لقد شكلت الدورة الأولى من الرئاسيات الفرنسية، بنتائجها المباشرة، ومترتباتها غير المباشرة، محطة تاريخية في سجل الجمهورية الفرنسية، وفي ذاكرة الفرنسيين، وأحدثت صدمة، ربما كانت «متوقعة»، للعديد من المراقبين والمحللين السياسيين، الفرنسيين والأجانب.
فثمة من وصفها بالكارثة الوطنية؛ وثمة من افترض أنها عقاب تاريخي؛ وجاء من يقول إنها تعكس أزمة سياسية، تتخبط فيها النخب السياسية الفرنسية، لا سيما الطبقة السياسية التقليدية، في هذا البلد الصناعي الكبير، وفي هذه الدولة الديموقراطية العريقة. ربما قد يبدو للبعض أنه من الأفضل الانتظار بعض الشيء، وهو ليس بالوقت الطويل، أو الأمر الصعب، لحين اكتمال المشهدين الانتخابي والسياسي في فرنسا، بصورتهما المستجدة، مع إنجاز هذه الانتخابات الرئاسية في دورتها الثانية. إلا أنه يبقى من المفيد إجراء تقييم سريع وأولي، غير متسرع وغير متحيّز، لما أسفرت عنه الدورة الأولى من العملية الانتخابية من تداعيات، قد تبدو ثقيلة ومدوية، وتعكس الواقع السياسي والشعبي في فرنسا، بحيث أنه من الضروري تناولها بكل صراحة وواقعية سياسية.
من الواضح أن صعود التيارات أو الخيارات المتطرفة والراديكالية، بطريقة لافتة، في السياسة الفرنسية المعاصرة، إن من ناحية اليمين، أو حتى من جهة اليسار، على حد سواء، كما في السياسة الدولية الراهنة، في هذه اللحظة السياسية والتاريخية، وفي الساحتين الأميركية والأوروبية من «الكتلة الغربية»، بات أمراً ملموساً، وحقيقة جلية وبينة، إذ لا لبس فيها، ولا نقاش أو جدال حولها. فقد تمكنت مرشحة اليمين الفرنسي المتطرف، وهي زعيمة الجبهة الوطنية، مارين لوبن، من تسجيل تقدم ملحوظ والفوز في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وبالتالي التأهل للدورة الثانية منها؛ وكذلك الأمر نفسه بالنسبة إلى مرشح أقصى اليسار الفرنسي، أو اليسار الراديكالي، جان لوك ميلانشون، وإن كان قد خسر، من الدورة الأولى، وذلك بالمقارنة مع نتائج الانتخابات الفرنسية السابقة. وهو معطى مستجد، يبدو في غاية الأهمية السياسية، ولا بد من الوقوف عنده والتنبه له، حيث يفرض نفسه على العملية السياسية في فرنسا، وكذلك يلقي بثقله على الحياة السياسية في الغرب بكامله، وإن لم، وربما أيضاً لن، يتمكن أي من هذين المرشحين للرئاسة الفرنسية، بما في ذلك مرشحة اليمين المتطرف، التي فازت للتو في الدورة الأولى، وهي الفرضية الغالبة، على ما يبدو، حتى حينه، من دخول قصر الإليزيه، وذلك لعوامل واعتبارات وحسابات سياسية وانتخابية عديدة.
كما تجدر الإشارة في هذا المضمار، إلى ظاهرة أو حالة سياسية في غاية الأهمية والخطورة أيضاً، ولكنها تعكس اتجاهاً متنامياً، وربما فاقعاً في بعض المناسبات، ألا وهي ظاهرة تفشي الخطاب السياسي الشعبوي في فرنسا، كما في كل أوروبا، وكذلك في أميركا؛ وهي تعبّر بالتأكيد عن نمو، أو لنقل تنامي، ذلك أنه ليس نموّاً عشوائيّاً البتة، حالة سياسية معينة، قوامها ظهور وصعود ذلك النموذج أو النمط من الخطاب السياسي، لدى بعض النخب أو الأوساط السياسية والفكرية والمثقفة، الذي يعمد إلى مجاراة بعض الاتجاهات أو الأفكار الشعبية، أو بالأحرى الشعبوية، وربما استثارة الميول الغرائزية التي تجسدها وتعبّر عنها، الأمر الذي يشكّل تحدياً صارخاً لفكرة الدولة في الغرب، ومنطقها ومؤسساتها القائمة، وسياساتها المعتمدة، في طور العولمة، وفي حقبة ما بعد الحداثة، وذلك في مواجهة بعض إفرازاتهما ومترتباتهما على صعيد السياسة الدولية، وخصوصاً في ما يتصل بالأصوليات والراديكاليات والعصبيات الفئوية.

قد تؤسس هذه الانتخابات
الرئاسية الفرنسية لمرحلة
سياسية وتاريخية جديدة

كذلك، لا بد من التوقف مليّاً عند حقيقة مستجدة وطارئة في الحياة السياسية الفرنسية، الحديثة والمعاصرة، وقد برزت في أعقاب الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية مباشرة، وعلى ضوء النتائج التي قد تمخضت عنها، في إشارة إلى التراجع والفشل المزدوجين لليمين واليسار الفرنسيين معاً، ولا سيما الحزبين السياسيين الأساسيين. وهما الحزبان اللذان لعبا تاريخيّاً دوراً سياسيّاً وازناً، بل محوريّاً، في العملية السياسية، وخصوصاً في ظل الجمهورية الفرنسية الخامسة؛ والمقصود طبعاً كل من الجمهوريين والاشتراكيين، أو الحزب الاشتراكي. وهو تغير في المناخ أو المزاج السياسي، وربما في الميزان السياسي حتى، لا يمكن أبداً المرور عليه على عجالة، من دون التأمل بما قد حصل أو طرأ، بطريقة مشهدية، لم تعتد الحياة السياسية الفرنسية عليه، ولم تشهد مثله من قبل، الأمر الذي يطرح العديد من التساؤلات حول مستقبل الحياة السياسية الفرنسية وأفقها المرتقب، ومن ضمنهما مسار أو مجرى العملية السياسية، وكذلك صورة وطبيعة التموضعات والتحالفات والاصطفافات السياسية والانتخابية، وربما أيضاً مستقبل الجمهورية الفرنسية نفسه، وواقعها الداخلي ومكانتها الخارجية، الأوروبية بالدرجة الأولى، ومن ثم العالمية بالدرجة الثانية.
وتبقى الإحاطة بمسألة أخيرة في إطار هذه القراءة السريعة، لما أفرزته وتمخضت عنه هذه الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وهي الانتصار الأكيد والكبير، وحتى الحاسم، لإرادة اللوبيات والجماعات الضاغطة وجماعات المصالح في هذه العملية الانتخابية، وعبره، هيمنتها على كل العملية السياسية في فرنسا، وعلى مجمل الحياة السياسية الفرنسية، وربما على مراكز أخرى، للقرار السياسي في الغرب، في أوروبا وفي أميركا، وللنفوذ الدولي أيضاً. وهذا ما لا يمكن إنكاره، وهو ليس بالأمر الجديد، ذلك أن هذه العوامل أو المجموعات النشطة والفاعلة والمؤثرة شكلت باستمرار عناصر مهمة، بل بالغة الأهمية، في السياستين الدولية والغربية، وفي عملية صنع القرار في الأوساط والكواليس والمحافل الأممية أو العالمية، ومنها الفرنسية، بطبيعة الحال، والإنكليزية والأميركية. ولكنها، أي هذه اللوبيات والقوى الضاغطة وجماعات أصحاب المصالح، تبدو هذه المرة، مصرة على تأمين ظروف ومستلزمات استمرار تلك الهيمنة المطبقة على الغرب، والعالم بأسره، ومراكز ومواقع القرار والنفوذ فيهما، واللجوء إلى استخدام كل الخيارات والأساليب والأدوات الممكنة أو المتاحة، ومستعدة لذلك.
مما لا شك فيه أن لهذه الانتخابات الرئاسية في الجمهورية الفرنسية الخامسة نكهة خاصة وفريدة، قد لا تشبه ما سبقها، وقد تؤسس لمرحلة سياسية وتاريخية جديدة، ربما تكون مختلفة، أو تؤسس حتى لجمهورية جديدة، أي الجمهورية الفرنسية السادسة، المفترضة أو المزمعة. فما أوردناه من ملاحظات وخلاصات في إطار هذه المقاربة للرئاسيات الفرنسية، وكذلك التحليل الذي تقدم لما قد تعنيه أو تعكسه، والتوصيف المنطقي والحقيقي للواقع السياسي على ضوء المعطى الانتخابي، يشير إلى خصوصية هذه الانتخابات، والإرباك أو الاضطراب في كل المشهد السياسي، كما الحيرة لدى الرأي العام الفرنسي، بين عقلانية متراجعة، وشعوبية متقدمة، وبين يمين ويسار متخاذلين، أو منهزمين، ومنقسمين، ووسط صاعد بسرعة قصوى، وبوتيرة غير منظمة، وكذلك عملية القطع مع كل المؤسسة السياسية التقليدية، وخطابها السياسي الكلاسيكي، سواء كان ذلك بالنسبة إلى مرشحة اليمين المتطرف، أو بالنسبة إلى مرشح الوسط الذي كان تموضعه وصعوده السياسيان في وقت قياسي!
* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية