اعتماد نظام نسبي في الانتخابات هو مطلب «وطني» قديم ارتبط، أساساً، لجهة إطلاقه وتبنِّيه، بـ«الحركة الوطنية اللبنانية» التي اعتمدته كجزء من برنامجها «المرحلي للإصلاح السياسي» (كانت لجنة مشتركة تتمثل فيها مجمل الأحزاب اللبنانية، في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، قد توافقت، لبعض الوقت، على اعتماد النسبية في قانون الانتخاب).
إلا أن من تبقَّى من أحزاب الحركة تلك على قيد الحياة وعلى الوفاء لهذا البرنامج، كان مبعداً عن الحوار الأخير بشأن قانون الانتخابات الذي أقرّ مشروعه في جلسة الحكومة يوم الأربعاء الماضي. معروف أن النسبية الحقَّة هي تلك التي تُعتَمد في الدائرة الأوسع (الوطنية) لا في 15 دائرة كما جاء في القانون المقرّ. ويفرض الدستور أن يكون مجلس النواب العتيد متحرراً من القيد الطائفي بعد مرور حوالى ربع قرن على إنشاء مجلس نيابي يعتمد «المناصفة» بين المسيحيين والمسلمين كما جاء وتكرر في المواد 22 و24 و95 من الدستور. تفريع الدوائر إلى 15 دائرة، يحكمها أساساً منطق التحاصص، سيؤدي إلى تفريغ النسبية المعتمدة من شحنتها التغييرية المنشودة في الأصل. كذلك فالإبقاء على القيد الطائفي (بل ومحاولة تكريسه)، وكذلك التخلي عن تمكين الشباب بعمر 18 من الانتخاب، وعدم إقرار صيغة لتحفيز المشاركة النسائية (في اللوائح مثلاً)... يلغي عن القانون الجديد سمته الإصلاحية ويجعله مخالفاً للدستور بكل ما في الكلمة من معنى.
مع ذلك يجب التوقف عند إيجابية التقدم الجزئي الذي تمَّ إحرازه من خلال هذا القانون بالمقارنة مع قانون «الستين» معدلاً بقانون «غازي كنعان» وبقانون «الدوحة» الذي اعتمد في الانتخابات الأخيرة لعام 2009. هذا التقدم الذي كلٌ يدّعي وصلاً به، هو بالضبط ما ينبغي محاولة الاستفادة منه لإطلاق حركة مدنية من نوع جديد، على أمل التمكن من تأمين مشاركة فاعلة في المعركة الانتخابية المتوقعة بعد حوالى سنة، أي في شهر أيار من العام المقبل.
القول بأن هذه الحركة ينبغي أن تكون «من نوع جديد»، ينطوي، ضمناً، على الاعتراف الأكيد بوجود مقدمات أو إرهاصات لها، على امتداد السنوات الماضية. بعض تلك المقدمات كان، ولا يزال، حاضراً ومؤثراً في عدد من الملفات، وخصوصاً تلك المتصلة بموضوع سوء الخدمات وأزمة النفايات، وبالفساد، والاعتداء على القانون وحقوق المواطنين وعلى الأملاك العامة...
رغم اتساع النقمة على سوء أداء الطغمة الحاكمة، ورغم استخفاف هذه الأخيرة بكرامات المواطنين وبمصالحهم الأوّلية والأساسية، فإن حركة الاحتجاج الشبابي الشعبي المدني التي حفّزت نزول عشرات آلاف المواطنين إلى ساحات الاحتجاج، لم تتحول إلى حركة شعبية وطنية عامة: لا من حيث البرنامج، ولا من حيث الأدوات، ولا من حيث الاتساع والشمولية في التحركات، وفي انتشارها، وفي استمراريتها وتصاعدها.
نكرر التأكيد أن سلبيات القانون الجديد لا ينبغي أن تمنع موعد أيار المقبل من أن يشكّل محطة مهمة في بلورة التيار الشعبي المدني المنشود، وفي تمرين بل واختبار خوض معركة عامة ومهمة كالانتخابات النيابية المقبلة. تسع سنوات عجاف مرت بها البلاد بسبب سوء أداء السلطة المتحكمة، وبسبب، أيضاً، المخاطر الناجمة عن ضراوة الصراعات الدائرة في المحيط وما حملته وما يمكن أن تحمله من كوارث إضافية للبنان المرشح للتأثر بها، كسواه، أو أكثر، بسبب، أيضاً، هشاشة وحدته الداخلية وتبعية معظم «مكوناته» للقوى الخارجية المنخرطة في الصراع الدموي والمدمِّر القائم.
من البديهي أن التيار المنشود هو تيار مدني، لا طائفي، يسعى، في المرحلة التاريخية الراهنة، لأن يتمكن من تعبئة كتلة ضغط، شعبية – سياسية، تفرض احترام الدستور والقوانين وخصوصاً تلك البنود التي أقرّت في الدستور استناداً إلى «اتفاق الطائف» ووثيقته الشهيرة. ويستدعي ذلك، بالضرورة، أيضاً، احترام مبدأ فصل السلطات وإنجاز بناء سلطة قضائية مستقلة، وكذلك تفعيل هيئات الرقابة بكل صنوفها وتحرير الوظيفة من المحاصصين وإعطاء الأولوية للكفاءة دون سواها من المحسوبيات ومنظومة الزبائنية والاستتباع والاستزلام... يتصل بذلك، حكماً، تفعيل الرقابة الشعبية على مصادر وأبواب الهدر والنهب والفساد، وعلى استباحة وتسييب المؤسسات العامة والسطو المباشر أو المقنع على المال العام وتسخير السلطة وأجهزتها لمصالح فئوية وفردية... كما يتصل بذلك تعزيز الوحدة الوطنية عبر تطوير الاقتصاد واستغلال الثروات الوطنية بأقصى السرعة الممكنة بعيداً عن التعطيل، وخصوصاً منه ذلك الناجم عن وضع اليد و«السلبطة» والمحاصصة والسمسرات والانتفاع الفئوي... ومن شروط ذلك أيضاً مكافحة الجريمة والإرهاب وفرض هيبة الدولة وممثليها من خلال سياسات وطنية تستلهم مصلحة البلاد العليا في الحفاظ على سيادتها واستقلالها، ومن خلال القيام بواجباتها ومسؤولياتها العامة حيال الوطن والمواطن.
إن إطلاق تيار من هذا النوع لجهة اتساع برنامجه ومرحلية أهدافه، يتطلب صيغاً ديمقراطية حقيقية للتعاون والشراكة والعلاقات والأساليب: في اتخاذ القرارات وفي المشاركة النشيطة في تنفيذها. كل ذلك بعيداً عن الاستئثار والتفرد والهيمنة والفئوية...
مشروع بناء التيار المدني هذا، في النهاية، لا بد من أن يكون مشروعاً مستقلاً يفرض منافسة ورقابة وشراكة بشأن قضايا البلاد المصيرية، بما يمكّن من وضع حدّ لذلك العبث المخيف والخطير الذي يتعرض له المصير اللبناني على أيدي الفئة الحاكمة المتحكمة الراهنة.
* كاتب وسياسي لبناني