الدفاع عن النفس الذي تآلفت فيه قوى المقاومة في سوريا والعراق واليمن ألحق هزائم بمخطط التدمير والتفتيت الذي شنته قوى الظلم والظلام ضد أمتنا العربية.لكن ردّ فعل الولايات المتحدة وإسرائيل والدول التي تدور في فلكهما لم يكن رد فعل المهزوم، بل كان ردّ المصرّ على استكمال مهمته بتدمير المقاومة العربية في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن.

وتماماً كما قال باراك أوباما «المعركة طويلة وهي معركة استنزاف لن تتوقف».
مع مجيء الحاكم الجديد للولايات المتحدة ورأس الإمبريالية، أصبحت الأمور أوضح. فهو رئيس لا يخجل ولا يتورع عن الحديث علناًَ حول استراتيجية الولايات المتحدة التي تعيد بناء قوتها العسكرية لتكون الدولة «الأقوى»، وبذلك تكون الدولة التي تسعى إلى الهيمنة على حصة الأسد من ثروات الأمم والشعوب.
ولا يمانع ترامب «لأنه وفيّ لإسرائيل»، من أن تكون إسرائيل استثنائياً شريكاً له في الهيمنة على الشرق الأوسط كدولة إمبريالية استيطانية تملك قوة عظمى.
واللبنة الأولى في ما يبنيه ترامب هي إكراه الحلفاء على دفع مبالغ طائلة للولايات المتحدة مقابل «حماية أميركا لهم». وقد تم إبلاغ دول «الناتو» بفواتيرها وكذلك كوريا الجنوبية. لكن الفواتير الضخمة قدمت للسعودية التي سيزورها ترامب تحت أعلام خفاقة كتب عليها «أنا ترامب حامي إسرائيل».
وهيّأت العائلة المالكة في الجزيرة نفسها لدفع ما فرضه ترامب من فواتير:
100 مليار دولار في صفقة سلاح، و100 مليار دولار إلى 200 مليار استثمارات من مال الجزيرة في الولايات المتحدة. وبحساب بسيط، نعلم عن ضخامة هذه الفواتير إذا علمنا بأن إسرائيل تتسلّم سنوياً من الولايات المتحدة هبة مالية وتسليحية بقيمة 4 مليارات دولار، فإن ثلاثمئة مليار دولار ستدفعها العائلة الحاكمة في الجزيرة تساوي خمسين سنة مساعدات أميركية لإسرائيل.

هيّأت العائلة المالكة في الجزيرة نفسها لدفع ما فرضه ترامب من فواتير

ويحمل ترامب كذلك التزاماً أميركياً بدعم العدوان على اليمن، وتلبية طلبات المستثمر السعودي المتصلة بسوريا والعراق (مناطق آمنة في سوريا، ومنع إقامة جسر بري بين العراق وسوريا خشية وصول إيران إلى الحدود مع الجولان).
كل هذا يشير إلى ما يحمله ترامب في جعبته لمنطقتنا، وهو يرشّ الكلام حول إمكانية إقامة سلام بين إسرائيل والفلسطينيين ويغمض عينيه عن الجرائم ضد الإنسانية وضد الشعب الفلسطيني. ويطلب من الفلسطينيين التفاوض من دون شرط، أي مع استمرار التوسع الاستيطاني والبطش الإنساني. ويترك لإسرائيل كامل الحرية بتوجيه الضربات لسوريا ولحزب الله وبالعمل على إشعال نار فتنة جديدة في لبنان لتطويق حزب الله.
هذا نذير خطر كبير بدأ يلمس واقعياً ويتسارع في الميدان.
من هنا، تأتي مطالبتنا المقاومة برسم استراتيجية تصدّ، لا فقط الدفاع عن النفس، فالربط بينهما يجب أن يكون جدلياً ويمنع أي فصل تعسفي أو ميكانيكي.
لقد وضعت قوى المقاومة اللبنة الأولى قي تلك الاستراتيجية حين اتخذت قراراً بالتحالف الاستراتيجي مع موسكو، وبذلك تكون قد وضعت على جدول أعمال قوة عظمى لها شأنها في مواجهة الولايات المتحدة، وهي روسيا. لكن هذا الانتقال النوعي المهم لا يكفي، بل يجب أن يكون مدخلاً لقوى المقاومة للتحرك عرضاً وطولاً ضد هجوم العدو ومواجهة الهجوم بهجوم مضاد ضمن الاستراتيجية العامة للاشتباك.
لذلك نسمي الاستراتيجية التي نقترح على قوى المقاومة الالتزام بها: «استراتيجية الهجوم الدفاعي»، وهي تحمل جواباً عن سؤال يتردّد مع كل ضربة إسرائيلية: لماذا تبقى إسرائيل بمنأى عن ضربات المقاومة؟ ويزيد من أهمية السؤال معرفة أن إسرائيل تنقل دائماً المعارك إلى أراضي الغير. فبطن إسرائيل هو نقطتها الأضعف، ولا شك أنّ مناورات الجبهة الداخلية التي تكررت أخيراً أثبتت هشاشة الوضع فيها وضعفه.
إن التفكير والتخطيط الجدي بهذه الخطة يتطلب تجميع أفضل العقول والاستناد إلى أحدث دراسات الاستطلاع لتتمكن قوى المقاومة من تغيير جذري في خريطة توزع القوات وأولوياتها. وذلك في سبيل الحد من قدرة إسرائيل على تنفيذ استراتيجيتها بالسيطرة الكاملة على الضفة والجولان، ونقل الحروب الى الدول العربية، وتحويل إيران عبر تحالفاتها الخليجية إلى عدو للعرب. لذا يتطلب الأمر شن هجوم دفاعي يربك الخطوط ويجبر العدو على إعادة رسم الخطط، ويخلق له داخلياً أزمات مهاجرين وراحلين ورافضين للعودة إلى المستوطنات، ويمنع التمدد الذي يتم هذه الأيام دون حساب لأي مقاومة.
من ناحية ثانية، إن استباق ضربات العدو بضربات خاصة داخل خطوطه سوف يضطره إلى تغيير خططه وربما إلى تصعيد اعتداءاته، وهذا سيدفع إسرائيل، التي تعانق دولاً خليجية هذه الأيام، إلى التروي والتراجع ربما. لقد رُفع شعار الردّ على إسرائيل إن هي هاجمت، لكنها تهاجم من أبواب واسعة بالتحالف مع الإرهاب والتخطيط مع عملاء لشق المجتمع اللبناني طائفياً بشكل أعمق، وتبتلع بصمت الجولان والضفة، فماذا ننتظر؟
قد يشار هنا إلى عدم جاهزية القوى الشعبية داخل فلسطين لخوض معارك، هذا صحيح ولكن الجاهزية هذه الأيام تبنى من خلال الصدام وليس من خلال الاستكانة لقرارات وتوجهات سياسية يتخذها بعض المسؤولين نتيجة ما يشعرون به من «هزيمة داخلهم»، ومن إحباط يحيط بهم بسبب أوضاع العالم العربي.
الصدام هو الذي سيشعل الشرارة وستمتد آثاره خارج حدود فلسطين، وستبدأ المعادلة المترابطة جدلياً بفعل المعجزات من نهوض قومي مقاوم يرفض كل ما تحاول الإمبريالية الأميركية والإسرائيلية فرضه علينا.
عقل جماعي مبدع قادر على رد الصاع صاعين، وإشعال نار المقاومة عبر هجوم دفاعي متقن يجعل العدو مضطراً إلى أن يبقى في حالة خلط الأوراق. الإرادة والتصميم سلاحان من أهم أسلحة المقاومة، وإن غلفهما الإيمان الأكيد بانتصار الحق... فإن النصر لن يكون إلا حليف المناضلين.