القتل هو نفي الآخر إلى حيث لن يعود. أما تعريف الجريمة فملتبس، إلّا حين تكون ممارسة فردية شاذة عن السياق العام. ما يجري في لبنان في الآونة الأخيرة يتخطى حدود الجريمة باعتبارها ممارسة شاذة. هي تتكرر، تأخذ ألواناً وأشكالاً مختلفة، وأضحت شيئاً يكاد يكون مألوفاً.
تنقل وسائل التواصل الاجتماعي الحدث بتفاصيله، يتفاعل الجمهور مع أحداث الجريمة، يرويها، يتندر بها، يبرّرها أو يستنكرها، لا يهم. ما يهم أنّها لم تعد تستفزّه بالقدر الذي كان يجب أن تستفزه. إنّها المخدرات، يردّد الجمهور الأكثر تفاؤلاً ومحافظة. إلقاء اللوم على المخدرات يحمل في طياته رغبة دفينة في الاستحصال على صكّ براءة لمجتمع ما زال هناك من يريد إيهام نفسه «أنه لا يزال بألف خير»، وأنّ ما يحدث هو شواذ عن القاعدة. لكنّ جولة سريعة على مجريات أخبار المناطق تؤكد حقيقة أن الجريمة صارت عابرة للطبقات الاجتماعية كافة، وأنّها لا تقتصر على ممارسة يقوم بها مدمنون تحت تأثير الهلوسة. لا ينفع الفرار من المواجهة، مواجهة حقيقة الإفلاس المجتمعي وانهيار الأيديولوجيات جميعها التي تتبنى نظريات إصلاح المجتمع أو سعادته. هناك سقوط للفرد تحت نوبات من موجات عدائية تتولّد تحت وطأة ضغوط اقتصادية ونفسية. لكنّ تفسيراً بهذه البساطة ليس صحيحاً تماماً، فالضغوط الاجتماعية والنفسية لا تولّد ردّات فعل متطابقة في مجتمعات متوازية. هناك عامل بنيوي يدخل في تركيبه جملة مكوّنات، منها الانفعالية المبالغ فيها، إضافة إلى البعد «الثقافي» وفي طليعته اقتران الكرامة الإنسانية بسفك الدم. يصبح القتل أمراً أكثر من مبرر حين يتعلق الأمر بالمرور على الكرامة الشخصية. الكرامة الشخصية في مفهومها لا تنتمي إلى مفهوم الكرامة الإنسانية بمعناها الكوني. في المفهوم الكوني تأخذ الكرامة الإنسانية بعداً يساوي شرعة حقوق الإنسان بينما في هذا المكان تنحدر إلى درجات «بهائمية» أحياناً، بمعنى اختراق الكائن لحدود كائن آخر: اختراق حرمة موقف سيارة خاص، المنافسة على أحقية المرور باعتبار الكائن الأقوى له حق المرور والأضعف يجب أن يرضخ، تبادل النظرات بطريقة عدائية حتى يشيح الأضعف ببصره. هي قواعد بجملتها تنتمي أكثر إلى عوالم شديدة البدائية، بل يمكن القول إنّها رواسب حيوانية في أعماق كائنات لم تروّضها المدنية. المدنية هي عملية ترويض قسري تحت ستار السلطة الأعلى وهي القانون. لكنّ السلطة الأعلى لم توجد أو هي في حالة وهن وفساد، أمّا جملة البدائل التي تقدمها المجموعات البشرية تحت عناوين الوعظ والإرشاد والوازع الديني فلا يبدو بعد تجارب تاريخية عديدة أنّها منتجة، على العكس فإنّ المجتمعات التي يفترض أن تدخل تحت هذا العنوان ربّما كانت الأسوأ.
المراقب لحركة الجريمة في المجتمع اللبناني لا يداخله الشك في مدى الاستهتار بالذات وبالآخر. القاتل في أغلب الأحيان لا يتكلّف التخفي، بل يقتل بوضوح شديد وعلانية. في أغلب الجرائم التي تحصل تظهر هوية القاتل سريعاً. هذا يدلل أن ليس هناك من قاتل محترف بل هناك طبيعة إجرامية، ثمّ أن طرق القتل العنيف كالطعن بالسكين لمرات متتالية، أو إطلاق النار عن قرب تدلّل على غرائز حيوانية حيّة وهي تطلب فريسة وضحية. قد يبدو الأمر مخيفاً، لكن ينبغي الاعتراف بذلك، وهو ما يستدعي المبادرة بتشريح بسيكولوجي للبنية النفسية السائدة في المجتمع اللبناني من قبل أخصائيين بعلم الجريمة للوصول إلى الأسباب التي تقف خلف عمليات التحوّل وانفلات الغرائز البدائية. يحتاج الأمر إلى معالجة جذرية وإلى المبادرة بتطبيق قانون الجريمة والعقاب، وهذا مفقود في ظلّ الفساد السياسي والإداري، وفي ظلّ المنطق «العشائري» والعائلي العام الذي يعتبر الجريمة مسألة قابلة للحل على أسس مصالحات تلعب فيها توازنات القوة بين قبيلة القاتل وقبيلة القتيل دوراً مهماً في تحديد مصير القاتل. هذا يعيدنا إلى المربع الأول، إلى الفرد باعتباره كائناً «محترماً» وليس جزءاً من قطيع، وهو أمر نادر في حالة الناطقين بالعربية وسط هذا البحر المتلاطم من الدماء ومن ازدراء الكرامات البشرية.
* كاتب لبناني