قبل سنوات عديدة، قرأت كتاباً في التاريخ والنظرية العسكرية لروبرت سيتينو أثّر بي، اذ كان يهدف الى إبطال الكثير من النظريات الدارجة في المجال العسكري والتي تتحوّل الى «بديهيات»، من نوع أن الحرب الحديثة «غيّرت كلّ شيء»، أو أنّ الحرب المتحرّكة قد جعلت التحصينات بلا قيمة، أو أن التكنولوجيا الجديدة تمكّن من صنع الانتصار الساحق السريع المضمون (الكتاب عنوانه «البحث عن الانتصار الكامل»، منشورات جامعة كنساس، 2002).
يشرح سيتينو بأنّ الحرب، بمقدار ما تتغيّر، فهي تحتفظ بخصائص ثابتة، وأن الكلام على «الحرب الحديثة» و«نهاية التحصينات» وما شابه هو نقاشٌ يتكرّر في كلّ عصر، منذ أيام الرومان، ولكنه لن يُحسم يوماً. هو يستخدم الحرب العالمية الثانية كمثال على أنّ فكرة «الحرب الخاطفة» الألمانية لم تكن بالصورة الناجحة التي تروّج لها، ولا هي ناجعةٌ في كلّ ظرفٍ، وأنّ القول ببطلان التحصينات هو مبالغة لا تدعمها الوقائع. بل إنّ أحد أهمّ أسباب التراجع الالماني السريع أمام الجيش الأحمر في شرق أوروبا، وصولاً الى برلين، كان اضطراره الى خوض حربٍ مفتوحة في تلك الأراضي السهلية، وأنّه لم تكن هناك، شرق نهر الأودر، تضاريس تسمح ببناء خطّ دفاعٍ ثابت (بالمقابل، كلّما اضطرّ جيشٌ خلال تلك الحرب الى الإصطدام بتحصينات أو بخطٍّ دفاعي، أثبتت تلك الدفاعات صلابتها وكلّفت المهاجم غالياً).
حاجج سيتينو أيضاً بأن نجاحات نابليون بونابارت لم تكن ترجع الى مهارته وعبقريته الفردية، بل الى الآلة الحربية الفرنسية التي ورثها، وتحديداً الاصلاحات الثوريّة في الجيش الفرنسي التي أجراها النظام الملكي في عقوده الأخيرة، وهي طالت المدفعية والتشكيلات والتنظيم وأموراً أخرى أساسية. وايضاً اصلاحات الحكومة الجمهورية اثر الثورة مباشرة، حيث تمّ انفاذ قانون الخدمة الالزامية، فصنع جيشاً فرنسياً من مليون مواطن، وأسّس المخططون الفرنسيون لنظام الفيالق (corps)، وهذان العنصران سيشكّلان الورقة الرابحة لنابليون و«الغراند ارميه» في وجه أعدائه.

مربّعات وطوابير

فلنأخذ مثالاً المعركة الأشهر لنابليون، أوسترليتز، حيث حطّمت فرنسا جيشي النمسا وروسيا مجتمعين. حتّى ذلك العصر، يكتب سيتينو، كان الجيش الاوروبي يقاتل أساساً كـ«كتلة». لديك قلبٌ ولديك جناحان والتكتيك ينتهي هنا. على هذه «الكتلة» أن تقاتل بشكلٍ متراص، فلو انفصلت عن بعضها تحصل كارثة، وكوحدةٍ هائلة ثقيلة. نظام الفيالق الفرنسي، حتّى نبسّط، يشبه تشكيل «الفرقة» اليوم: بدلاً من أن يكون لديك جيشٌ من مئة ألف، تصنع منه خمسة جيوش صغيرة من عشرين الفاً، كلٌّ منها اسمه فيلق وعليه قائد ولديه طاقم ضبّاط ولوجستيات ويعمل بشكلٍ مستقل ــــ الى جانب جسد الجيش وليس كجزءٍ منه.
ماذا يعني ذلك عملياً؟ أنّ نابليون كان يملك مرونةً في التخطيط والقتال ومروحة خياراتٍ لا يملكها أعداؤه، كأنّ الخصوم يلعبون الداما ونابليون يلعب معهم الشطرنج: في وسعه أن يفصل الفيالق عن بعضها البعض، فيبقي عدداً منها لتثبيت جيش الخصم فيما تقوم فيالق أخرى بالمناورة وضرب العدو من أطرافه أو من خلفه. في معركة «اولم»، التي سبقت اوسترليتز، تمكّن نابليون من أسر عشرات آلاف النمساويين من دون قتالٍ تقريباً وبالمناورة وحدها، اذ وجد الجيش النمساوي نفسه محاصراً من كلّ اتجاه، وقد قُطع طريق انسحابه وخطوط امداده، فاستسلمت القوات.
قُبيل «اوسترليتز»، أغرى نابليون النمساويين والروس بالهجوم، فتظاهر بالضعف وانعدام الثقة أمام تفوقهم العددي، بل وانسحب من تلّة استراتيجية قرب بلدة «اوسترليتز»، وسمح للحلفاء بالتمركز عليها. ثمّ ترك الجناح الأيمن لجيشه ضعيفاً وهزيلاً بشكلٍ واضح، آملاً بأن يشنّ الحلفاء هجوماً ضخماً عليه بهدف كسر الجيش الفرنسي في أضعف نقاطه. كان نابليون قد أبقى ماريشاله دافو، برفقة الفيلق الثالث، في الخلف بعيداً عن اوسترليتز، ونسّق معه لكي يصل بجنوده مع بدء المعركة مباشرةً ويسدّ الثغرة على الميمنة ويدعمها. في الوقت ذاته، ولأن النمساويين والروس قد ركّزوا قوّاتهم على جناحهم الايسر لشنّ هجومهم الكبير، عرف نابليون بأنّ قلب جيشهم قد أُضعف، فأمر بهجومٍ كاسح على القلب عبر الماريشال سولت والفيلق الرابع. اخترق سولت قلب جيش العدو بأكثر من 15 ألف مقاتل بعد موجة قصفٍ مدفعيّ مركّز، ففصل قلب العدو عن ميمنته وميسرته، وانهار النمساويون والروس.
فلنبدأ من البداية. قبل نابليون بمئات السنين، هيمنت على مسارح القتال الاوروبية، طوال القرنين الخامس والسادس عشر، تشكيلات الـ«تيرسيو» الاسبانية. الـ«تيرسيو»، هو مربّعٌ ضخمٌ مكوّنٌ من ثلاثة آلاف مقاتل (من هنا جاء اسمه). يمكنك تخيّله كمربّعٍ مركزيّ، تشكّل أضلاعه صفوفٌ عميقة من حاملي الرماح، لصدّ هجمات الخيّالة، وعلى كلّ زاوية من زواياه مربّعٌ أصغر مكوّنٌ من حاملي البنادق (حتى يستخدموا المدى الأقصى لسلاحهم). مع مرور الزمن وازدياد أهميّة البندقية وسلاح المدفعية، بدأ نظام المربّعات بالتحوّل تدريجياً الى مستطيل، فهو الشكل الذي يسمح بالاستعمال الأفعل للقوة النارية ويقدّم هدفاً أصعب للرماة، ولن تبيد قذيفة المدفعية فيه (على عكس نظام المربّع) كامل الوحدة لو سقطت في وسطها.
استقرّ تشكيل المشاة الأساسي في اوروبا، منذ أواخر القرن السابع عشر وحتى أيّام نابليون، على مستطيلٍ مكوّنٍ من ثلاثة صفوف، يطلق أحدها رشقةً فيما باقي الجنود يذخّر بنادقه؛ ويتحوّل هذا التشكيل الى طابورٍ في حالة السير والانتقال. مع ذلك، ظلّت إدارة المعركة مسألة معقّدة، وظل الجنود مضطرّين لاعتماد تشكيلاتٍ متراصّة ومتقاربة، حتى وهي تتعرّض الى القصف الشديد (من المهمات الأساسية لجندي المشاة في ذلك العصر كان أن تقف بثباتٍ في موقعك، طول النهار من دون أن تفعل شيء، فيما مدفعية العدوّ تحصد كلّ من حولك وكرات الحديد تئزّ فوق رأسك، وقد نشأ تراثٌ كامل بين العسكريين يسرد هذه الحالات ويتفاخر بها).

مدافع جهنّم

الاصلاحات في سلاح المدفعيّة كانت مثالاً آخر على ابداعٍ تنظيمي فرنسي، استفاد منه نابليون ولكنّه لم يكن من بنات أفكاره. «نظام غريبوفال» تمّ تطويره في فرنسا الملكية قبل الثورة بثلاثين سنة، وقد نشأ عليه نابليون وباقي ضباط «الغراند ارميه». وحّد نظام غريبوفال أعيرة المدافع وقلّل من عددها، حتّى وصلت الى أربعة أصنافٍ فقط (لمدفعية الميدان) أيّام الحروب النابليونية (بدلاً من عشرات الأعيرة في القرن الثامن عشر، وعدد كبير من المدافع المتخصّصة). هناك أمورٌ قد تبدو بسيطة اليوم ولكنّها كانت محوريّة في تحويل الجيش الى آلة كفوءة، كـ«خراطيش» البارود التي عُمّمت في الجيش الفرنسي. بدلاً من أن يسكب قائد البطارية البارود في سبطانة المدفع بحسب تقديره، فيكون مدى كلّ قذيفةٍ مختلفاً قليلاً عن سابقتها، أصبح البارود في النظام الجديد يُنقل في «خراطيش» مصنوعة من الورق ومجهزة مسبقاً، متساوية في الوزن وتسمح برماية أكثر دقّة بكثير.
على المنوال نفسه، وحّد غريبوفال أحجام الدواليب ومقاييس القاطرات والعربات، بحيث تقدر على استبدال دولاب مدفعٍ بأيّ دولابٍ آخر في الترسانة الفرنسية. يجب أن نتذكّر هنا اننا في أيام ما قبل الثورة الصناعية، ولا توجد بعد خطوط انتاج ونُظُم فورديّة. حين تطلب الدولة الفرنسية، مثلاً، صناعة المدافع، فهي توكّلها الى عشرات المشاغل الحرفية في طول فرنسا وعرضها، وكلّ مشغلٍ لديه اسلوبه الخاص في الصناعة، ومقاييسه الخاصة؛ بل كان كلّ «معلّم» يزخرف سبطانة المدفع على طريقته، فتخرج كأنها تحفة فنية اكثر منها آلة حرب. منع نظام غريبوفال كلّ هذا، وخلق تعليمات تفصيلية محدّدة لصنع «مدفعٍ معياريّ». كتب ضابطٌ بريطاني، اسمه رالف اديي، متعجّباً من أنّ فرنسا تملك العديد من الترسانات والمشاغل الحربية، ولكنّك لو أخذت قطعةً من انتاج كلّ مشغل، من أطراف البلد المترامية، وجمعتها سوية، فإنك ستحصل على عربةٍ أو مدفعٍ يشبه تماماً ذاك الذي يخرج جاهزاً من أي مصنع (بدايات الثورة الصناعية، في جزءٍ أساسيّ منها، كانت في تطوير هذه الصناعات العسكرية وتقنيات الانتاج، ولكن هذا موضوع آخر). على الهامش: ضمن النظام الدقيق الذي أعدّ لطواقم المدفعية، وفصّل ادوارهم وكيفية عملهم في كلّ ظرف، كان هناك جنديّ لديه مهمّة وحيدة في البطارية، وهي أن يضع اصبعه في الثقب في أعلى سبطانة المدفع أثناء التذخير، كي لا يتسرّب الهواء وينفجر البارود بالخطأ، ثم يسحب اصبعه ويستبدله بسرعةٍ بفتيلٍ قبل الإطلاق، وكان هذا كلّ دوره في المعركة.
استثمر نابليون سلاح المدفعية هذا، بفعاليته ورشاقته وسرعة حركته، بشكلٍ مثاليّ حتى أصبحت المدفعية الفرنسية كابوساً على أعدائها. كانت وحدات المدفعية تتحرّك بجرأةٍ وسرعة، حتّى خلال المعركة، مع مدافع في البطارية تقصف فيما الباقي يتقدّم، حتّى تصل الى مسافات قريبة جداً من صفوف العدوّ (أقلّ من 200 متر في كثير من الحالات) وتصطفّ أمامها مباشرةً وتمطرها بالقذائف المتفجّرة المميتة (على عكس كرات الحديد التي كانت تستخدم من مسافات أبعد لدقّتها؛ فإنّ القذائف المتفجّرة قصيرة المدى، ولكنّها تتشظى وتسبب خسائر فظيعة حين تنفجر وسط تشكيلات المشاة).
طوّر نابليون في معاركه مفهوم «البطارية العظمى» (Grande Batterie)، وهو يعني أن تجمع قسماً كبيراً من مدفعية جيشك في موقعٍ واحد (أكثر من 200 مدفع في بعض الحالات) وتستخدمها كلّها لضرب نقطةٍ معيّنة في خطوط العدوّ، امّا لتشتيت تجمّعٍ قوي واضعافه، أو لخلق ثغرةٍ ينطلق عبرها الهجوم الفرنسي. لو كنت جندياً بروسياً أو نمساوياً، ووجدت الفرنسيين، صبيحة المعركة، يحضّرون «بطارية عظمى» أمام خطوطك، فأنت تعرف بأنّك، مهما حصل، ستواجه يوماً سيئاً.

خاتمة

مع مرور الزمن ومع التجربة، تعلّم الاوروبيون من خصمهم وتأقلموا مع اسلوبه، ولم يعد نابليون قادراً ــــ في حملاته الأخيرة ــــ على تحقيق النتائج ذاتها التي رأيناها في اوسترليتز و«جينا» و«ايلاو» وفي بداية حروبه، حين فاجأ خصومه بتكتيكاتٍ لا عهد لهم بها، وهزم جيوشاً أكبر منه بكثير، وكان يخرج من المعركة بخسائر طفيفة مقابل ابادة وأسر عشرات الآلاف من مقاتلي العدو. ابتداءً من عام 1808، أي بعد ثلاث سنوات من اوسترليتز، أصبح نابليون يخسر عدداً متقارباً مع أعدائه في المعارك حتّى حين ينتصر، ولم يعد «النصر النظيف» متاحاً.
بل أنّ هناك نظريّة منتشرة بين عددٍ من المؤرّخين، تقول بأنّ انخفاض أداء نابليون في معاركه الأخيرة، وبطئه المتزايد وعدم استغلاله للفرص، كان بسبب مرض شيخوخةٍ يتطوّر لديه، وكان أغلب ماريشالته يعرف بالأمر ويحاول أن يخفيه، وأنه من الممكن تفسير سلوكه في «واترلو» كدليلٍ على تراجع بديهته وحضوره الذهني.
اعتمد نابليون على أفضليات تكنولوجية وادارية راكمها الجيش الفرنسي على مدى عقود، وقد غزا بفضلها جلّ اوروبا وبنى امبراطورية. ولكنّ، مع تأقلم العدوّ واستنفاد هذا الامتياز الأصلي، عادت القواعد التقليدية للحرب والعدد، وأعداء نابليون كانوا يملكون جيوشاً أكبر من جيشه بكثير. في الحقيقة، فإنّ أكبر شاهدٍ على عبقرية نابليون لم يكن في لحظات صعوده (حين كان الجيش الامبراطوري في قمّة عظمته) بل في مراحل الهزيمة، وتحديداً أثناء قتاله متراجعاً من روسيا. كانت كلّ جيوش اوروبا تلاحقه وهو يهزمها يميناً ويساراً، بجيشٍ يقلّ عدداً عن خصومه بكثير. حين وصل العدو الى قلب فرنسا خاض نابليون، في شباط من عام 1814، ثلاث معارك ضدّ ثلاثة جيوشٍ للحلفاء خلال أقلّ من أسبوع، وانتصر فيها جميعاً ــــ ولكنّ طوابير البروسيين والنمساويين والروس وغيرهم ظلّت تتدفق. يُروى أنّ نابليون رفع يديه بسخطٍ في تلك اللحظات، حين تبع انتصارٌ فرنسي، مباشرة، خبر ظهور جيش جديدٍ للأعداء على الحدود: «انّهم كثر»، زفر الامبراطور بحسرة.