الميثاقية نقيض المواطنة لأنها تنطلق من مبدأ «اللامساواة» بين اللبنانيين، فتعطي حق القرار والتمثيل للطائفتين الدينيتين اللتين كانتا الأكثر عدداً في لبنان الكبير المستحدث من قبل الانتداب الفرنسي عام 1920 والمستقل في ما بعد.
الميثاقية الطائفية: 1943

الميثاق الوطني الذي أُبرم عام 1943 بين رئيس الوزراء السني رياض الصلح ورئيس الجمهورية الماروني بشارة الخوري ليس ميثاقاً بين اللبنانيين، بل بين طائفتين كانتا مهيمنتين عددياً، ألا وهما السنة والموارنة. لم يتم اختيار الأرثوذكس المسيحيين أو غيرهم من الطوائف المسيحية بسبب تعدادهم، وليس لأي سبب آخر، والأمر نفسه ينطبق على المسلمين.
حصل خيار التوافق السني ــ الماروني بناء على إحصاء سكاني عام 1932 أظهر أن الموارنة يمثلون 30% من السكان، والسنة 20%، بينما يصل تعداد الشيعة الى 17%، والأرثوذكس إلى 11%، ولأن الميثاقية مبنية على التعداد السكاني ترفض الدولة ــ الطائفة إجراء أي إحصاء للسكان منذ ذلك الحين لأنه سيظهر التغيير الكبير الذي حصل في الديموغرافيا السكانية. وللتعويض عن هذا الخلل، يطالب رئيس التيار الوطني الحر بإدراج المناصفة بين المسلمين والمسيحيين كبند ملزم في الدستور اللبناني حتى لو بقي مسيحي واحد على أرض لبنان.
الميثاق الطائفي المسمى زوراً وطني، نظام عنصري يميّز بين المواطنين لا على أساس لون بشرتهم أو عرقهم، بل على أساس انتمائهم الطائفي، وهو ميثاق لاديموقراطي لأنه يقصي أعداداً كبيرة من اللبنانيين عن ممارسة حقوقهم البديهية كمواطنين، فلماذا يُختزل المسيحيون، كل المسيحيين بالطائفة المارونية؟ ولماذا لا يحق للأرثوذكسي أو البروتستانتي الترشح لرئاسة الجمهورية؟ وهل هو حقاً مطلب شعبي كما تدعي بعض القيادات المارونية؟ أليس هذا تمييزاً عنصرياً يتماهى تماماً مع التمييز العنصري الذي حصل في جنوب أفريقيا، أو التمييز العنصري ضد السود في الولايات المتحدة الأميركية؟ والأمر نفسه ينطبق على السنة تجاه المذاهب الأخرى.
لأن المارونية تفوقت عدداً على السنة، تُرجم هذا الفارق العددي في المجلس النيابي بتبوء 6 نواب مسيحيين لكل 5 نواب مسلمين، ولازمت هذه التراتبية الطائفية العنصرية لبنان حتى نشوب الحرب الأهلية التي أدت نتائجها الواقعية إلى المناصفة بين المسيحيين والمسلمين. والواقع اليوم يؤشر إلى أن المسيحيين لم يعودوا يمثلون 50% من السكان، وبالتالي نحن أمام واقع جديد يتطلب خياراً بين مشروعين:
إما معاندة الواقع والمثابرة في التمسك بالميثاقية، بالرغم من اختلال الأعداد، وهذا الحل مؤقت لأن الواقع هو الرابح على المدى البعيد، أو السير باتجاه تحديث المجتمع وإقامة دولة المواطنة حيث المساواة تامة بمعزل عن الانتماء الديني أو الطائفي أو المذهبي أو المعتقد أو العرق.
الدور الأكبر في تنفيذ التحديث يقع على عاتق المسيحيين، فخلاصهم الاندماج في الوطن لا التقوقع والانعزال، وفي بناء الأحزاب العابرة للطوائف، والبرهان على خسارتهم الأكيدة في تكتلهم كطائفة هو ما نتج من الحرب الأهلية 1975 - 1990 وتناقص أعدادهم بشكل كبير، كما أن الإبقاء على الميثاقية لن يعيد الشباب المسيحيين، كما يظن البعض، لأن هؤلاء الشبان والشابات يريدون الانتماء الى دولة حديثة تحترم آراءهم وكفاءاتهم، وهذا ما لا تقدمه لهم الميثاقية اللبنانية إن كان من يترأسها مسيحياً أو مسلماً.
الإيغال في التمسك بنمط ثيوقراطي ــ عشائري يمثل الطوائف لا المواطنين على صعيد السلطة أدّى، ويؤدّي إلى النتائج الآتية:
أولاً، جمود إدارات الدولة وشللها لأن قرار طائفة ما سيجابه بالرفض من قبل طائفة أخرى تخشى من خسارة موقعها، كما يحدث الآن بالنسبة إلى قانون الانتخابات النيابية.
ثانياً، تحجُّر الدولة والمجتمع نتيجة هذا النظام لأن الطوائف تعارض التغيير، مخافة أن يأتي على حسابها، فيصبح هدف السلطة المحافظة على الوضع القائم (Status quo).
ثالثاً، حثّ اللبنانيين على عدم مخالطة الطوائف الدينية الأخرى ومصاهرتها، بما أن الاندماج يقود إلى اضمحلال الطوائف ومراكز نفوذها.

لا تستطيع الميثاقية أن تكون «وطنية» لأنها لا تمثل المواطنين


رابعاً، حصر التمثيل الميثاقي الطائفي ضمن نخبة ضيقة تقرر مسار الوطن ومصيره، وترفض إرساء النظم الديموقراطية الحقة.
خامساً، بقاء هذه النخبة الطائفية في السلطة سنة تلو أخرى مع تتالي الانتخابات النيابية بالنتائج ذاتها، لأن الميثاقية تعتمد على مبدأ المحسوبيات والزبائنية الطائفية لا على الكفاءة.
سادساً، نتيجة المحسوبيات والزبائنية تتحول مؤسسات الدولة إلى مرتع للفساد، فولاء الموظف ليس لرئيسه في المؤسسة الحكومية بل للقيادة الطائفية التي أوصلته إلى مركزه الحالي، وفي وضع كهذا تنتفي المساءلة والمحاسبة.
سابعاً، اعتماد الميثاقية الطائفية على إخفاء المعلومات والحقائق عن المواطنين كي تحافظ نخبتها على أكبر قدر من النفوذ في مركز القرار.
ثامناً، عدم مواكبة النظام الميثاقي التقدم العلمي والمعلومات العلمية في حال تعارضت هذه المعلومات مع نظامه المتحجر كرفض إجراء إحصاء رسمي لسكان لبنان منذ عام 1932!
تاسعاً، تمنع الميثاقية الطائفية المواطنين والمواطنات اللاطائفيين من الانخراط في الشأن العام، ومن الترشح للمناصب الحكومية، أو حتى التصويت كمواطنين ومواطنات لبنانيين، إذ إن اللبناني في عرف النظام الميثاقي إما مسلم أو مسيحي.
عاشراً وأخيراً، تُعارض الميثاقية إقامة دولة مركزية لأن الطوائف الدينية تريد الاستحواذ على السلطة لتوزيع المغانم على أنصارها والتابعين لها.

الميثاقية في مواجهة المواطنة

لا تستطيع الميثاقية أن تكون «وطنية» كما تدعي لأنها لا تمثل المواطنين، بل تمثل نخبة أو كارتيلاً طائفياً يقمع المواطن الذي لا يرى مخرجاً له إلا بالرحيل أو الانصياع لإرادة القيادة الطائفية، فيصدر كلام من قيادي يترأس حزباً بأنه يريد «احترام إرادة الناس المناطقية والطائفية» والملاحظ في هذه الجملة أنها خالية من كلمة «مواطنون» التي استُبدلت بـ«الناس» الذين هم «رعايا» الطائفة حسب المستندات الرسمية. هل احتُرمت إرادة «المواطنين» فعلاً؟ وهل قُدم لهم خيار غير الخيار الطائفي ورفضوه لنستنتج أن هذه هي إرادتهم؟
ويطالعنا رأي مماثل من أحد النواب القانونيين فيصرح:
«كلما اقترب قانون الانتخابات من الميثاقية، ابتعد البعض عنه بحجة طائفيته التي تكافح بالممارسة وليس بتمثيل المجتمع بمكوناته الحقيقية».
هنا أيضاً يُطرح السؤال: كيف أستطيع ممارسة مواطنيتي اللاطائفية ضمن قوانين طائفية؟ هل من طريق يدلني عليها فأنتخب بـ«الممارسة»، لاطائفياً؟ وأترشح للانتخابات بالممارسة اللاطائفية؟!
عملياً، لا تتغير الممارسة إلا بتغيير القوانين، وإلا لما كان من لزوم لهذه الأخيرة، فلماذا مثلاً يوضع قانون يعاقب من لا يضع حزام الأمان حين يقود سيارته؟ أليس القانون لإجبار الناس على «الممارسة» السليمة لأنهم قد لا يمارسون ما هو صالح لهم؟
تاريخياً، أُلغيت القوانين العنصرية، إن كانت تمييزاً عنصرياً بناءً على العرق، أو تمييزاً عنصرياً بناءً على الطائفة الدينية، جراء مواجهة هذه القوانين واستبدالها بقوانين لاعنصرية تُفرض فرضاً على المجتمع لأنها تؤدي إلى سلامته لا إلى تدميره. وأمامنا مثال ساطع في تجربة الولايات المتحدة الأميركية منذ نصف قرن حين كان المجتمع الأميركي منقسماً عنصرياً بين العرق «الأسود» والعرق «الأبيض»، فلا اختلاط في المدارس، والباصات، والمطاعم، والحمامات والمقاهي. فهل انتظرت حكومة الولايات المتحدة آنذاك أن يتم التغيير عبر «الثقافة»؟ فالثقافة عنصرية أصلاً وإلا لما حصل تمييز ضمن المجتمع. وعت الحكومة الأميركية أنّها إذا لم تبادر إلى تغيير القوانين وفرضها بقوة السلاح، سينقسم المجتمع الأميركي، وسيؤدي ذلك إلى اقتتال عنصري وحرب أهلية.
الأمر نفسه ينطبق عندنا، فالقانون هو الذي يغير تركيبة المجتمع لا العكس، والقانون الذي يلغي الطائفية السياسية هو الذي يقود الى تغيير الثقافة والمجتمع لأنه سيفتح المجال لإنشاء أحزاب عابرة للطوائف تستطيع أن تتمثل في المجلس النيابي، ولأنه سيمنح حقوقاً للمواطن بمعزل عن انتمائه الطائفي، ما يسمح له بالمشاركة الفعلية في مراكز القرار، وتحويل المجتمع اللبناني من تجمعات طائفية الى مجتمع المواطنة، ومن مجتمع الحسب والنسب إلى مجتمع الكفاءة، فالشبان والشابات الذين يهاجرون ــ وغالبيتهم من ذوي الشهادات الجامعية ــ فإنهم يغادرون لأنه لا اعتبار للكفاءة في بلادنا بل للمحسوبيات الطائفية، بينما تستقبلهم دول الخارج وتوظفهم بناءً على كفاءتهم لا غير.
أما أن نقول إننا نريد قانون انتخاب طائفي ريثما نصل إلى قوانين لاطائفية، أو أننا نريد تقسيم البلد إلى دوائر انتخابية طائفية إلى حين بلوغ المواطنة، فهذا هذيان لامنطقي ولا يستطيع أي عاقل أن يتبناه. فمن ينطلق من المبدأ الميثاقي الطائفي يصل بالضرورة إلى بنيان طائفي لا إلى دولة المواطنة.
* أستاذة جامعية