تُضرَّج الطفولة بدمائها، وتتناثر أشلاؤها كل يوم، في عالم يدعي التمدن والتحضر والرقي. بالأمس ذبحت براءتها بعد حصار جائر للفوعة وكفريا في حي الراشدين، وقبل شهر واحد وفي ليلة ظلماء افتقد بدرها بمقتل عشرات الأطفال على أيدي «التحالف الأميركي الدولي» في الموصل، ومنذ أكثر من سنتين وآلة القتل السعودية تحصد آلاف الأطفال في اليمن، وقبلها في البحرين ولبنان (قانا الأولى والثانية)، أما في فلسطين فحدِّث ولا حرج، فالقائمة تطول والتعداد لا ينتهي من محمد الدرة وفارس عودة إلى ما لا نهاية.
كل ذلك والأجساد الطرية لا تجد لها ناصراً ولا معيناً في عالم «متوحش» يستقوي بجبنه على براءتها وطراوة عظمها. وحتى المنظومة الدولية التي أوجدت لحلّ النزاعات وحماية القيم بعد الحروب العالمية، أضحت بأجهزتها الحقوقية والإنسانية المختلفة وبكل أسف أسيرة للضغوطات الصهيو-أميركية ومجرد شاهد زور، بل وصلت بضحالتها وخوائها إلى أبعد من ذلك إلى حدّ «تقمّص» دور محامي الدفاع عن الجلاد القاتل بوجه الضحية البريئة.
تقتل الأطفال وتسفك دماءهم بدم بارد كل يوم من دون أن تفقه أي ذنب ارتكبت، فيما يقف العالم متفرجاً، وإن توزعت الأدوار بين غرب يحاضر بعفة الحرية والحقوق والديموقراطية، ولا يطبق من شعاراتها شيئاً، وبين دول ومجموعات إرهابية تقتل الأطفال وتمشي في جنازاتهم كأميركا والسعودية وإسرائيل و«داعش» و«جبهة النصرة»، وبين منظمات دولية رؤوسها متواطئة بالتغطية وإخفاء المعالم كي تكتمل عناصر الجريمة الكاملة وتضيع الحقيقة ولا تتحقق العدالة.

تكبر الفضيحة أكثر فأكثر أمام فظاعة الصمت الغربي المطبق

وتكبر الفضيحة أكثر فأكثر أمام فظاعة الصمت الغربي المطبق الذي يسود عقب كل جريمة إرهابية وآخرها المجزرة المهولة بحق أهالي الفوعة وكفريا الذين سالت دماؤهم وامتزجت بتراب الوطن في الراشدين. فأميركا والغرب الذين تباكوا حتى الأمس القريب على صور مزيّفة ومصطنعة في خان شيخون، وأغرقونا بدموعهم، ومشاعرهم الجياشة حتى كدنا نصدق أن قلوبهم الرقيقة لا تحتمل أن تخدش إنسانيتهم من قساوة ما يجري، وقفوا وبكل أسف متفرجين على مجزرة الإرهابيين في الراشدين برغم قساوتها.
ربما يكون الموقف الأميركي مفهوماً ومتوقعاً من دولة اعتادت قتل شعوبنا بأسلحتها كل يوم، لكن ما لا يمكن أن يُفهم هو موقف «المؤتمنين» على معشر «الأمم الملتحفة» بالخزي والتبعية والعار، الخانعة للبترودولار، وعلى رأسهم الأمين العام الجديد للأمم المتحدة انطونيو غوتيريس الذي اكتفى برغم هول وفظاعة المشهد ببضع كلمات، قيلت بالنيابة عنه ومضى، وكأن شيئاً لم يحدث، كلمات حدثنا فيها سعادته عن «عدالة دولية»، لكن أي عدالة تلك؟ بالطبع هي ليست عدالة على قياس ضحايا الفوعة وكفريا، فلم يحدث في تاريخ منظمته الدولية أن أنصفت صاحب حق. إنها «عدالة غوتيريس» الجديدة، عدالة كتلك التي دفعته قبل شهر واحد فقط إلى سحب تقرير أممي لـ«الإسكوا» يدين «إسرائيل» بتطبيق العنصرية على الشعب الفلسطيني. عدالة مثيلة لتلك التي انتهجها سلفه الكوري بان كي مون قبل عام واحد تقريباً في حزيران 2016، حينما بادر إلى سحب اسم السعودية من اللائحة السوداء للدول والمنظمات التي تقتل أطفال اليمن، هي عدالة زائفة على قياسه وقياس أسلافه وأسياده الدوليين ومصالحهم الرأسمالية الاستعمارية الكبرى التي لا تقف عند حدود إنسانية، والذين أمام بقائهم وهيمنتهم النفطية لا ضير لديهم بأن تفنى البشرية وتجرد من أحاسيسها.

سيد غوتيريس...

هل هذه هي عدالتكم المزعومة والموعودة؟ أن تكتفي بعبارات إدانة وبيانات مقتضبة أمام جريمة يندى لها جبين البشرية والإنسانية جمعاء؟
وهل أفضت برأيكم مثل هذه «العدالة» الزائفة المنتهجة لدى أسلافكم منذ سبعين عاماً سوى إلى المزيد والمزيد من القتل والمجازر بدءاً من دير ياسين وكفرقاسم وصبرا وشاتيلا وجنين، مروراً بقانا أولى وثانية... وصولاً إلى ولادة وحش «داعش» الدامي في عصرنا القاني، والذي أحال مشهد الدم والذبح مشهداً مألوفاً خدمة لطغاة الحروب وأجندات وسياسات القادة والملوك؟!.

سيد غوتيريس...

لست أدري إن كانت مشاهد الطفولة البريئة وأشلائها المتناثرة في كل مكان لم تحرك فيكم ساكناً، فما الذي يحرككم؟، ولست أدري إن كانت مشاعركم لم تتحرك أمام مشهد تنفطر له قلوب الإنسانية جمعاء، فما الذي سيحرك ضمائركم؟! ولست أدري كيف أن من لم يحاكم الإجرام اللاحق بفلسطين واليمن منذ عشرات السنين كيف سيقنعنا أنه استيقظ من سباته شاهراً سيف عدالته بوجه «دواعش» فالتة من عقالها؟!، ولست أدري كيف أن من يستمع لكلام وزير الحرب الصهيوني وهو يدعو إلى ترك آلاف الأسرى عرضة للموت الجماعي جوعاً داخل الأسر ولا ينطق بكلمة كيف ينام على فراش من حرير ويحاضر بـ«عفة العدالة» في الأساس؟
إزاء ما تقدم، وأمام هذا الكم الهائل من القتل والذبح، ربما باتت منظومة القيم الغربية في نظرنا ونظر الكثيرين مجرد شعارات خاوية، ولم تعد كل «الهرطقات» القانونية والاجتهادات «الهمايونية» والمطالبات والدعوات «الخنفشارية» بالعدالة والمحاكمة الدولية تجدي نفعاً. لقد باتت إنسانية كل واحد فينا، وضمير كل منا على المحك، فعدالة اليوم لم تعد تقضي بأن ننتظر أحكاماً منزلة من سلاطين جائرة، ولا محاكم مسيسة مسلطة لمآرب وغايات. إنسانيتنا تدفعنا اليوم لنكون وليكون كل واحد فينا، كل من يجري في عروقه دم كل من يحركه حس آدمي، كل من يؤمن بأخلاق وقيم، كل من لديه لهفة وإنسانية، أن نكون نحن الحكم والحُكم، وبصحوة ضمير واحدة، فإما نحن بشر وإما فقدنا أحاسيسنا وعقولنا... واسمحوا لي حينها التساؤل: ما الفرق بيننا وبين البهائم.. معاذ الله؟!
* صحافي لبناني