إعداد ــ الشيخ ابراهيم الصالح،د. جوزف عبدالله، حسن ملاط

رداً على مقالة صادق النابلسي («الأخبار»، في العدد ٣١٥٧ الجمعة ٢١ نيسان ٢٠١٧ تحت عنوان «حزب الله والتحديات الاجتماعية: الممكن والمتاح)، نورد الاتي:

أولاً:

يبدأ الكاتب مقاله باتهام وسائل التواصل الاجتماعي بأنها: «أحدثت... اضطراباً وإرباكاً وتشوّشاً في البنية النفسية والأخلاقية داخل ساحات مجتمع المقاومة».

فهو يريد «ساحات مجتمع المقاومة» محصّنة من أيّ نقد ومن أيّ رأي مخالف لتوجهات حزب المقاومة، «حزب الله». وهذا ما لم يعد ممكناً اليوم باعترافه قائلاً: «فالقضايا في عصرنا الراهن ما عاد بالإمكان تناولها سراً أو همساً، أو عزلها عن تفاعلات المجتمع وطرق وأساليب تعبيره عنها...». يا لحسرته على واقع الحال هذه! رحم الله معروف الرصافي: «يا قوم لا تتكلموا إن الكلام محرم».
يعترف الكاتب في أكثر من مكان في مقاله بعمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها اللبنانيون، ويؤكد: «يوماً بعد يوم تزداد الضائقة المعيشية للمواطنين»، «أن أكثر من 50% من اللبنانيين يرزحون تحت وضع ضاغط يحمل الطابع المصيري». ويعترف أيضاً بغياب حزب الله عن المبادرة، بل عن المشاركة، في الحَراك الشعبي لمواجهة هذه الحال. وهذا ما يسميه «حياد» حزب الله، و«النأي بالنفس». ويسجل أن هذه الحال هي موضع نقمة في الأوساط الاجتماعية المؤيدة للمقاومة والحاضنة لها. ويسعى لتبرير موقف المقاومة بتحليلٍ شعاره «ليس بالإمكان أفضل مما كان». وكأنه يردد مقولة الأنظمة العربية: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». وكل مقاله هو مجرد مرافعة لتأكيد المؤكد في رؤية الناس ونقدهم لموقف حزب الله. فـ«الحياد» و«النأي بالنفس» ليسا حياداً مطلقاً بل مشاركة فعلية وعملية في مواقف الطبقة السياسية المعادية لطموحات الجماهير الشعبية. وهذا ما جعل شعار الحَراك الشعبي محقاً (في القضايا الاقتصادية والاجتماعية) «كلن يعني كلن».

ثانياً:

في كل هذا المقال الذي يتجاوز ألفي كلمة، لا نجد كلمة واحدة من مثل «الرأسمالية» و«النيوليبرالية» و«حيتان المال» و«المصارف» و«الشركات الاحتكارية» و«الشركات العقارية»... وجل ما يذكره الكاتب حول الأزمة الاقتصادية إنما يطمس حقيقتها ويغلفها بغلاف ديني وبعبارات تضليلية، من مثل قوله: «أخلى «حزب الله» الساحة لغيره فملأها تجار ولصوص الهيكل وغيلان المال، وأقام الشيطان نظامه بينما (عُزل الله) عن السوق والإدارة والتوظيف»، أو قوله ««السحرة» وصناع الأزمات الاقتصادية...». وحقيقة الأمر أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية هي أزمة النظام السياسي الطائفي، وهي أزمة نظام اقتصادي رأسمالي (نيوليبرالي) مفرط في ليبراليته. والفساد إنما هو وليد هذا النظام. وليس صراعاً بين الخير والشر، أو بين الشيطان والسحرة من جهة والله من جهة ثانية. الأزمة في حقيقتها هي صراع بين فريقين. الأول يتكون من المطالبين بنظام سياسي ديمقراطي (نظام المواطنين والمواطنة لا رعايا أقفاص الطوائف) والمطالبين بنظام اقتصادي يوفر إجراءات سياسات الحماية الاجتماعية وتوزيع عادل للثروة الوطنية وإقامة اقتصاد منتج لا اقتصاد الريع. والثاني يتكون من طبقة الرأسماليين النيوليبراليين والطائفيين. وحزب الله عندما يقف على الحياد بين هذين الطرفين ولا ينحاز إلى الطرف الذي يمثل جمهور المقاومة، إنما يقف، موضوعياً، إلى جانب الفريق الثاني ويحرص على استمراره. إنه يقف إلى جانب تأبيد الطائفية من خلال عصبيات تقودها حيتان المال (في كل طائفة) وكل منها تستتبع رعايا طائفة معينة. وهنا تتوحد هذه القيادات الطائفية في مواجهة الحَراك المدني (وأدواته النقابية والتنظيمية)، وتتصارع مع بعضها البعض في السيطرة على مغانم ومفاصل الدولة اللبنانية وريع الثروة الوطنية.
إدخال الدين في السياسة يعني جعل الدين موضع نقد صارم كما هو نقد السياسة

ثالثاً:

في طبيعة حزب الله. يقدم الكاتب لحزب الله تعريفاً يقدمه الحزب عن نفسه: «حركة إيمانية جهادية»، «حركة لا ينفصل فيها البعد السماوي عن البعد الأرضي»... لكل تنظيم أو حزب أو مؤسسة الحق في توصيف نفسه كما يشاء. ولكن ذلك لا يعني أنه ليس لهذا التنظيم أو الحزب أو المؤسسة من توصيف أو صورة أخرى، هي صورة حركته في الواقع العملي، كما يدركها المجتمع أو بعضه، والتي قد لا تدركها قيادة التنظيم أو الحزب أو تدركها وترغب بحجبها. ويُسجل هنا أن الكثير من الحركات السياسية الدينية الإسلامية (والمسيحية) تعرِّف نفسها بنفس هذا التوصيف. وجميعها تدّعي أنها تربط في نشاطها بين الأرض والسماء وتسعى لإقامة مجتمع على منهاج النبوة والخلافة أو على منهاج ولاية الفقيه. وهنا لا بد من التأكيد على الأمر الآتي: إن نقد السياسة أمر مشروع تماماً ومطلوب بإلحاح.

مجرد مرافعة لتأكيد المؤكد في رؤية الناس ونقدهم لموقف حزب الله
وعندما تندرج ممارسة السياسة تحت الرعاية الربانية المزعومة، فلا بد لنقد السياسة من أن يتناول التدين بالذات. إن هذه الطريقة في توصيف الأحزاب كـ«حركة سماوية أرضية» تدفع بالضرورة إلى نقد التدين. لأنها تجعل الدين منصة لممارسة قمع ناعم أو خشن تبعاً للظروف ولطبيعة الأحزاب الدينية، وإدراج الدين في تبرير السياسة هو استخدام فعلي لـ«العنف الرمزي». وفي مطلق الأحوال لو أن أساِليب التدين وأشكاله المختلفة تستطيع تأمين العدالة الاجتماعية لما انتظرت أحداً حتى اليوم لتفعل ذلك، ولكانت العدالة تعمّ البشرية جمعاء منذ بروز دعوات الأديان التوحيدية.
هذا في حين أن أمر الله بأن نصبر أنفسنا مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي- الموصوفين في مكان آخر من القرآن- باراذلنا وبالمستضعفين- وأن نبذل في سبيلهم كل ما نستطيع بلا منة ولا أذى وأن نتبنى قضاياهم وندافع عنها وعنهم وإلّا فسنكون طيعين لمن غفلوا عن الذكر أي من المترفين الذين لا يهتمون بأمر البرية... «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ - وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا - وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) الكهف».

رابعاً:

لوم حزب الله متعدد المصادر. لا يعنينا أبداً لوم حزب الله على مقاومته للعدوان الصهيوني. بل على العكس، فنحن نعتز ونثمّن هذا الدور المقاوم، ونتمنى مشاركة الجميع فيه، وفتحه أمام الجميع (ولسنا في وارد التعليق سلباً أو إيجاباً على دوره في سورية والعراق وغيرهما). يعنينا فقط لوم المطالبين بدور للحزب إلى جانب الحَراك الشعبي، لجهة المطالبة بدولة المواطنة خارج الأقفاص الطائفية، وبالحريات الديمقراطية والفكرية، وبدولة العدالة الاجتماعية بوجه حيتان المال والشركات الاحتكارية والعقارية وتحكم المصارف وتعيين البرنامج التنموي الفعلي للبنان، وتأمين مستلزمات إقامة البنية التحتية، ووقف الفساد والهدر والسرقة... ولا يجوز لأيّ جهة سياسية (بما فيها حزب الله) أن تطالب بما يسميه الكاتب «نقاء الحَراكات الشعبية» وبامتلاك «الخلفيات الحقيقية لدوافعها وإدارة حركتها»، والامتناع «عن المشاركة القوية في حَراكات ليست من تنظيمه...». إن مطالب الحَراك معروفة والمشاركة فيها مفتوحة للجميع. أما امتناع حزب الله فلأسباب غير تلك التي يتذرع بها الكاتب، مع كون الذرائع غير مقبولة وتعبّر عن رغبة في التفرد والقيادة ليس إلّا. وهنا نصل إلى أولويات حزب الله. وهو يحددها بأولوية المقاومة على كل ما عداها، كأن أولوية المقاومة تستلزم بالضرورة داخلياً التفاعل الإيجابي مع مشاريع المافيات الطائفية مشاريعها وفسادها (؟!). وتستلزم أولوية المقاومة خارجياً ربطها بعلاقاته الإقليمية والعربية والدولية. إن في إخضاع الساحة اللبنانية لمستلزمات العلاقة مع القوى الإقليمية وربط أيّ نضالات إصلاحية ببرنامج وحاجات الأوضاع الإقليمية يذكِّرنا بالشعار القديم الذي لطالما رفعته الأنظمة العربية القمعية بوجه الحراك الشعبي: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».
إن الحديث عن «النقاء» يعني بأن أشرف الناس هم فقط أتباع «حزب الله» من الشيعة وأن الوطنيين والمظلومين والمستضعفين وأعداء المشاريع الظالمة وأعداء الصهاينة (الفلسطينيون ضمناً) ليسوا مشمولين بـ«الأشرف» وأن لا مسؤولية معنوية أو مادية من الحزب تجاههم، وتالياً عزل المقاومة عن بيئتها الحاضنة الفعلية عبر جعل هذه البيئة شيعاً يقاتل بعضها بعضاً، فتتحول التنقية إلى أداة تخريبية لا تخدم إلا مشاريع الآخرين.
إن ما يُفسر فعلياً عدم مشاركة حزب الله في نضالات الحَراك الشعبي هو التناقض البنيوي للحزب، وذلك بسبب ارتباطه الفكري والعملي بإيران (ولاية الفقيه) وبخضوع برنامجه المحلي (إن وُجد) لمتطلبات المشروع الإقليمي. وهذا ما يُفسر فعلياً التناقض بين بيئته الحاضنة وغربة ممارسته السياسية عن خدمة متطلبات هذه البيئة التي لا تختلف عن مثيلاتها عند سائر مكونات المجتمع اللبناني. فمشاركته في الصراع الداخلي سوف تعطي الأولوية للداخل، بينما المشروع الإقليمي يتطلب أن يخضع الداخل اللبناني (المجتمع الشيعي) لمتطلبات المعركة الإقليمية. وهذا ما لا يمكن التوفيق بينهما. ولجوء الكاتب للإيمانيات هو لتغليف هذا التناقض بالتعويض الأخروي عن الممارسة الدنيوية.
أما حديث الكاتب عن المساعدات التي يقدمها «الحزب سواء عبر الإمكانيات السياسية المتاحة أو القدرات الذاتية... ما قدّمه لبيئته من مساعدات لم يقدمها حزب لأنصاره على الإطلاق...» فلا يعدو كونه ممارسة غرضها توسيع قاعدة الزبائنية السياسية التي تحترفها، بتنسيق، جميع قوى حيتان المال المتربعة في قيادة عصبيات الطوائف، وفي مؤسسات الدولة. فبدل أسلوب المساعدة الزبائنية المطلوب من الحزب السعي لاعتماد برامج تنموية وإنتاجية وحماية السوق المحلية وتأمين فرص العمل و... من ضمن مشروع اقتصادي وطني شامل. «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى... (264) البقرة».

خامساً:

مرافعة صادق النابلسي تعبّر عن تبرم حزب الله واستيائه من وعي شعبي بلغ إلى حد ما البيئة «الحاضنة» للمقاومة، كما تعبر عن محاولة لمواجهة وإحباط هذا الوعي وقمعه. وهذا أحد أشكال استخدام «العنف الرمزي» والقوة الناعمة في القمع. ولما كان فعل المقاومة قيمة بنظر الجماهير، فإن كاتبنا يُحسن استخدام «العنف الرمزي» ويلجأ إليه بقوله: «استهداف لبنان لا ينحصر في البعد العسكري وإنّما من خلال ضرب الأرضية الاجتماعية وخصوصاً البيئة المؤيدة للمقاومة، والضغط عليها بلقمة عيشها (كأن الحَراك المدني هو الذي يضرب هذه الأرضية وهو وراء التلاعب والضغط بلقمة العيش. بينما حلفاء الحزب العضويون هم وراء ذلك؟!) حتى تتخلى عن خيار دعم المقاومة. والحرب التي تُخاض اليوم على هذه البيئة من خلال ضرب القيم الأخلاقية فيها، ونشر الفوضى، وترويج المخدرات (ما علاقة الحَراك الشعبي بذلك كله؟!)، واستعمال أساليب القوة الناعمة المختلفة تهدف جميعها إلى زعزعة الثقة بخيارات وسياسات الحزب الداخلية والخارجية». إنه يصور الكلام على عدم اهتمام حزب الله بالشؤون اليومية لبيئته ولجماهير الشعب اللبناني، مؤامرة تستهدف ضرب البيئة «الحاضنة» للمقاومة. فيسعى لتخويف هذه البيئة ولشيطنة الدعوات إلى الحَراك الشعبي، لترضى وتقبل بمواقف حزب الله. هو سعي لاستنفار الشعور الديني لمواجهة ما يصوره كاستهداف للبيئة «الحاضنة».
خلاصة: يجب بقاء القديم على قدمه لأن مصلحة الناس تتمثل بما يراه حزب الله. وبما أن الحزب مرتبط تحالفياً في الداخل مع مافيات الطوائف، ومادياً بغير الساحة المحلية، فعلى هذه الساحة أن تخضع لما يراه مناسباً للساحة الإقليمية. مشاكله غير مشاكل الناس، وعلى الناس أن يقتنعوا بذلك. جميع التحركات النقابية التي شارك بها حزب الله، أُجهضت بالتشارك مع الطبقة السياسية. بكلمة: اخضعوا لأنه يعرف مصالحكم.