عادت الأوضاع في هذا البلد اللاتيني لتتصدر الأخبار المحلية والعالمية بسبب موجة العنف اليميني الرجعي واستخدام عصابات «المحتجين» لوسائل التخريب الأكثر فاشية ووحشية وخطورة. هذا اليمين المحلي المتطرف يتلقى الدعم المباشر وعلى مستويات عدة من يمين القارة والإدارة الأميركية بهدف الإطاحة بالنظام الوطني التقدمي في البلاد.
في كل مرة ينفجر فيها الصراع على السلطة، تكون هناك حجة مختلفة عن سابقاتها ولكن الأسباب الحقيقية لا تتغير. فمنذ تسلم البوليفاريين للسلطة في 2/2/1999 بقيادة القائد الراحل هوغو تشافيز، وهم يتعرضون لحرب ضروس اقتصادية وسياسية وعسكرية وفكرية، بهدف استنزافهم ومنعهم من التمتع بالهدوء لتحقيق برنامجهم الذي يرتكز على تحقيق الاستقلال الناجز وتطوير الاقتصاد الإنتاجي كمقدمات، بل شرط ضروري لإجراء التحوّلات المطلوبة للفكاك من الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وإنهاء التبعية وإرساء أسس ومداميك البناء الاشتراكي. ولكن درجة تطور المجتمع السابق وقواه المنتجة والبناء الفوقي المنبثق عنهما كمجتمع برجوازي متخلف وفي طور النمو، لعبا دوراً حاسماً في تشكيل السلطة وأجهزتها من ائتلاف قوى تقدمية يسارية ــ وطنية تمثل الشرائح الطبقية الاجتماعية المدافعة عن الاستقلال الحقيقي والسيادة وحماية الوطن وثرواته الطبيعية وخصوصاً النفط، التي في غالبيتها ذات أصول برجوازية أو كانت تطمح أن تكون كذلك من خلال وجودها في السلطة.
إن الدور الطليعي والمركزي الذي اضطلع به القائد الراحل تشافيز، العقل المبدع والمفجر لمجمل عملية التغيير في فنزويلا والقارة، وإعلانه أن ثورتهم هي ثورة معادية للإمبريالية، وتعمل على إقامة نظام اشتراكي في فنزويلا وكل القارة اللاتينية (الوطن الكبير)، حفز الإمبريالية وعملاءها أن يشحذوا كل أسلحتهم وخصوصاً الاقتصادية لعرقلة هذا المشروع وإفشاله. وعملت الإدارة الأميركية على نار هادئة لتعزيز سيطرتها في مناطق حلفائها وخصوصاً في كولومبيا، والعمل على إرجاع ما خرج عن هذه السيطرة لما تعتبره حديقتها الخلفية. وقد بدأ الهجوم المضاد بالانقلاب (2009) على رئيس هندوراس السابق، مانويل سيلايا، والذي كان يُعتبر حليفاً لفنزويلا البوليفارية وصديقاً للرئيس الراحل تشافيز، حيث باءت بالفشل كل محاولات إعادته للسلطة أمام إصرار الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما على إنجاح الانقلاب، لأنه على أراضي هذا البلد توجد أحد أهم القواعد العسكرية الاستراتيجية الإمبريالية في أميركا الوسطى، تبعه الانقلاب عام 2012 على رئيس البارغواي التقدمي وقُدّم إلى المحاكمة بتهمة الفساد، وسقوط حكم يسار الوسط انتخابياً في الأرجنتين التي كانت في مصاف الدول المناهضة للسياسة الأميركية في المنطقة (2016)، تبعها إزاحة حكم اليسار العام الماضي بقيادة حزب «العمال» في البرازيل بتهمة الفساد، وسوء التصرف بالمال العام، وتم تنصيب حكومة برازيلية جديدة، حكومة تآمر موالية للإمبريالية والصهيونية.
هذه الانتصارات التي حققتها القوى اليمينية الرجعية في القارة وهزيمة مشروع تمدّد اليسار وترسيخه فيها، هي انتصارات للإمبريالية وخصوصاً للإدارة الأميركية الشمالية التي تعتبر القارة حديقتها الخلفية والسيطرة عليها «شرط لقيادة أميركا للعالم» كما كان يؤكد هنري كيسنجر، وهي أيضاً ضربة قاسية وموجعة للمشروع البوليفاري التقدمي وللثورة الكوبية، لأن هذا الوضع الجديد أدخلهما في حالة من الدفاع السلبي، وسمح للمعارضة في فنزويلا بشكل خاص أن تصعّد الهجوم بهدف الإطاحة بالحكومة التقدمية التي يترأسها الرفيق نيكولاس مادورو بأي وسيلة كانت. أما كوبا التي يقودها الحزب الشيوعي منذ انتصار الثورة بقيادة فيديل كاسترو، والتي لا توجد فيها معارضة حزبية تقليدية أو برلمانية تهدد الثورة على المدى القريب، أخذ القلق يتسرب لقيادتها لأن الإمبريالية تعمل على خلقها من خلال محاولة تجنيدها للعناصر الشابة ذات الميول الليبرالية التي تشارك فيما يُسمى «الدورات التأهيلية» التي تقيمها الولايات المتحدة لهؤلاء الشباب، ويعودون بعدها إلى كوبا. هذه السياسة تراقبها الحكومة الكوبية عن كثب وبقلق كونها أحد إفرازات تبادل العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين، وتطبيقاً «للديموقراطية وحرية التعبير».
إذاً بعد كل هذه المتغيرات، هل سيكون مصير فنزويلا مماثلاً لشقيقاتها التي عاد إليها حكم اليمين وبقوة؟ ماذا يجري في فنزويلا؟ وإلى أين تتجه البلاد؟
إن الشرارة التي أشعلت موجة الاحتجاجات من جديد هي تدخل المحكمة العليا، وإلغاء قرار للجمعية الوطنية (البرلمان) الذي يسيطر عليه اليمين. تطالب «منظمة الدول الأميركية بمعاقبة فنزويلا بتطبيق الميثاق الديموقراطي الأميركي على فنزويلا» (هذا البند تم إقراره في 11/9/2001، باقتراح من الولايات المتحدة في أعقاب الهجمات على أبراجها) بادعاء أن حكومة نيكولاس مادورو، تعيق المخرج الدستوري الانتخابي «للأزمة التي تعصف بالبلاد»، و«تنتهك الدستور والحياة الديموقراطية وحقوق الإنسان».

بدأ الهجوم المضاد بالانقلاب على رئيس هندوراس السابق عام 2009


المحكمة العليا الفنزويلية، بحسب نصوص الدستور هي المخولة بحل التعارضات التي تنشأ بين السلطات الخمس، القائمة دستورياً في البلاد وخصوصاً بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. من منظور هذه الهيئة القانونية التي من أهم واجباتها حماية السيادة الوطنية والدفاع عنها.
إن طلب الجمعية الوطنية من طرف آخر خارجي (منظمة الدول الأميركية) للتدخل في شأن وطني داخلي سيادي عدا عن كونه مخالفاً للدستور يعتبر من وجهة نظر المحكمة العليا انتهاكاً للسيادة الوطنية، ويضرب بالمصلحة القومية العليا، لهذا تدخلت وقامت بإلغاء قرار الجمعية الوطنية الذي اتخذته الأغلبية اليمينية اللاوطنية كاستعانة بالخارج للإطاحة بالرئيس، لأن تطبيق هذا البند يعني أيضاً إمكانية التدخل المباشر «للدفاع عن الديموقراطية والعودة لتطبيق الدستور» حسب هذه «المنظمة». لهذا وضعت فنزويلا حداً لهذا الجدل بإعلان انسحابها من هذه «المنظمة» التي هي أداة من أدوات الإدارة الأميركية عالمياً، كما الجامعة العربية، عدوة شعبها، وبهذا تصبح الدولة الثانية بعد كوبا التي عانت من السياسة التدخلية نفسها قبل انسحابها منها.
نواب اليمين الذين يشكّلون أغلبية الجمعية الوطنية اعتبروا هذا بمثابة «انقلاب وتعليق لدور البرلمان» من قبل الحكومة، وكرد على هذا الإجراء أعلنوا أنهم سيرفضون «إقرار الاتفاقيات الاقتصادية التي توقعها الحكومة مع أطراف دولية، وبخاصة الاتفاقات النفطية» لفرض حصار مالي على الحكومة، وتجفيف مصادر تمويلها الخارجية كأحد الوسائل للإطاحة بها.
للتعبير عن رفضهم لسياسة الحكومة وإجراءاتها دعت قوى اليمين المتحالفة في إطار ما يسمى «الطاولة الديموقراطية» للتظاهرات والاحتجاجات لأنصارها بهدف «انتزاع موافقة الحكومة على إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وإجراء المستحق منها منذ ديسمبر الماضي أي انتخابات البلديات وحكام الولايات». ولكنهم كالعادة يلجؤون لاستعمال المجموعات الأكثر تطرفاً وفاشية التي يتم تدريبها وتحريضها كي تمارس أقصى ما يمكن من التخريب وبكل الوسائل بما فيه الاغتيالات والقتل (حرق السيارات بعد سرقة قطعها، تقطيع الأشجار لإغلاق الطرق، إشعال النيران في كل الشوارع والطرقات، نهب المحلات التجارية وتدميرها، نثر النفايات في كل الأماكن... إلخ).
ولكن ما يميز الاحتجاجات الحالية عن سابقاتها، أنها في بعض المناطق شملت الأحياء الشعبية والتي تعتبر من مناطق نفوذ التشافيزيين، وتم إحداث تخريب هائل فيها حيث تم استغلال الأزمة الاقتصادية، وتفاقم حاجات المواطنين للمواد الأساسية التي تم إخفاء معظمها قبل الاحتجاجات وأثناءها لإحداث مزيد من الضغط الشعبي.
الميزة الأخرى هو الطابع «شبه المسلح» للعناصر القيادية في أعمال الشغب والتخريب حيث شكّلت مجموعات من صغار السن كدروع يتوسطهم مسلح يتجمهرون في مناطق الإغلاق أو إشعال النيران للحد أو ردع القوى الأمنية من مهاجمتهم.
القوى اليمينية المعارضة والتي تقف وراء أعمال السطو والنهب والفوضى كانت تطمح إلى دفع لإحداث مواجهات دموية بين المواطنين كمقدمات لتكوين الشروط الموضوعية لحرب أهلية لا تُحمد عواقبها، إلا أن ضبط الذات والتصرف بوعي وهدوء من قبل الجيش والقوى الأمنية وانضباط طلائع الحركة الثورية التشافيزية التي هي أيضاً مسلحة لعب دوراً حاسماً في إفشال هذا المخطط حتى هذه اللحظة.
الآن، وبعد مرور أكثر من عشرين يوماً على أعمال العنف الرجعي بدأ الإعياء على منفذيها والمشاركين بها، وأخذت تتوقف أعمالهم العدائية للشعب والوطن، ما أعطى الفرصة للقوى الأمنية التي رصدت المتورطين بشكل دقيق إلى الهجوم المضاد، وما زالت تقوم بتنفيذ حملة اعتقالات وتطهير لهذه العناصر واسترجاع ما يمكن من المحتويات التي سُرقت ونُهبت، ويلقى هذا الإجراء تأييد ودعم القوى والجماهير الشعبية.
أما على الصعيد الرسمي وفي خطوة غير متوقعة طرح الرئيس نيكولاس مادورو كحل للوضع المتأزم، عقد جمعية تأسيسية جديدة من أجل دسترة العديد من الإنجازات والبرامج الحكومة التي باتت مهددة من اليمين في حال وصوله إلى السلطة التنفيذية، ولكي يقرر الشعب بنفسه أي طريق يختار للخروج من الأزمة وسلوك طريق البناء والإنتاج والتطور. برغم أن عقد جمعية تأسيسية هو أحد المهام المطروحة في برامج قوى اليمين، إلا أنهم تفاجؤوا من هذا «الهجوم» للحزب الاشتراكي الموحد والحكومة، وتراوحت ردود فعلهم بالرفض أو الصمت أو التأييد الخجول للبعض، لأنهم، صحيح يريدون عقد جمعية تأسيسية كهذه ولكن تحت سلطتهم أي بعد السيطرة على كل مقاليد الحكم في البلاد من أجل إلغاء الدستور الحالي الذي «وضعه تشافيز وثورته اللعينة» كما يقولون، وإعادة دستور الجمهورية الرابعة المتخلف.
ولكن، برغم الأوضاع الصعبة جداً التي تمر بها البلاد، وتبدّل ميزان القوى في القارة لصالح الإمبريالية والرجعية المحلية، ووصول الأزمة الاقتصادية لمدايات قصوى وخطيرة إلا أنه وفي ظل توازن القوى الطبقية المحلية لا تلوح في الأفق إمكانية هزيمة طرف للآخر، وذهبت مع الريح أوهام قوى اليمين أنهم يستطيعون تطبيق الانقلاب البرلماني أو الدستوري بمجرد حصولهم على الأغلبية البرلمانية كما حدث في البرازيل مثلاً. لهذا لم يبقَ أمامهم من خيار إلا المشاركة في الإعداد لانتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية، علهم يحصلون على أغلبية المقاعد، كما هو حاصل في الجمعية الوطنية، وهنا يقلبون الطاولة على رؤوس الجميع، أما إن لم يشاركوا أو إن لم يحصلوا على الأغلبية في حال مشاركتهم ما عليهم إلا أن ينتظروا الموعد الرسمي (2019) لتجريب حظهم من جديد في الانتخابات الدستورية الرئاسية، وحتى ذلك التاريخ، لن يستحم المرء في مياه النهر مرتين، لأن القوى اليسارية والتقدمية عليها أن تستغل المزاج الجماهيري النافر والرافض لما قامت به عصابات اليمين من تخريب ودمار طال وأضر ملايين المواطنين حيث معظم استطلاعات الرأي تجمع على أن 70% من الشعب الفنزويلي ترفض هذه الأعمال الوحشية التخريبية.
وظلت دعوات قيادات اليمين «بأن تمتد أعمال العنف والاحتجاج إلى كل الأراضي وكل بقعة في فنزويلا وأن لا تنحصر في بعض أحياء العاصمة كاراكاس وبعض أحياء مدينة فلنسيا»، مجرد أمنية على الأقل في الوقت الحالي، وهذا بحد ذاته هزيمة لجولة من جولات أجندة العنف الرجعي والعبث الاقتصادي التي يراهن عليها اليمين لتمرير سياساته ومؤامراته.
إنها فرصة أخرى جديدة ممكن ألا تتكرر بسهولة أمام حكومة نيكولاس مادورو، والحزب الاشتراكي الموحد لمحاربة الفساد الإداري والمالي، والتخلص من العناصر غير الكفوءة في الأجهزة والحكومة، والعمل بشكل جدي على تطوير الإنتاج الزراعي الحاضنة الأساسية للأمن الغذائي، والقيام بتطوير التصنيع الوطني لقطع دابر الحرب الاقتصادية.
أما على الصعيد السياسي لا بد من مراجعة تجربة القطب الوطني الكبير الذي لم يصل إلى مستوى الجبهة الوطنية المتحدة المعادية للإمبريالية، وذلك بضم كافة القوى الاجتماعية والثورية الشعبية على أن تصبح هذه الجبهة القوة الحاكمة والمقررة التي ستأخذ على عاتقها إجراء التحوّلات المطلوبة لبناء الاشتراكية والدفاع عن الوطن.
* قيادي في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»