أنتمي إلى جيل شكّلت جريدة «ليبراسيون» الفرنسية إحدى مناهل وعيه الفكري والسياسي. فمن معطف هذه الصحيفة العريقة التي أسّسها جان بول سارتر عام 1973، كمنبر لليسار الراديكالي، تخرّجت أجيال متتالية من الكُتّاب والباحثين والمثقفين المغاربيين الطليعيين. أسوة بأنموذج «المثقف العضوي»، الذي ابتدعته الثورة الفرنسية (1789)، والذي تجدّد وهجه في خضم الفورة الاجتماعية التي أعقبت انتفاضة الطلبة الباريسية، في مايو/ أيار 1968، انتقلت العدوى إلى الضفة الأخرى للمتوسط، من خلال كوكبة من المثقفين الفاعلين الذين طرحوا عباءة النخبوية، ونزلوا من علياء برجعاجية «المثقف التقليدي»، لينخرطوا في نضالات شعوبهم، على مختلف الصُعد، السياسية والاجتماعية والنقابية.
ظلت «ليبراسيون» أيقونة للفكر الطليعي المنتصر لحقوق المسحوقين والمهمشين والمستضعفين في الأرض، بالرغم من أنها واجهت أزمات وهزات متتالية. فبعد عام واحد من إطلاقها، صفق جان بول ساتر وجان كلود فيرنييه الباب، على إثر خلافات داخلية. ليخلو المجال بعد ذلك إلى سيرج جولي، الذي سيتربع على عرش إدارة الجريدة طوال ثلث قرن.

تحت إدارة جولي، بدأت «ليبراسيون» تنزلق تدريجاً نحو براثن الليبرالية. وهي التي كانت تحمل في بداياتها شعار «أيها الشعب: خذ الكلمة واحتفظ بها»، رافضة أيّ إعلانات مدفوعة، من منطلق أن «لا استقلالية سياسية وتحريرية من دون استقلالية مالية كاملة». في تشرين الأول 1978، اختارت «ليبي»، كما يختصر الباريسيون اسمها تحّبباً، أن تشهر قطيعتها مع اليسار الراديكالي بأكثر الأساليب فجاجة. صباح الثامن عشر من ذلك الشهر، في الوقت الذي ضجّت فيه الأوساط اليسارية العالمية بخبر تصفية القادة التاريخيين لفصائل الجيش الأحمر الألماني (بادر/ إنسلن/ راسب/ مولر)، الذين قُتلوا في السجن، في ظروف مريبة، وزعمت السلطات الفيدرالية الألمانية أنهم قضوا منتحرين، تصّدر غلاف «ليبراسيون» عنوان غريب: «حرب الوحوش»!
تناست صحيفة «شعب اليسار» بشاعة «جريمة الدولة» التي اقترفتها السلطات الألمانية، ملقية باللوم على الجيل الثاني من «وحوش» الجيش الأحمر، الذين كانوا قد دبّروا آنذاك سلسلة طويلة من العمليات المسلحة الهادفة إلى تحرير زعمائهم الأربعة من المعتقل، ما دفع الحكومة إلى تدبير جريمة تصفية هؤلاء في السجن بهدف وضع حدّ لـ«العنف»!
انتكست شعبية «ليبراسيون» تدريجياً، وانفضّ عنها الملايين من قرائها التاريخيين، الذين كانوا يتلقفّون أعدادها، كل صباح، في مختلف ربوع العالم الفرنكوفوني. إلى أن آل بها الأمر إلى الكفّ عن الصدور في شباط 1981. ولم تعاود الظهور سوى في الثالث عشر من مايو الموالي، بعد 3 أيام من فوز ميتران بالرئاسة، إذ أعاد ذلك النصر التاريخي لـ«شعب اليسار» في فرنسا عنفوانه المفقود. وعادت «ليبراسيون» لتلعب دورها الطليعي بوصفها «صوت من لا صوت لهم».
لاحقاً، حين استقرّ بي الحال في باريس، خلال ربيع عام 1992 - في منفى شبه اختياري، كان مزمعاً ألا يدوم أكثر من شهرين، فإذا به يستمر منذ ربع قرن، وما يزال... - باتت قراءة «ليبراسيون»، مع قهوة الصباح، طقساً يومياً يندر أن أفرّط فيه. لم تنقطع تلك الصلة الوجدانية التي ظلت تربطني، على مرّ السنين، بصحيفة «شعب اليسار»، على الرغم من جرحين قاسيين، أحدهما شخصي والآخر فكري.
أما الشخصي، فقد أفضى بي إلى رفع دعوى قضائية، في باريس، ضد مدير «ليبراسيون» سيرج جولي، ومحرّرة الشؤون المغاربية فيها، جوزي غارسون، في أبريل/ نيسان 2001. كانت غارسون من أنصار ما اشتهر آنذاك بنظرية «مَن يقتلُ مَن في الجزائر؟». ما جعلها تزجّ بـ«ليبراسيون» نحو منزلق مكارثي يرى في كل من ينتقد الجماعات الإسلامية المسلحة الجزائرية أو يشجب جرائمها التي خلّفت مئتي ألف قتيل، خلال سنوات الاقتتال الأهلي، عميلاً لـ«نظام الجنرالات» الجزائري، الذي انقلب على «الشرعية الشعبية» في يناير/ كانون الثاني 1992.
وصادف أن تزامن نشر حوار أجريتُه مع «الإرهابي التائب» عمر شيخي، أحد مؤسّسي «الجماعة الإسلامية المسلحة» الجزائرية، مع صدور كتاب «الحرب القذرة» للملازم المنشق حبيب سوايدية. وإذا بجوزي غارسون ترى في الجدل الذي أثاره حواري مع شيخي في فرنسا، بالرغم من أنه صدر باللغة العربية في لندن، مؤامرة مدبرة من قبل «جنرالات الجزائر» للتشويش على ما كشفه كتاب سوايدية بخصوص اقتراف أجهزة الأمن الجزائرية تصفيات وجرائم حرب خلال سنوات «الحرب ضد الإرهاب» في التسعينيات.
لم يتضمن حواري مع شيخي أي شيء من شأنه تبييض صفحة النظام العسكري الجزائري. ولم تكن وسائل الإعلام الفرنسية لتهتمّ بترجمته ونقله لولا ما جاء فيه من معلومات لم تكن معروفة من قبل حول عملية اختطاف طائرة الإيرباص الفرنسية من قبل «الجماعة المسلحة» الجزائرية، في ديسمبر/ كانون الأول 1994. فقد كشف شيخي، لأول مرة، في ذلك الحوار، أن الهدف كان استخدام الإيرباص المختطفة كـ«قنبلة طائرة» لتحطيم برج إيفل. معلومات أكدها لاحقاً وزير الداخلية الفرنسي شارل باسكوا، معترفاً بعد هجمات 11 أيلول 2001، أنه أمر بعدم السماح للإيرباص المختطفة بأن تقلع مجدداً من مطار مارسيليا، لأنه كان يعرف أن الخاطفين كانوا يعتزمون الارتطام بها على البرج الباريسي الشهير.
لم تمر مقالة جوزي غارسون التي وصمتني بالعمالة للاستخبارات الجزائرية بشكل عابر، بل نقل عنها أغلب دعاة نظرية «من يقتل من؟» في الصحف الفرنسية والجزائرية. وفي مقدمة هؤلاء محرّر الشؤون المغاربية في «لوموند» آنذاك، جان بيار توكوا، الذي ذكرني بالاسم، فيما اكتفى آخرون بالإشارة إلى الحوار بوصفه مناورة حيكت بإشراف «الذراع الإعلامية» لنظام الجنرالات الجزائري.
كتبتُ رسالتين إلى «ليبراسيون» و«لوموند» شارحاً أنني لو كنتُ قد باركتُ الديموقراطية المحمولة على ظهور الدبابات، بعد الانقلاب العسكري الجزائري، في يناير 1992، لكنتُ ما أزال أنعم بشمس بلادي بدلاً من العيش في صقيع باريس. ولفتُّ إلى أنه من المُنافي للأخلاقيات الصحفية، التي نص عليها «ميثاق ميونيخ»، اتهام زميل بالتواطؤ في التستر على تصفيات ترقى إلى مصاف جرائم الحرب، من دون سماع رأيه أو منحه حق الرد.
تجاوبت «لوموند» وصحّحت الأمور في مقالة حملت توقيع موفدتها إلى الجزائر فلورانس بوجيه. أما «ليبراسيون» فقد رفضت منحي حق الرد. وبلغني أن سيرج جولي قال ساخراً خلال اجتماع التحرير: من هذا «الجزائري الصغير» الذي يريد أن يعلّمنا أخلاقيات المهنة!؟ فما كان مني إلّا أن لجأتُ إلى القضاء، لأثبت للسيد جولي بأن دولة القانون الفرنسية (على علاتها) تكفل، بالفعل، لـ«صحفي صغير» مثلي أن يجبر مدير صحيفة كبرى كـ«ليبراسيون» على احترام أخلاقيات المهنة.
ظلت جوزي غارسون بعد ذلك، طوال سنين، تستعيذ بالفتاح العليم كلما ذُكر اسمي أمامها، وترّدد بحرقة: لا، لا، لا أستطيع أن أصّدق بأنه استطاع، لوحده، أن يرفع علينا دعوى ويجلبنا إلى المحكمة!
بالرغم من كل ذلك، لم تنقطع صلتي الوجدانية بـ«ليبراسيون». فقد كان يغتفر لها على الدوام حفاظها على قدر كبير من النزاهة في الموقف من نضالات شعوب العالم الثالث وقضاياها العادلة. وهو أمر لا يُستهان به، في الوقت الذي أُصيبت فيه غالبية الأقلام اليسارية في الغرب بلوثة «الرجعية الجديدة».
للأسباب ذاتها اغتفرتُ لـ«ليبراسيون»، على غرار كثيرين، ذلك الجرح الغائر الذي سبَّبه لمحبّي صحيفة «شعب اليسار» قرار سيرج جولي، في يناير 2005، بيع أغلبية أسهمها إلى مجموعة «روتشيلد». جولي، الذي انسلخ عن خلفيته الماوية، وبات يعرّف نفسه «ليبرالياً تحرّرياً»، كان قد ضحّى، منذ 1994، بذلك النموذج الفريد الذي أسّست له «ليبراسيون» بوصفها «صحيفة تعود ملكيتها الكاملة لمحرّريها»، إذ سمح بأن تدخل في رأسمالها مجموعة Chargeurs، التي يمتلكها رجل الأعمال جيروم سيدو، والتي كانت تضم أيضاً إستوديوهات «باتيه» السينمائية والقناة التلفزيونية الخامسة الفرنسية التي أفلست لاحقاً. مما مهّد لاستيلاء روتشليد، فيما بعد، على صحيفة «شعب اليسار»، عبر شراء أسهمها التي كانت تملتكها مجموعة سيدو، ومفاوضة جولي على باقي رأسمال الجريدة.
بذلك أدخل سيرج جولي غول الليبرالية المتوحشة إلى آخر قلاع الإعلام اليساري في موطن فيكتور هوغو. غول لم يلبث أن افترس الكوادر التاريخية لـ«ليبراسيون»، واحداً تلو الآخر، وصولاً إلى جولي نفسه، الذي طرده إدوارد روتشيلد من الجريدة في يونيو/ حزيران 2006، بعد أن كان قد جرّده من كل صلاحياته. وحين أكملت مهمتها التدميرية، غادرت مجموعة روتشيلد رأسمال «ليبراسيون»، عام 2014، تاركة إياها على حافة الإفلاس...

بدأت «ليبراسيون» تنزلق تدريجاً نحو براثن الليبرالية تحت إدارة جولي

لكن، بالرغم من تلك السنوات الطويلة من التخبط والتيه، لم تلبث «ليبراسيون» أن تعافت واستعادت عنفوانها. وخاصة بعد تولي لوران جوفران إدارتها، قادماً من «نوفيل أوبسيرفاتير». وعادت لتتصّدى لشطحات الساركوزية ثم لمطبات «اليسار الرخو»، الذي شرّع الأبواب أمام صعود اليمين المتطرف، في عهد هولاند.
ظللتُ، في ما يخصّني، وفياً لذلك الطقس الصباحي، الذي لم يسقط بالتقادم. حريصاً على قراءة «ليبراسيون»، بالرغم من كل ما سبق ذكره من زلّات وعثرات مخيّبة. ولم أكن أتصوّر، حتى في أقسى فترات نقمتي عليها، أن يأتي اليوم الذي تفجعنا فيه صحيفة «شعب اليسار» بسقطة مميتة كتلك التي اقترفتها من خلال الغلاف الفجّ الذي خصّصته لجريمة خان شيخون، في عددها الصادر بتاريخ 6 نيسان الجاري.
لم تندرج صورة الأطفال، ضحايا جريمة الكيميائي، التي وضعتها «ليبراسيون» على غلافها، ضمن خانة الاستعراض البورنوغرافي المخلّ بكرامة الضحايا، فحسب. بل أضافت الصحيفة إلى تلك الفجاجة جُرماً إضافياً تجسّد في مسرَحَة العنف والموت ضمن صنف غريب وصادم من «الكولاج» الأشبه بالبرفورمنس الدموي الشنيع.
بالفعل، لم تكن صورة الغلاف تلك مجرد واحدة من الصور المروّعة، التي اضطررنا لمشاهدة الكثير منها على شاشات القنوات التلفزيونية وصفحات الجرائد: صور تنقطّع لها نياط القلب، لأطفال يشهقون ويحتضرون ببطء، بفعل الغازات القاتلة. لم تختر «ليبراسيون» واحدة من الصور الحيّة التي التُقطت بشكل آني، على أرض الجريمة. فضّلت صورة مثيرة للجدل، تحمل توقيع «مركز إدلب الإعلامي». صورة أضافت إلى شناعة الموت بشاعة التمثيل بالجثث. فقد تم تكويم جثث الأطفال القتلى فوق بعضها، في وضعيات تم ترتيبها بدقة، للمضاعفة من وقع الصدمة والإمعان في إبراز بشاعة الجريمة: أطفال تمت تعريتهم وتكديسهم فوق بعضهم بعناية، بحيث تتقاطع أجسادهم المعرّاة، وتتداخل أطرافهم النحيفة المتيبّسة من أثر التسميم، فيما أفواههم فاغرة وأعينهم مشرعة على بشاعة العالم. وفي أعلى الصورة، على اليمين، جثة طفل في وضعية مبرزة يبدو كمن يرفع يديه إلى السماء بصيغة السؤال أو الاستنكار.
كيف أمكن لهذه الصورة/ الجريمة التي أضافت إلى وحشية المذبحة الأصلية جُرماً لا يقلّ فجاجة، عبر تعرية وتكديس جثث الضحايا، عمداً، بهدف إعادة إخراج الجريمة ومسرَحَتها، أن تسلّل إلى غلاف صحيفة من مصاف «ليبراسيون»؟ سؤال ما يزال يؤرقني، منذ اللحظة السّادية التي اكتشفتُ فيها ذلك الغلاف اللعين. حتى السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة نيكي هالي، لم تجرؤ، خلال مرافعتها أمام مجلس الأمن، على إشهار تلك الصورة كاملة، بل اجتزأت منها قسمها العلوي الأيمن، الذي لا يظهر فيه سوى ذلك الطفل القتيل الذي يرفع يديه إلى السماء. مستغنية بذلك عن باقي فصول الصورة المُمسرَحة!
لكنني، قبل أن أسترسل، أودّ أن أوضح هنا، تفادياً لأي لبس، بأنني لا أريد أن أعطي الانطباع، ولو عن غير قصد، بأنني أفعل كما فعلت «ليبراسيون» غداة تصفية قادة الجيش الأحمر الألماني. ففي خضم «حرب الوحوش» الدائرة رحاها في سوريا، ليس الهدف من تسليط الضوء على الجُرم الأخلاقي الذي اقترفته «ليبراسيون» (والمركز الدعائي الذي زوّدها بتلك الصورة اللاإنسانية) تناسي جريمة خان شيخون الأصلية أو الانتقاص من بشاعتها.
مذبحة خان شيخون جريمة بحق الإنسانية. ومن العار على البشرية أن تمرّ جرائم حرب، بمثل هذه البشاعة، من دون قصاص. وأياً كان من اقترفوها، سواء من النظام أو من المعارضة المسلحة، فإن من حق الشعب السوري ألا يفلت الجُناة من العقاب.
صحيح أنني لا أؤمن بأن صواريخ ترامب الـ«توماهوك» تمتلك شرعية القصاص لضحايا خان شيخون. لكنني أترفع عن الانسياق وراء التحاليل الباردة التي تتوخى التجرّد والموضوعية المزعومين، سعياً لرصد خلفيات الجريمة وسياقها السياسي، أملاً بتحديد هوية مقتفريها من منطلق التحليل الجنائي المنطقي: ما هي الدوافع المُحتملة للجريمة؟ ومن المستفيد منها؟
تحليل كهذا يجرنا، حتماً، إلى تبرير ما لا يمكن (ولا يجب) تبريره إنسانياً ولا أخلاقياً ولا سياسياً. إذا كان النظام السوري هو من ارتكب هذه المذبحة، كما تعتقد غالبية الدول الغربية، فلا شيء يبرّر تغاضي هذه الدول، التي تزعم أنها حامية القيم الإنسانية، عن الجرم الشنيع الذي ارتكبته الماكينة الدعائية للمعارضة المسلحة السورية، من خلال التلاعب بجثث الضحايا والتمثيل بها، بشكل يخلّ بحُرمتها وكرامتها الإنسانية.
في المقابل، حتى لو ثبت أن النظام السوري لا يد له في الجريمة، وأن جهة ما في المعارضة المسلحة (وهناك بالفعل جهات لا جهة مستعدة للعب أدوار قذرة كهذه) هي التي اقترفت المذبحة البشعة بهدف التأليب ضد النظام، وجرّ ترامب إلى ردة فعله البافلوفية الهوجاء، ستظل الصور المروعة لهؤلاء الأطفال، وهم يحتضرون ببطء، تؤرق ضمائرنا، وتدفعنا للتساؤل: كيف لحاكم، أيّاً كان الحاكم، حتى لو لم تكن له يد، مباشرة أو غير مباشرة، في جريمة كهذه، أن يجلس متوازناً على كرسي سلطته، أو يستلقي مرتاح البال على سرير ضميره ومبادئه، بعد أن شاهد، مثلنا جميعاً، أطفال بلاده يُقتَلون ويُمثَّل بجثثهم بكل تلك الهمجية؟
حديث التمثيل بالجثث يعيدنا إلى موضوع «ليبراسيون» وغلافها الشنيع، وإلى تلك الصورة التي استعارتها الصحيفة الفرنسية العريقة من إحدى الأذرع الإعلامية للمعارضة المسلحة السورية (مركز إدلب الإعلامي)، أي من جهة غير موثوق بحياديتها في «تغطية» حدث كجريمة خان شيخون (ماذا كان سيحدث لو وثّقت صحيفة غربية كبرى لحدث مماثل بصور صادرة عن «الإعلام الحربي» السوري، مثلاً؟). ليس الأمر هنا مجرد خطأ أو سوء تقدير مهني. إنه جُرم مزدوج بحق القيم الإنسانية وبحق الأخلاقيات الصحفية.
أما الجُرم الأخلاقي، فإنه لا يتقصر على «ليبراسيون» لوحدها. إنه ينسحب، بصورة أعم، على البورنوغرافيا الدموية التي يتلذّذ بها الإعلام الغربي، حين يتعلق الأمر بضحايا من خارج «العالم الحر» المحمي بالمواثيق والقوانين الحافظة للكرامة الإنسانية.
خلال هجمات باريس، في 13 تشرين الثاني 2015، أردى قتلة «داعش» مئة وثلاثين ضحية بريئة، بإطلاق الرصاص عشوائياً على واجهات المقاهي والمطاعم. وفي قاعة الحفلات «باتاكلان»، لوحدها، ارتكب المتطرفون مجزرة دموية راح ضحيتها 90 شخصاً. ولم تظهر صورة ضحية واحدة منها في أي من الصحف الغربية. وفي نيس وبرلين ولندن واستوكهولم، دعست «شاحنات الموت» عشرات الأبرياء، في مجازر بشعة يندى لها الجبين. ولم تظهر صورة جثة ضحية واحدة، في وضع مخلّ بالكرامة الإنسانية، في أي وسيلة إعلام. فالتشريعات الغربية تجرّم التشهير بالجثث وانتهاك حرمة الموتى. والإعلام الغربي يلتزم بهذه الضوابط أشد الالتزام، حين يتعلق الأمر بضحايا من «العالم المتحضر». أما إذا ضرب العنف بقية شعوب العالم، فلا ضوابط تمنع هذا الإعلام ذاته من الإمعان في الاستعراض البورنوغرافي الأكثر فجاجة، ما دامت صور الجثث والأشلاء تعزّز أكذوبة تفوق «الرجل الأبيض صاحب القلب الأسود»، وتروّج لدوره الحضاري المزعوم في «تحرير» باقي البشرية من الهمجية والتخلف.
وأما الجُرم الذي ارتكبته «ليبراسيون» بحق الأخلاقيات الصحفية، فيكمن في منح المصداقية لـ«نشطاء إعلاميين» (هل لاحظتم المفارقة السيميائية الفاقعة التي يتضمنها هذا المصطلح؟) يزوّدون وسائل الإعلام بصور ومواد دعائية آتية من مناطق النزاع التي لا يُسمح لمراسلي الحروب المحترفين بولوجها للتحري والتحقيق والتثبت من دقة الوقائع وصحة المعلومات. ما يجعل المادة الإعلامية رهينة البروباغندا، ويشرّع الأبواب أمام التلفيقات والأكاذيب التي باتت تسمى «حقائق بديلة»، وفقاً للمصطلح الترامبي الشهير.
لا شك أن كل هذه الإشكاليات المهنية والأخلاقية لم تمر دون إثارة الجدل في هيئة تحرير صحيفة من مصاف «ليبراسيون». جدل رشح بعضه في افتتاحية نُشرت في اليوم التالي (7 أبريل)، وحملت توقيع أحد مدراء تحرير «ليبراسيون»، جوهان هوفناجل، بعنوان: «قصة هذا الغلاف الذي يجعلنا نحسّ بالعار».
هوفناجل، وهو من أكثر الأقلام التي أحبُّ وأقدّر في «ليبراسيون»، طرح من الأسئلة أكثر مما قدّم من إجابات. لم يعتذر صراحة عما حدث، لكنه لم يسع لتبريره. استعرض من الداخل كيف تمت صناعة «ذلك الغلاف الذي أرعبني، وتسبّب في كوابيس لأكثر من زميل»، كما قال. ثم واجه، بشجاعة أدبية جديرة بالاحترام، الإشكالية الأخلاقية القاسية التي يثيرها غلاف كهذا. طارحاً السؤال، دون مواربة: ما فعلناه بصور الأطفال السوريين، هل كنّا سنفعله لو تعلّق الأمر بأطفال فرنسيين؟
لكنني، بالرغم من هذه المكاشفة الجديرة بالتقدير، ما أزال منذ أكثر من أسبوعين، عاجزاً (بالمعنى الحرفي لا المجازي) عن قراءة جريدتي الأثيرة. صرتُ أخشى، لو تصفّحتها، أن تتلوّث يداي ببقايا دماء أطفال خان شيخون!
*كاتب وصحافي جزائري مقيم في باريس