برلمانية تخوله إرسال الجيش إلى خارج البلاد، لكنه يدرك أنها بلا قيمة من دون هيمنة فعلية على مؤسسات الدولة. لهذا استصدر عام 2013 قانوناً يسمح بتوسيع جهاز المخابرات وصلاحياته لتشمل العمل خارج البلاد، فحوَله الى جيش خاص، وأنشأ ضمن منظومته فرقاً عسكرية من النخبة، قادرة على التدخل في أي مكان وزمان. ويسمح القانون للمخابرات باللقاء والتفاوض مع الإرهابيين، وتمويلهم وتسليحهم وتدريبهم. مضافاً إلى ما سبق، تسلط أردغان، وشخصيته القاسية والعنيدة، واستعداده الواضح للمغامرة، لا يشير إلى إمكانية قبوله بأي تنازل يمس طموحاته السلطوية أو الإمبراطورية. لذا لا ينبغي التغافل عن إمكانية ذهابه إلى التصعيد في الداخل ضد منافسيه، بالتزامن مع استخدام جهاز المخابرات في تحركٍ خارجي موازٍ وتصاعدي، يتدحرج نحو حرب، يأمل أن يحقق فيها انتصاراً يعتبره ضرورياً لبقائه. وتبدو سوريا المسرح الجاهز والأنسب لمغامرة يحولها إلى حرب وطنية، تدفع الشعب وتجبر الجيش على الاصطفاف خلفه، فيستعيد المبادرة والسيطرة مجدداً.
الخصومات والعداوات التي راكمها أردوغان خلال الفترة الماضية، وبعضها شخصي، لم تترك له سوى داعش والتنظيمات الإرهابية حليفاً. ما يجعله مندفعاً في دعمها بلا تحفظ ولا حدود، وهذا خطر، لا يهدد تركيا والمنطقة فقط، بل يهدد أردوغان نفسه. هذه الجماعات لا تخضع لأي ضوابط سياسية أو أخلاقية، ولا لمواثيق واتفاقات، هي تنتظر الفرصة للانقضاض، وفرصتها الدائمة هي الفوضى والفراغ الذي تخلفه الأزمات الأمنية والصراعات المسلحة.
«داعش»، الحليف الأقوى لأردوغان، الذي استثنى منظومة الأخير، حتى الآن، من أي عمل معادٍ أو تشكيك وتكفير، يمتلك اليوم وجوداً حقيقياً وقوة عالمية. ولا يمكن الحديث اليوم عن إمكانية إخضاع التنظيم لسيطرة أو إرادة قوة إقليمية أو دولية. وبات واقعاً عسكرياً ولوجستياً وشعبياً معقداً وصلباً، يتمتع بتأييد لا يمكن تجاهله في تركيا، ويشكل حالة استقطاب صاعدة فيها، وهو أصدر نشرة تحت اسم القسطنطينية، ولهذا دلالات لا تخفى على أحد. أي صراع تركي داخلي يتدحرج إلى مغامرة خارجية، سيشكل الفرصة التاريخية التي ينتظرها «داعش» لدخول عاصف إلى تركيا، بموقعها وحجمها ورمزيتها. الصراع في هذا البلد تعزيزٌ للاستقطاب القومي يقابله استقطاب إسلامي، يقابلهما استقطاب علماني، يتفرع عنها ويجمعها صراع دموي سياسي وقومي ومذهبي. تبدو تركيا على أبواب «ربيع» يختلف، في آلياته ونتائجه ومآلاته، عن «الربيع» العربي الذي شجع أردوغان على العبث بمكونات دول وشعوب، وأصبحت جزءاً أصيلاً من مشاكل الشرق الأوسط وأزماته، وخسارة أردوغان الانتخابية مرتبطة بشكل وثيق بتطورات المنطقة، ما قد يجعل بلاد العثمانيين الجدد مشكلتها الأعقد والأخطر، ما يحول حلم أردوغان «العثماني» إلى كابوس للإقليم.
* صحافي لبناني