لا جدوى من الحديث عن الديموقراطيّة في بلادنا. هي ممنوعة بأمر صارم من الدول الغربيّة. تشهد واشنطن هذه الأيام ثورة تقودها وكالات الاستخبارات، ضد ما يُطلق عليه مصطلح «التدخّل الروسي في الانتخابات الأميركيّة» بحجّة أن تسريبات «ويكليكس» كانت بإيعاز من الحكومة الروسية، علماً بأنه ليس من دليل على ذلك، كما أن تقرير الاستخبارات الأميركيّة كان هزيلاً في حججه وخالياً من إثباتات وقرائِن. وكأن هيلاري كلينتون كانت ستفوز بالرئاسة لولا تسريبات «ويكليكس».
تاريخياً، تتدخل دول الغرب في انتخابات بلادنا، كما تتدخل في كل دول العالم. ويمول الغرب مَن يشاء، وإقصاء مَن تشاء (وحتى قتل مَن تشاء). وهي تحدّ من تدخّلات دول أخرى منافسة كي تخلو لها الساحة. أكثر مِن ذلك، فإن دول الغرب تتدخّل في توقيت إجراء الانتخابات. ونحن لدينا مثال غير بعيد، عندما فرض الغرب مجتمعاً إجراء انتخابات نيابيّة في لبنان بعد اغتيال الحريري مباشرة لقطف ثمار الحدث لصالح حلفائها، وكيف عارض الغرب تمديد ولاية الرئيس إميل لحّود لأنها معتادة على الحرص على الانتخابات الرئاسيّة في كل دول الخليج والأردن والمغرب ومصر، وغيرها من الاستبدادات المعتدلة.
الأثرياء العرب في الدول التي تجرى فيها انتخابات (صُوَريّة أو أقل صُوَريّة)، باتوا يسعون للدخول إلى عالم السياسة عبر غزو عواصم دول الغرب أوّلاً (أو الشرق عندما تكون مؤثّرة). ورفيق الحريري بدأ عمله السياسي في لبنان خارج لبنان: أي أنه مهّد لدخوله إلى السياسة عبر نسج علاقات قويّة مع الحكم السعودي ثم مع المخابرات السوريّة ومع الإدارات الأميركيّة المتعاقبة. رفيق الحريري افتتح مكتباً في واشنطن في الثمانينيات وجنّد فيه سياسيّين وديبلوماسيّين أميركيّين متقاعدين (من السناتور شارل برسي إلى ريتشارد ميرفي ــ وزوجة الأخير عملت مديرة في مؤسّسة الحريري في واشنطن). وهناك مَن يعزّز موقعه السياسي الداخلي عبر تقديم خدمات مخابراتيّة وميليشاويّة لدول الغرب، كما فعل وليد جنبلاط في سنوات الحرب الأهليّة حتى عندما كان حليفاً للاتحاد السوفياتي. وكل أثرياء لبنان لم يدخلوا عالم السياسة فيها إلا عبر بوّابة خارجيّة (الحاج حسين عويني كان نموذجاً عن الحريري في علاقاته مع السعوديّة قبل رفيق الحريري، كما كتب عنه فوّاز طرابلسي، كما أن إميل بستاني كان يسعى للرئاسة اللبنانيّة عبر شبكة علاقات عربيّة وغربيّة).
والأثرياء اللبنانيّون الآخرون، مِن أصحاب الميليارات، لا يختلفون. كان عصام فارس يتبرع للحزب الجمهوري في أميركا. وفؤاد مخزومي أنفق مئات الآلاف من الدولارات في تبرّعات (باسمه أو باسم زوجته) على الحزب المحافظ في بريطانيا، وبرز اسمُه أخيراً في فرنسا حول منح ماليّة للمرشّح فيون (سعياً للقاء بوتين، حسب الإعلام الفرنسي)، فيما بدأ الثري الآخر نعمه فرام بالتقرّب من الذراع الفكرية للوبي الإسرائيلي (أي «مؤسّسة واشنطن لدراسات الشرق الأدنى»). والتقرّب من مراكز القرار سهل عمليّاً في واشنطن.
السياسي اللبناني الكسرواني، هنري صفير، أراد أن يترشّح للرئاسة اللبنانيّة في الثمانينيات فزار واشنطن واستطاع أن يلتقي برئيس لجنة العلاقات الخارجيّة في الكونغرس عبر شركات اللوبيات العديدة. تستطيع شركات العلاقات العامّة في واشنطن أن ترتّب مقابلات مع أعضاء في الكونغرس وفي الإدارة لِمن يدفع. والمال يشتري عضويّة في مجالس علاقات خارجيّة وفي منتديات اقتصاديّة، حيث يلتقي الثري اللبناني (أو العربي) بصانعي القرار الغربيّين ورجال الإعلام. هديّة لولف بلتزر الصحافي الإسرائيلي في «سي.إن.إن» (كان اسمه زئيف باراك عندما كانت يكتب في الصحافة الإسرائيليّة) تضمن دعوة لمقابلة في «سي.إن.إن» (مَن قال إن الفساد لا يعمّ في إعلام الغرب... رفيق الحريري كان يشتري المراسلين الغربيّين كما يشتري السجّاد الفاخر). والثري يمكن أن يُدعى لعضويّة في نوادي وتجمّعات لكن بشروط صهيونيّة (فؤاد مخزومي، هو عضو مجلس إدارة «المشروع الأميركي ــ الشرق الأوسطي»، الذي يرأسه دانييل ليفي، المستشار السابق لرئيس الحكومة الإسرائيليّة).
لم يُفصح بهاء، الابن البكر لرفيق الحريري عن مقاصده السياسيّة بعد. لكن هناك دلائل عن طموحات سياسيّة له. هو أراد أن يخلف أباه في قيادة العائلة، لكن آل سعود اختاروا أخاه سعد. فشل سعد السياسي، وابتعاده عن لبنان لسنوات، بالإضافة إلى تعثّره المالي عزّز طموحات بهاء السياسيّة. هناك إشارات في الصحافة اللبنانيّة عن علاقة بينه وبين أشرف ريفي (منافس أخيه على الزعامة)، لكن دخول بهاء عالم السياسة يظهر جليّاً في العاصمة واشنطن، بعيداً عن لبنان. ففي عام ٢٠١١، دشّن «مجلس أتلانتيك» («أتلانتيك كونسِل») «مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط». والمركز يُفترض أن يعنى بشؤون الشرق الأوسط. لكن كذبة التمويل من «دون خيوط» (أي من دون شروط سياسيّة) باتت كذبة مفضوحة. اختار بهاء الحريري ميشيل دان (خبيرة شرق أوسط في إدارات أميركيّة متعاقبة، وكانت زميلتي في الجامعة في واشنطن مع أنها تخصّصت في الآداب وتجاهلت السياسة في سنوات دراستها، وكانت من القلّة في التخصّص التي لم تناصر الحق الفلسطيني) كأوّل مديرة للمركز. لكن إدارتها لم تطل: عارضت علناً انقلاب عبد الفتاح السيسي في مصر، ما دفع بهاء الحريري للاتصال بـ«المجلس» للاعتراض، وتم إقصاؤها عن المركز في عام ٢٠١٣، حسب رواية «نيويورك تايمز».
والاعتماد على تمويل مراكز الأبحاث لم يعد شأناً محصوراً بالشركات الكبرى كما في الماضي (شركات النفط وشركات صناعة السلاح كانت متخصّصة في ذلك)، بل تعدّى ذلك إلى الحكومات الأجنبيّة التي تسعى للتأثير السريع. والحكومات «الصغيرة» هي التي باتت تستسهل طريق تمويل مراكز الأبحاث بهدف الترويج المؤثّر في العاصمة واشنطن. هذا ما فعلته حكومة النروج في تمويلها لمركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة وهذا ما فعلته حكومة قطر في تمويلها لبرامج شتّى في مؤسّسة «بروكنغز» (آخر تمويل لقطر كان يفوق العشرة ملايين دولار ولصالح مركز «صابان» الإسرائيلي). ووزارة الخارجيّة القطريّة زهت في عام ٢٠١٢ بعد توقيع عقد سخي مع مؤسّسة «بروكنغز» أن المركز سيعكس الصورة الزاهية لقطر في الإعلام العالمي» (ذكرت «نيويورك تايمز» ذلك في مقالة في ٦ أيلول من عام ٢٠١٤ عن النفوذ الأجنبي في مراكز الأبحاث). كما أن الإسرائيلي ــ الأميركي، حاييم صابان (مموّل المركز الصهيوني الشرق الأوسطي في مؤسّسة بروكنز والنافذ في تمويل الحزب الديموقراطي) كان قريباً من حكومة قطر وعرض شراء محطة «الجزيرة» (كان ذلك عندما كانت المحطة مؤثّرة، وتثير اعتراضات اللوبي الإسرائيلي).

ينقل المركز في
واشنطن أولويّات اللوبي الإسرائيلي

ولقد تغيّر دور مراكز الأبحاث. كانت تلك المراكز تستضيف أكاديميّين كي يتفرّغوا لشؤون النشر الأكاديمي (نشر هشام شرابي مثلاً دراسته عن المقاومة الفلسطينيّة في مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة في أوائل السبعينيات)، كما أن ويليام كوانت أشرف في السبعينيات على دراسات عن الوطنيّة الفلسطينيّة في مؤسّسة «بروكنغز»، وكانت المؤسّسة الأولى التي اعترفت في بيان شهير في منتصف السبعينيات بالحق الفلسطيني. وكان ذلك من المحرّمات. أما «مؤسّسة الشرق الأوسط» فقد رعت دراسات متنوّعة عن شؤون الشرق الأوسط مع حرص على رعاية «مستعربي» وزارة الخارجيّة الأميركيّة. كل ذلك تغيّر. بات دور مؤسّسات الأبحاث سياسيّاً ولوبيّاً فقط، وضمن مظلّة اللوبي الإسرائيلي.
لكن هناك ما هو أبعد من ذلك في عمل مراكز الأبحاث وعلاقتها باللوبي الإسرائيلي. كان اللوبي الإسرائيلي تاريخيّاً في حالة عداء مع مراكز الأبحاث المعنيّة بشؤون الشرق الأوسط: كان ذلك بسبب أن شركات النفط والتسلّح كانت (ولا تزال) قريبة من مصالح أنظمة الخليج. الذين كانوا في تضاد مع اللوبي الإسرائيلي الذي عارض كل صفقات التسلّح الأميركيّة لصالحهم. لكن عام ١٩٩١ غيّر هذه الحسابات وقرّب بين مراكز الأبحاث القريبة من نفوذ المُستعربين (بعد القضاء عليهم من قبل النافذين الصهاينة من الحزبيْن)، وبين اللوبي الإسرائيلي. أصبحت كل مراكز الأبحاث تلك (بما فيها «مؤسّسة الشرق الأوسط») تدور في فلك اللوبي الإسرائيلي الذي يحدّد الأولويّات والأجندات والانتقادات للسياسات الجارية (وفي هذا هو ينسّق مع السفارات الخليجيّة في واشنطن، والتي أنشأت بدورها مراكز أبحاث ولوبيات خاصّة بها حتى أن السفارة السعوديّة أنشأت لوبياً قلّد اسم اللوبي الإسرائيلي الرسمي «إيباك»).
أما دكّانة بهاء الحريري في واشنطن فكان واضحاً أنه يريدها أن تكون لصيقة باللوبي الإسرائيلي من أجل زيادة حظوته الأميركيّة. فمركز رفيق الحريري (الذي كان قد قال عنه إنه سيحمل رسالة رفيق الحريري) ليس إلاّ ذراعاً للوبي الإسرائيلي وهو يتخصّص فقط في نشر الدعاية السياسيّة السعوديّة والإسرائيليّة على حدّ سواء. واللافت أن موقع اللوبي على «تويتر» ونشراته تتعاطى مع مختلف جوانب الشرق الأوسط باستثناء أي شيء على علاقة بفلسطين. هذا لا يعني أبداً أن المركز يتخذ موقفاً حياديّاً من قضيّة فلسطين. لا، هو في صف العدوّ الإسرائيلي من دون لبس من خلال التعيينات (وهي كلها صهيونيّة لا بل ليكوديّة، ومن خلال أشخاص يتداورون التنقّل برشاقة بين مختلف المراكز الإسرائيليّة الهوى). والتقرير الأخير للمجلس، بعنوان «تاسك فورس الشرق الأوسط»، كان تطبيق لأجندة لوبي إسرائيل بحذافيره، وتضمّن إشارات على «تشجيع» العدوّ الإسرائيلي، من باب حلّ الصراع العربي ــ الإسرائيلي).
وإنتاج مركز رفيق الحريري متماسك من حيث نقل أولويّات اللوبي الإسرائيلي: ١) التحريض المستمرّ على إيران و«حزب الله» والتهويل من الخطر الإيراني. ٢) نقل صورة برّاقة وناصعة للمعارضة السوريّة المسلّحة. ٣) التحريض اليومي من أجل حثّ الحكومة الأميركيّة (في عهد أوباما وفي عهد ترمب) على شن حرب مدمّرة على سوريا (طبعاً باسم القيم السامية والحريّات ومحبّة الشعب السوري الذي لا يخلد صهيوني للنوم هنا قبل الاطمئنان إلى صحته وسلامته). ٤) النطق باسم مصالح أنظمة الخليج لكن مع انحياز أكثر نحو آل سعود وآل زايد (بدأ الخلاف بين النظام القطري والنظام السعودي والإماراتي من جهة يتعاظم، خصوصاً مع اختلاف الرؤية حول الإخوان المسلمين والوضع الليبي والتحالف السعودي ـ الإسرائيلي). ٥) دعم الديموقراطيّة في الشرق الأوسط لكن فقط في تلك الدول التي لا تتماشى مع المصالح الأميركيّة. ٦) نشر قيم الرأسماليّة والمصالح الأميركيّة في المنطقة.
وتتجلّى طريقة عمل مراكز الأبحاث هذه في الكتاب الذي صدر هذا العام لجنيف عبده، وهي صحافيّة عملت في تغطية الشرق الأوسط (من دون أن تترك أثراً يُذكَر في عملها باستثناء دفق هائل من الكليشيهات الصحافيّة الغربيّة) وهي الآن «زميلة أبحاث» في مركز رفيق الحريري إيّاه. وعبده، جاهلة للتاريخ والكتابات الأكاديميّة عن المنطقة ولهذا فهي تعتمد على الصحف وعلى الكتابات «السريعة» وعلى مواقع الانترنت (بالإنكليزيّة) وعلى إصدارات مراكز الأبحاث. ومعرفتها بالإسلام ضحلة لكن ذلك لا يمنعها من إطلاق التعميمات عن الإسلام والمسلمين في كتاب «الطائفيّات الجديدة: الانتفاضات العربيّة وإعادة ولادة الانقسام السنّي—الشيعي؟» (وباتت دار نشر جامعة أوكسفورد في نيويورك تنشر كتباً تجاريّة خالية من القيمة الأكاديميّة بسبب حالة الضغط المالي الذي تعاني منه دور النشر الأكاديميّة). وتنطلق الكاتبة من زعمها أن الأمر الذي يشغل العالم العربي هو تعريف المؤمن والكافر. (ص. ١). ويبدو أن المؤلّفة لا تتابع النقاشات السياسيّة والدينيّة الدائرة إذ أنها تصرّ على أن الأمل الشاغل للجميع هو «تعريف الآخر» (ص. ٢). وتريد الكاتبة أن تخدم أجندة مموّلي «مجلس أتلانتيك» (ومركز الحريري فيه) إلى درجة أنها تقول إن العالم العربي كان يعجّ «بقوميّات من الطراز الغربي» (ص. ٤) إلى أن أتت الثورة الإيرانيّة بنموذج ثيوقراطي خرّب على المنطقة علمانيّتها (أي أن سلالات الخليج كانت تعمّم نموذج القوميّات المدنيّة الحديثة وتفصل بين الدين والدولة حتى عكّر الإيرانيّون عليهم حكمهم الفاضل). وفي الوقت الذي تصرّ فيه وسائل الإعلام الغربيّة على عدم رؤية إلا الجانب الديني من الثقافة السياسيّة في العالم العربي، فإن عبده تعتب على هذا الإعلام لأنه لا يركّز على الحركات الدينيّة بما فيه الكفاية (ص. ٦-٧). لا، وهي تزيد وتقول إن تحليلات الغرب عن الشرق الأوسط تقلّل من أهميّة الدين (ص. ٩). وتضيف عبده أن الخوف من الديموقراطيّة عند المُستبدّين هو مُبرَّر بحكم حقيقة «الخطر الشيعي» (ص. ٨)، في بلاد مثل لبنان والبحرين: هل تقترح عبده مثلاً أن يقوم حكم استبدادي طائفي موالٍ لآل سعود كي يتجنّب لبنان الخطر الشيعي؟ هذا ما توحيه. وفي تعميماتها عن آراء ومزاج الشيعة، لا تتورّع عبده عن الاستشهاد بكتاب للإسرائيلي اسحق النقّاش الذي يدرس شيعة العالم العربي من دون أن يكون قد زار الدول العربيّة، وتعتمد تعميماته عن الشيعة على ما يقول إنه «مقابلات» أجراها مع شيعة في المهاجر (وهو كتب كتاباً عن شيعة العراق من دون أن يكون قد زار العراق، على غرار خبراء العدوّ الإسرائيلي في شؤون العالم العربي الذي لا يزورون منه إلّا مصر أو لبنان أو فلسطين كجنود وضبّاط غزاة).

ضحالة معرفة جنيف عبده تجعلها بوقاً مناسباً للدعاية الحريريّة

والطريف أن عبده خصّصت فصلاً كاملاً للبنان في كتاب عن الصراع السنّي ـ الشيعي، والفصل يكاد يكون نقلاً مترجماً عما يجده القارئ في «الشراع» أو «المستقبل» أو في غيرها من أبواق آل سعود وآل الحريري. وتروي عبده قصّة عرسال نقلاً عن رواية نبيل الحلبي مؤسّس «تنسيقيّة لبنان لدعم الثورة السوريّة»، لكن عبده تصفه بأنه «محامي حقوق إنسان» (ص. ٩١). وفي تغطيتها لتفاصيل السياسة في البلدان العربيّة، تتخبّط عبده ويختلط الأمر عليها. فهي تقول إنها أجرت مقابلة مع «مؤسّس القوات المسلّحة اللبنانيّة»، أي الجيش اللبناني. لكن الجيش اللبناني تأسسّ في سنة ١٩١٦، عندما أنشأ الاستعمار الفرنسي «فرق الشرق». لنفترض أن المؤسّس كان في سن العشرين، أي أن عبده قابلت رجلاً في سن العشرين بعد المائة من عمره ــ على أقل تقدير. وفي تغطيتها للصراع في طرابلس تعتمد عبده على تأريخ المؤرّخ أحمد فتفت الذي تصفه بـ«نائب في البرلمان اللبناني»، من دون ذكر صفته السياسيّة. وتنقل عن علي فضّة، الناطق باسم الحزب العربي الديموقراطي، تصريحاً خصّها به يقول فيه إن «السنّة هم أدوات الغرب» (ص. ٩٨). وعندما قرأتُ الكتاب عند صدوره قبل بضعة أشهر، استغربتُ هذا الكلام عن لسان فضّة الذي لم ينجرّ إلى تصريحات طائفيّة من قبل، فاستوضحته على «فايسبوك» ونفى نفياً قاطعاً أن يكون قد أدلى بهذا الكلام، وأصدر بياناً بهذا الشأن. وتضيف عبده في كلام يذكّر بالخطاب الطائفي لعلماء الوهّابيّة، ومن دون أي دليل، ان كل الشيعة العرب لا يميّزون بين السنّة والوهابيّين (وهي تتهم فضّة بذلك من دون دليل أيضاً) (ص. ٩٧).
وضحالة معرفة عبده تجعلها بوقاً مناسباً للدعاية الحريريّة (مما يفسّر موقعها كـ«باحثة زميلة» في مركز رفيق الحريري للدراسات غير المعمّقة في واشنطن). فهي تروي قصّة ٧ أيّار (أي «مجازر ٧ أيّار، حسب وصف الكاتبة) وتنقل عن النائب محمد قبّاني قوله إن ٧ أيّار هي «مثل كربلاء عند السنّة» (ص. ١٠١). وتقول عبده (التي تتحدّث كأنها عضو في الأمانة العامّة المنحلّة لـ14 أيّار) أن الأحداث أثبتت دقّة توقّع أحمد فتفت (ص. ١٠١-١٠٢) الذي توقّع بأن «حزب الله» سيترك إسرائيل وشأنها وسيسيطر على لبنان بالنيابة عن إيران.
عبده عن تنامي الصراع الطائفي مشتّتّة ومشوّشة وتعكس عدم فهم عبده للمواضيع المطروحة واعتمادها الكلّي على محدّثيها في ١٤ آذار ومع الحركة السلفيّة التي تتعاطف معها في الكتاب. وهي تتحدّث عن السلفيّة كأنها فقط ردّة فعل على «حزب الله» ودوره في لبنان وسوريا، وكأن الحركة السلفيّة ليس لها جذور تسبق إنشاء نظام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران ونشوء «حزب الله» في لبنان. وتتجاهل الدعم الخليجي لمنظمّات السلفيّة في المنطقة العربيّة، خصوصاً في لبنان وسوريا. وتتحدّث عن عدنان العرعور على أنه فقط ردّة فعل عفويّة بريئة على ظاهرة «الشبّيحة» في سوريا (ص. ١٠٩). لكنها لا تُلام لأن كل ما تدلي به من آراء هو ترجمة لما يقوله لها صحافيّو ١٤ آذار (هي، مثلاً، تلوم «حزب الله» على ظاهرة أحمد الأسير بناء على ما قاله لها الصحافي في جريدة «البلد»، «علي الأمير» (لعلّها تقصد علي الأمين) (ص. ١١١). أكثر من ذلك، تردّد كذبة أحمد الأسير على أن الشيعة نشروا لعبة تهتف بشتائم طائفيّة (ص. ١١٢). لكنها تُطمئِن القرّاء بأن كل السنّة يعادون «حزب الله» وأن حالة من التململ تسود في صفوف الشيعة ضد تدخّل الحزب في سوريا (ص. ١١٤) (مصدرها هنا الصحافي في جريدة «البلد»).
ويظنّ المرء أن الكاتبة ستتطرّق — ولو بكلمة على الأقل — الأقل إلى القمع في البحرين وإلى مسؤوليّة النظام هناك عن التحريض الطائفي والمذهبي وعن قمع حركة طالبت بإصلاحات ديموقراطيّة من دون عناوين طائفيّة. وهي أفردت فصلاً عن البحرين لكنها تتعاطف مع استبداد النظام البحريني فتقول إن حالة خوف تسود بين الأنظمة من النفوذ الإيراني. وهي تقبل فكرة أن ولاء الشيعة للبحرين هو غير وطني لأن بعضهم يقلّد، دينيّاً، مراجع شيعيّة غير بحرينيّة (كأن الولاء الكاثوليكي الديني للكاثوليك العرب يجعل من ولائهم مشكوكاً). وعندما لا تجد دليلاً على اتهامات النظام البحريني ضد المعارضة، تلجأ عبده إلى الكذب، فتزعم أن خامنئي ومسؤوليّين إيرانيّين «اعترفوا» بأنهم هم وراء الانتفاضة البحرينيّة (ص. ١٢٣). وتقول عبده إن هناك خوفاً حقيقياً من أن هدف «الوفاق» هو «إقامة جمهوريّة إسلاميّة في البحرين» (مصدرها هنا هو ليس صحافي في جريدة «البلد» وإنما «ناشطة»، ص. ١٢٤). وتعترف عبده بأن لا دليل على سيطرة إيران على حركة المعارضة في البحرين، لكنها تقول إن «مسؤولين أميركيّين» أخبروها أن هناك «روابط إيرانيّة» (ص. ١٢٦). وتزعم عبده أن وسائل «المنار» و«العالم» تقول إن الصراع في المنطقة هو صراع بين طوائف. (ص. ١٢٧). وهكذا فسّرت عبده للقراء في الغرب حقيقة الصراع الطائفي ــ المذهبي في بلادنا.
لا نعرف ماذا يريد بهاء الحريري. لا نعرف ما هو مشروعه. لكن رعايته لمركز رفيق الحريري في واشنطن تؤشّر إلى طموح سياسي أكيد. والاستعانة بالغرب للدخول السلطة في الشرق ليس جديداً أبداً. إن التدخّل لدى المُستعمِر من أجل حسم صراع الأخوة وأولاد العم ليس جديداً في سلالات العالم العربي. الشيخ زايد طلب تدخّل المُستعمر البريطاني من أجل حسم الصراع ضد شخبوط، كما أن الحكم البريطاني دعم انقلاب قابوس ضد أبيه. ومحمد بن سلمان يعمل حثيثاً من أجل طلب دعم الإدارة الأميركيّة في صراع ضد ولي العهد، الذي يحظى بتقدير في واشنطن (خصوصاً من أجهزة المخابرات). ويبدو أن بهاء الحريري يستعجل وراثة أخيه سياسيّاً عبر تقديم خدمات دعائيّة للتحالف الإسرائيلي-السعودي.
مَن يدري، قد يصبح حليف اللوبي رئيساً لوزراء لبنان!
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)